خلال السبعينيات، شهد العراق نهضة صناعية، تجسدت في بناء العديد من المصانع الحكومية، من بينها مصانع الأسمدة الكيماوية والورق والبتروكيماويات والحديد والصلب في محافظة البصرة المطلة على الخليج. وكانت هذه المصانع الأحدث والأكبر من نوعها على مستوى المنطقة، لكن معظمها اليوم معطل، وينخر الصدأ آلاتها، ويكسوها غبار الإهمال، وتبدو محاولات تأهيلها بطيئة ومتعثرة في ظل انصراف الاهتمام الحكومي عنها على مدى 18 عاماً، على الرغم من أهميتها في تأسيس قاعدةٍ صناعية تكسر نمطية الاقتصاد الريعي المُعتمد بشكلٍ شبه حصري على الثروة النفطية.
مصنع الورق
مصنع الورق هو أحد أهم المصانع الحكومية الكبرى في البصرة، ويعود تأسيسه إلى عام 1970، ويتكون من خمسة خطوط إنتاجية كانت تنتج آلاف الأطنان سنوياً من مختلف أنواع الورق، وعند إسقاط نظام صدام حسين عام 2003، تعرض المصنع للنهب والتخريب، وبقي معطلاً منذ ذلك الحين مع احتفاظه بكوادره الهندسية والفنية الإدارية.
ويروي مدير المصنع رمضان عباس سلمان أن "محاولتنا لتشغيل المصنع جزئياً من خلال التعاقد مع شركة فرنسية لتأهيل ماكينة إنتاج الورق الصحي لم تتكلل بالنجاح، فالشركة انسحبت من العمل عام 2014 قبل إنجاز مشروع التأهيل بسبب قلقها من الأوضاع التي كانت سائدة في ظل الحرب ضد تنظيم داعش"، مضيفاً أن "نسبة إنجاز الماكينة 85 في المئة، وهي مصممة لإنتاج 16 طناً في الساعة، والسوق العراقية بحاجةٍ إلى أكبر من هذه الكمية بثلاثة أضعاف لتغطية الاستهلاك المحلي".
ويعتقد سلمان أن "الحل الأمثل لإحياء المصنع هو عرضه للاستثمار ليتسنى للقطاع الخاص تأهيله وتشغيله، وتم اتخاذ قرار بهذا الصدد"، كاشفاً أن "دراسات الجدوى جاهزة، وقريباً سنعلن عن المشروع على أمل تلقي عروض وإجراء مفاوضات مع شركاتٍ أجنبية أو عراقية ترغب في الاستثمار في المصنع".
وكان المصنع يعتمد على نبات القصب كمادةٍ أولية لإنتاج الورق، ولهذا كان محاطاً بمساحاتٍ شاسعة من مزارع القصب المتاخمة للأهوار، لكن هذه الأراضي تم تجفيفها عبر قطع المياه عنها، فخلت من القصب. وبحسب معاون مدير المصنع أحمد شريف المنصوري فإن "المصنع في حال إعادة تشغيله سنلجأ إلى إعادة تدوير الورق المستهلك، ودوائر الدولة مُلزمة بتسليمنا مخلفاتها الورقية وفقاً لقرارٍ حكومي، وخزيننا من الورق المستهلك لا يقل حالياً عن أربعة آلاف طن".
مصنع البتروكيمياويات
عند افتتاح مصنع البتروكيمياويات في أواخر السبعينات، كان من أضخم مصانع فئته في الشرق الأوسط، والفائض من إنتاجه كان يُصدر عبر الموانئ إلى دولٍ عدة. وعلى غرار مصنع الورق تعرض المصنع لأعمال تخريب خلال عام 2003 تسببت بتعطل خطوطه الإنتاجية، وبقي المصنع غير منتجٍ منذ ذلك الحين، ومطلع عام 2018 بدأت الحكومة خطواتٍ لإعادة تشغيله بنصف طاقته التصميمية.
ويفيد مدير الشركة العامة لصناعات البتروكيماويات عقيل المظفر بأن "المصنع على وشك معاودة إنتاج الحبيبات البلاستيكية بطاقة 60 ألف طن سنوياً"، مضيفاً أن "المصنع قبل أن يعاود الإنتاج تلقى طلبات تجارية مسبقة بتجهيز كمياتٍ من الحبيبات لأنها ستكون ذات جودة أعلى وأسعار أدنى من الحبيبات المستوردة".
ويلفت المظفر إلى أن "الحكومة العراقية تخطط منذ أعوام لإنشاء مجمعٍ صناعيٍ جديد للبتروكيماويات في البصرة، وسيكون مصنعنا بمثابة حجر الزاوية لهذا المشروع في ضوء الخبرات الهندسية والفنية المتوافرة لدينا"، معتبراً أن "المشروع إذا ما أبصر النور سيضع العراق على مسار الدول الرائدة في صناعة البتروكيماويات، ويمكن أن يفتح الأبواب أمام العراق لتطوير صناعات استراتيجية أخرى".
وكانت وزارة الصناعة وقعت اتفاقية مع شركة "شل" العالمية عام 2012 لبناء مجمع "النبراس" الصناعي للبتروكيماويات بطاقة إنتاجية تصل إلى مليون و800 ألف طن سنوياً، وبحسب تصريحات رسمية سابقة فإن المجمع الاستثماري سيكون رابع أكبر مصنع للبتروكيماويات في العالم، والأول على مستوى الشرق الأوسط، ولا تقل الكلفة الاستثمارية للمشروع عن 11 مليار دولار، ومن المتوقع أن يحقق أرباحاً سنوية تزيد على مليار دولار، ويوفر أكثر من عشرة آلاف فرصة عمل مباشرة. لكن المشروع الذي من المخطط أن يستغرق تنفيذه خمسة أعوام لم يدخل حيز التنفيذ لغاية الآن.
مصنع الحديد والصلب
تعود بداية مصنع الحديد والصلب إلى عام 1974 عندما تعاقدت الحكومة العراقية مع شركة فرنسية لبنائه، وتم تشغيل معامله تدريجاً، ففي عام 1978 تم تشغيل معمل الصلب، وبعد عام معمل الدرفلة، ومطلع عام 1980 معمل الحديد الإسفنجي. وكان المصنع عند تدشينه أحد أهم ركائز الصناعة العراقية، ويغطي حاجة السوق العراقية من الحديد الإنشائي والحديد الإسفنجي والأنابيب الحديدية، لكن أجواء حرب الخليج الأولى أسفرت عن تعطيل المصنع من عام 1980 حتى 1987، ثم عاود الإنتاج بأقل من طاقته التصميمية، واستمر بالعمل لغاية 2003، إذ تعرض لأعمال تخريب أدت إلى تعطله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي محاولةٍ متأخرة لإعادة تشغيل المصنع تعاقدت وزارة الصناعة والمعادن عام 2012 مع شركةٍ تركية لتجهيز ونصب أفران صهر ومعدات ومكائن جديدة بكلفة 700 مليون دولار، وكان من المقرر أن يُنجز المشروع خلال ثلاثة أعوام، لكن المشروع على أرض الواقع يسير ببطءٍ شديد لأسباب تتعلق بالتمويل. وتترقب إدارة المصنع قرضاً من الحكومة المحلية في البصرة لتمويل المرحلة الأخيرة من مشروع التأهيل. وفي حال حصولها على القرض فإن المصنع سيعاود الإنتاج أواخر العام الحالي بطاقة 600 ألف طن سنوياً.
وبغياب المصنع الحكومي عن حلبة المنافسة يشهد قطاع الحديد والصلب غزارة في الاستثمارات، فقد تم بناء مصنع أهلي عام 2013 بجوار المصنع الحكومي المعطل في منطقة خور الزبير، كما منحت هيئة الاستثمار في البصرة أواخر عام 2020 رخصة لشركة عراقية لبناء مصنع في المنطقة نفسها بكلفة 53 مليون دولار، وبطاقة 127 ألف طن سنوياً، وتعتزم إصدار رخصة أخرى لبناء مصنع أكبر بطاقة مليون طن سنوياً، لكن المصنع الحكومي القديم يتفرد بميزةٍ تنافسيةٍ تتجسد في امتلاكه خزيناً من الحديد الخردة يصل إلى مليون طن، ويمكنه بحكم عائديته الحكومية الحصول بسهولةٍ نسبية على إمدادات منتظمة من الحديد الخردة، بينما تواجه المصانع الأهلية المحلية تحديات في تأمين احتياجها من الحديد الخردة.
مصنع الأسمدة الكيماوية
مصنع الأسمدة الكيماوية هو أفضل المصانع الحكومية في البصرة، على الرغم من تهالك معظم آلاته ومرافقه الإنتاجية، فالمصنع أنشأته شركة "ميتسوبيشي" اليابانية عام 1977، ودخل طور التشغيل التجريبي عام 1980، وفي العام نفسه نشبت حرب الخليج الأولى، وأسفرت عن توقفه عن العمل، ثم عاود الإنتاج بعد انتهاء الحرب عام 1988، وهو يتكون من أربعة خطوط إنتاجية أساسية تبلغ طاقتها التصميمية مليون طن سنوياً.
ويقول مدير قسم الاستثمار في الشركة العامة للأسمدة الكيماوية بديع عبدالله أحمد إن "المصنع أعيد تأهيل بعض خطوطه الإنتاجية عام 2015 بتمويل من قرضٍ ياباني مُيسر، وحالياً يُنتج بنسبة 60 في المئة من طاقته التصميمية"، موضحاً أن "الكميات المُنتجة من سماد اليوريا تُجهز بشكلٍ حصري لوزارة الزراعة، لكن خلال عام 2016 واجهنا مشكلة ناجمة عن عدم سحب المنتج من قبل الوزارة، ما أدى إلى تكدس 64 ألف طن من الأسمدة في المخازن، وعانينا من تسويقها على مدى ثلاثة أعوام".
ويشير أحمد إلى أن "الشركة بصدد تشغيل خطٍ انتاجيٍ آخر متوقف حالياً، وعند تشغيله سيحقق العراق الاكتفاء الذاتي من سماد اليوريا"، مضيفاً أنه "خلال عام 2019 وقعنا عقد مشاركة مع شركةٍ بريطانية لإنشاء مصنع ملحق بمصنعنا لإنتاج سماد (DAP) الفوسفاتي للمرة الأولى في العراق، وبطاقة 500 ألف طن سنوياً، وهذه الكميات كافية لسد حاجة القطاع الزراعي من هذا النوع من الأسمدة، ومن المؤمل أن يفتتح المصنع الجديد قبل نهاية العام الحالي".
ويرى اقتصاديون عراقيون أن مصانع البصرة الحكومية المعطلة في حال تشغيل خطوطها وتطويرها منشآتها وتحديث أنظمتها التكنولوجية يمكن أن تلعب دوراً محورياً في تبديد ظاهرة البطالة وتحسين الوضع الاقتصادي، كما يمكن أن تحد من نزيف العملة الصعبة إلى الخارج، فالعراق يعتمد على الاستيراد في تغطية احتياجاته من معظم أنواع البضائع، ولذلك أدى قرار الحكومة العراقية أخيراً بتخفيض قيمة صرف الدينار مقابل الدولار إلى ارتفاع أسعار جميع أنواع البضائع في الأسواق، بما فيها المنتجات المحلية لأن تصنيعها يعتمد على آلات وموادٍ أولية مستوردة، وبذلك لا تستمد البصرة مكانتها الرسمية في الحاضر كعاصمة اقتصادية للعراق إلا من ثروتها النفطية الهائلة وموانئها التجارية النشطة، مع أنها كانت مدينة زراعية بامتياز، ومصانعها المعطلة شاهدة على أهميتها الصناعية المهدورة منذ 18 عاماً.