في القلب التجاري اللندني، يعرفون تماماً نظرية جنون الحشود. ويودون أن يعتبروا أنفسهم فوق ذلك كله، وأن يمضوا وقتهم وهم يحاولون البحث عن فرصة فردية هنا وتجاوز القطيع هناك.
وسيزعمون أنهم على معرفة بالعمل البارز لتشارلز ماكاي في القرن التاسع عشر، "الأوهام الشعبية الاستثنائية وجنون الحشود"، الذي يسرد بتفصيل مثير حلقات من الجنون الجماعي: برنامج الميسيسبي لجون لو، وجنون التوليب، وفقاعة بحر الجنوب.
وبطبيعة الحال، سيقولون إن ذلك لن يحصل معنا. ومن المؤسف أن مراكمة شركات التجارة الإلكترونية قبل انهيارها واستثمار الرهون العقارية الثانوية باعتبارها أصلاً ضرورياً، يشكلان مثلين حديثين، يثبتان خطأهم.
ويبدو وكأن شيئاً مماثلاً يتكرر مرة أخرى، ليس في ما يتصل بتحقيق مكسب سريع من السوق هذه المرة، بل في ما يتعلق باستجابة المصارف لـ"بريكست".
كان القلب التجاري اللندني كله تقريباً مؤيداً للبقاء في الاتحاد الأوروبي (باستثناء صناديق التحوط التي كانت تسعى إلى الإفلات من القيود التنظيمية التي تفرضها بروكسل، على الرغم من أن العاملين المخضرمين في منطقة "الميل المربع" (المركز المالي في لندن) سيقولون لكم، إن هذه الصناديق ليست أصيلة في القلب التجاري على أي حال). ويبدو أن المصارف ومستشاريها، بعد ما اختارت البلاد أن تتجاهل مزاعمهم الوخيمة حول ما قد يحدث إذا خرجنا من الاتحاد الأوروبي، تسعى الآن إلى نوع من تحقيق الرغبة. وتُحَول بعض المصارف مصادر دخلها إلى مراكز في الاتحاد الأوروبي. ويُعَد "مورغان ستانلي" و"غولدمان ساكس" و"باركليز" من بين المصارف البارزة التي تطبق هذا التحول. ويزعم المصرفيون أنهم يحتاجون الآن إلى "مرافق"، أي ممثل يتخذ من داخل الكتلة (الأوروبية) مقراً له، عندما يتحدثون مع عملاء في الاتحاد الأوروبي. لذلك فمن الأسهل الانتقال إلى هناك وتجنب المتاعب المتمثلة في وجود طرف ثالث في العمل.
من المؤكد أن المحادثات بين بروكسل ولندن بشأن اتفاق الخدمات المالية تعاني من تباطؤ. وفي تهور نمطي، استبعد [همّش] بوريس جونسون القلب التجاري اللندني – إلى جانب العديد من المؤسسات المالية الأخرى– في خضم اندفاعه إلى إتمام "بريكست". وهذا على الرغم من أن العمل المصرفي يشكل دعامة أساسية متنامية لاقتصادنا، بل واحداً من قطاعاتنا القليلة المزدهرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الصحيح بشكل مؤكد أن التكهنات الوخيمة بخروج جماعي لعشرات الآلاف من لندن بعد الاستفتاء لم تتحقق بعد. لكن هل من الصواب حقاً، لمصرف يتخذ من لندن مقراً له، ألا يتمكن الآن من مناقشة استحواذ أو دمج أو اقتراح استثماري مع عميل في الاتحاد الأوروبي من دون حضور شخص مسجل في الاتحاد الأوروبي؟
لا، يقول صديقي القانوني. هذا هراء [غير منطقي]. "هذا يستند إلى قراءة سخيفة للقانون. فنحن لدينا [امكانية] تقديم التماس يعكس الأمور [من طريق الترويج لقضيتنا] ونحتاج إلى الاعتماد عليه. وهذا ما يخيب أملي بعض التحليل القانوني الذي تعتمد عليه المصارف".
وأضاف: "يتعين على المرء أن يؤثر في الرؤساء التنفيذيين ورؤساء مجالس الإدارة في المصارف في ما يتصل بالنصيحة التي يتلقونها. فضلاً عن ذلك، تستطيع الجهات التنظيمية في بلادنا أن تساعد من خلال اتخاذ خط أكثر صلابة. وهذا يشمل، بطبيعة الحال، وزارة المالية. هناك ضباب عقلي جماعي".
هذا صحيح، وهو أمر خطير. فلدى "مورغان ستانلي" 150 موظفاً يعملون في مكتبه بباريس ويخطط لرفع العدد إلى 200 موظف بحلول نهاية العام، ثم لمضاعفة العدد بحلول عام 2024. ويقيم الآن رئيس الاندماجات والاستحواذات في أوروبا والشرق الأوسط، بيير لويجي كوليزي، في ميلانو وسيعمل من هناك. ومن ناحية أخرى، يوسع "باركليز" مكاتبه في باريس وفرانكفورت.
وفي "غولدمان"، انتقل أيضاً رئيس المشتقات الأوروبية والسيادية أليساندرو دوسي إلى ميلانو. كذلك يتزايد حجم مكتب المصرف هناك، كما هي الحال مع فرعه في مدريد.
وسينقل "جاي بي مورغان" 200 موظف إضافي إلى الاتحاد الأوروبي من لندن هذا العام، ليصل إجمالي الموظفين الذين انتقلوا إلى أماكن أخرى منذ الاستفتاء على "بريكست" إلى 400 موظف. وسيذهب أغلب هؤلاء إلى باريس.
للوهلة الأولى، لا يهم هذا. فهذه الأرقام ضئيلة مقارنة بنصف مليون من العاملين في مجال الخدمات المالية في لندن. وقليل من الأفراد البارزين لن يشكلوا فارقاً كبيراً.
من الصحيح بشكل مؤكد أن التكهنات الوخيمة بشأن هروب جماعي لعشرات الآلاف من لندن بعد الاستفتاء لم تتحقق بعد. وفي كل الأحوال، يقول استشاريون في "إرنست أند يونغ"، إن سبعة آلاف و600 وظيفة في مجال الخدمات المالية انتقلت من لندن حتى مارس (آذار) من هذا العام.
وفي فرنسا، زعمت مجموعة الضغط المالي، "باريس يوروبلاس"، أن من شأن "بريكست" أن يولّد 10 آلاف وظيفة جديدة في مجال الخدمات المالية في باريس بحلول عام 2025. وحتى الآن، كان الرقم الفعلي أقل من نصف ذلك الرقم.
وتقول المجموعة الإشرافية المصرفية في فرنسا، "هيئة الرقابة التحوطية والتسوية"، إن نحو 50 شركة مالية من بريطانيا حصلت بحلول ديسمبر (كانون الأول) 2020 على ترخيص في باريس، ما يمثل نحو ألفين و500 وظيفة نُقِلت إلى العاصمة الفرنسية، فضلاً عن 170 مليار يورو (205 مليارات دولار) على الأقل من هيئة أصول.
ويتمسك ويليام رايت من مؤسسة "المالية الجديدة" البحثية بتوقعاته، حيث يرى أن ما يصل إلى 35 ألف وظيفة مالية في لندن قد تذهب في نهاية المطاف إلى الاتحاد الأوروبي.
ومرة أخرى، حتى ولو كان على حق، فإن المجموع صغير نسبياً. لكن ليست الأرقام هي ما ينبغي أن تثير القلق بقدر العقلية. فالعديد من هؤلاء الذين يتجهون إلى الخارج يشغلون مناصب عليا. وهذه قرارات يجب ألا تؤخذ باستخفاف. فعدم وجود رؤساء للاندماجات والاستحواذات والمشتقات المالية يعملون ويعيشون في لندن يشكل خسارة. وفجأة، لا يبدو القلب التجاري للندن بهذا القدر من النفوذ والأهمية. ومن الصعب أن نحافظ على الهيمنة حين لا يكون كبار الموظفين موجودين.
وكما يصر صديقي القانوني البارز، لا يزال لدينا الالتماس العكسي – وهو المفهوم الذي يقول إن أي عميل يستطيع أن يتصل بمصرفي للحصول على المشورة في حين قد يكون العكس صحيحاً. ويتعين على الهيئات التنظيمية وحكومة المملكة المتحدة إحكام السيطرة وأن تذكر المصارف بهذا– وألا تسمح للرغبة الجماعية للمصارف بأن يصبح "بريكست" كارثة.
وفي المقام الأول من الأهمية، فإن ما ينبغي أن يحدث هو أن تتسارع وتيرة المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بشأن الخدمات المالية. فالمملكة المتحدة تبرم العديد من الاتفاقيات التجارية في مختلف أنحاء العالم. لكن هذا الاتفاق بالغ الأهمية.
© The Independent