يمضي لوغان فرنانديز، ممرض في مستشفى "مؤسسة أدولف روتشيلد"Adolphe de Rothschild Foundation Hospital الباريسي، أيامه في تقديم الرعاية الطبية إلى مرضى "كوفيد- 19" داخل قسم العناية المركزة. وصحيح أن فرنانديز وزملاءه يشكلون الشهود الأوائل على الأضرار التي يمكن أن يتسبب فيها الفيروس، إلا أن عديداً منهم يرفض رفضاً قاطعاً تلقي اللقاح المضاد له.
"ثمة شكوك كثيرة، ومن الصعب جداً تفنيد الأسباب"، يعلق فرنانديز. "يظن بعض زملائي أن لقاحات فيروس كورونا خطيرة، فيما بعضهم الآخر يخشى التأثيرات الجانبية المحتملة لها، ويفضل الانتظار".
وليست وجهة النظر التي يتشاطرها زملاء فرنانديز في العمل بالأمر الغريب عن الشارع الفرنسي. فطبقاً لدراسة استقصائية أخيرة، أبدى 25 في المئة من الأطباء العامين الفرنسيين تردداً حيال تلقي اللقاحات المضادة لفيروس كورونا أو توصية مرضاهم بالحصول عليها. وينتشر هذا التردد حيال اللقاح بصورة أكبر بكثير في صفوف عامة السكان. وتأتي هذه الدراسة لتذكر باستطلاع للرأي أجرته مؤسسة "إيبسوس" (Ipsos) في ديسمبر (كانون الأول) 2020 ومفاده أن 23 في المئة من البريطانيين لا يرغبون في الحصول على اللقاح مقابل 35 في المئة من الألمان، و60 في المئة من الفرنسيين.
ولا يقتصر هذا التردد على هوامش المجتمع الفرنسي فحسب، بل يتعداه ليشمل أيضاً العيادات والمستشفيات وأعمدة الصحف الرئيسة. ونتيجة لذلك، ثمة إمكانية كبيرة في أن توأد حملة التلقيح الوطنية ضد كوفيد- 19" قبل أن يتحصن جميع السكان، وتعود الحياة إلى مجاريها.
"ألمس التردد حيال اللقاح بين المرضى والزملاء كل يوم"، يذكر سيليستين-ألكسيس أغبيسي، أحد أطباء الطوارئ داخل "مستشفى بيشا كلود-برنارد"Bichat Claude-Bernard Hospital الجامعي في باريس. وتؤكد الأمر نفسه تلك الدراسة التي أجريت في دور التمريض الخاصة في فرنسا، فوجدت أن ما لا يزيد على 19 في المئة من مقدمي الرعاية مستعد لأن يتلقى تطعيماً ضد كورونا.
وبالنسبة إلى الدكتور أغبيسي، فإن التردد المعشش في أروقة المستشفيات ليس سوى انعكاس لما يحصل في المجتمع عموماً. "لا أعتقد أنهم متخوفون (من الحصول على لقاح فيروس كورونا) لأنهم ممرضون، بل لأنهم ينتمون إلى مجتمع يعتبر فيه التردد حيال اللقاح أمراً طبيعياً".
ووصولاً إلى أوائل القرن الحادي والعشرين، لم يكن التردد حيال اللقاح منتشراً في فرنسا أكثر من أي دولة أوروبية أخرى. لكن، منذ ذلك الحين، ازدادت المواقف الرافضة لمبدأ التطعيم بشكل جذري. ويشرح جيريمي وارد، عالم الاجتماع وعضو اللجنة الاستشارية الحكومية المعنية بسياسات التحصين، هذا المنحى التصاعدي، بالاستناد إلى جدالات مختلفة حول قضايا الصحة العامة، "في هذا البلد، استمررنا نتناقش سنوات طويلة في سلامة اللقاحات".
وفي أواخر تسعينيات القرن العشرين، اشتعل النقاش العلني الأول حول اللقاح المضاد للالتهاب الكبدي من النوع "بي"، وقدرته على التسبب لمتلقيه بمرض التصلب اللويحي. وفي 2009، جرى نقاش مشابه حول سلامة اللقاح المضاد لإنفلونزا الخنازير ونجاعته. وفي السنوات الأخيرة، برزت مخاوف من استخدام الألمنيوم في اللقاحات، بل صارت جزءاً من الخطاب العام الفرنسي. "ومع اتساع رقعة تلك النقاشات، ازداد التردد حيال اللقاح تأصلاً ورسوخاً"، يوضح وارد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبفضل أبحاثه ودراساته في ذلك الإطار، تمكن وارد من تحديد فئتين مختلفتين من الناشطين المشككين في اللقاحات. تتشكل إحداهما من فئة "المتطرفين" الرافضين فوائد التطعيمات عموماً، وتتكون ثانيتهما من فئة "المصلحين" المعترضين على لقاح معين أو خاصية معينة في تكنولوجيا التلقيح الحديثة. وقد فرضت تلك الفئة الأخيرة التردد حيال اللقاح على الشارع الفرنسي.
ووفق وارد، "يورد المصلحون أنه "ليس لدينا مشكلة مع اللقاحات عموماً، إنما مع هذا أو ذاك من العناصر". ونتيجة انتقاداتهم المحددة، تمكنوا من الوصول إلى وسائط الإعلام الرئيسة، وباتوا في نظر عامة الناس جديرين بالتصديق. وهذا أمر لم يقوَ المشككون المتطرفون في اللقاحات يوماً على تحقيقه".
وفي ذلك الإطار، تعتبر منظمة "إي 3 أم" E3M إحدى أكثر المجموعات الإصلاحية صخباً. إذ لا تعتبر نفسها معارضةً لـ"مبدأ التلقيح في حد ذاته"، بل إنها تعارض استخدام الألمنيوم في اللقاحات الحديثة، بحسب موقعها الإلكتروني.
وفي نظر وارد، تمكنت "إي 3 أم" من إثارة الشكوك حول سلامة اللقاحات المحتوية على الألمنيوم، على الرغم من الإجماع العلمي على فعاليتها وسلامتها. "أعتقد أنهم مخطئون، لكن "إي 3 أم" تمضي معظم وقتها في تمويل الأبحاث الشرعية المنشورة في المجلات الرئيسة. وتشكل تلك المقاربة أمراً مختلفاً تماماً عن تلك التي تزعم بأن اللقاحات جزء لا يتجزأ من مؤامرة عالمية".
وفي سياق مواز، يرى الدكتور أغبيسي أن العدو الأول للتطعيم هو النجاح الساحق الذي حققه على مر السنين وأنسى الرأي العام الفرنسي وجود أمراض على شاكلة الجدري، وطبيعة هذه الأمراض القادرة على الفتك في جسم الإنسان. "يظهر أن نسبة المخاطر والمنافع قد خرجت عن مسارها بالكامل. وبات الخوف من اللقاحات أكبر من الخوف من الفيروسات. وهذا سخيف تماماً".
وبعد أسابيع من المداولات، ارتأى لوغان فرنانديز، الممرض الباريسي للمصابين بفيروس كورونا، أن يأخذ اللقاح، "أعيش أيامي محاطاً بضحايا كوفيد- 19، وستكون خساسة مني أن أشتكي من الأزمة وأرفض المشاركة في الحل".
وفي كل منطقة ودائرة في فرنسا، يأمل السياسيون والموظفون الحكوميون أن يحذو مزيد من المواطنين حذو فرنانديز. وفي الدائرة الثالثة عشرة من باريس تحديداً، جرى تحويل مبنى دار البلدية الكبير المشيد في 1877 إلى مركز للتلقيح. ويتلقى فيه السكان جرعاتهم في كنف الثريات والزخارف الذهبية.
وعلى غرار دول أوروبية أخرى، تتلكأ فرنسا خلف الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من ناحية الجهود التي تبذلها في سبيل تطعيم سكانها. فحتى منتصف مايو (أيار)، لم تتعد نسبة مواطنيها الملقحين بالكامل 15 في المئة ولم تستكمل الدائرة الثالثة عشرة تلقيح الكبار في السن والأشخاص الأكثر هشاشة ممن يقفون في طوابير الانتظار الطويلة.
ونذكر من بين هؤلاء تاسادي (87 عاماً) التي أتت الدار برفقة ابنتها فاطمة. في البداية، بدت تاسادي مترددة في تلقي اللقاح، لا سيما خلال شهر رمضان المبارك. لكنها عادت ورضخت لكلام ابنتها وقبلت بعرض الدائرة. "ثمة شكوك كثيرة، مع أجواء من انعدام الثقة، فحتى زوجي لم يسلم منهما. لكنني أفترض بأنه ينبغي علينا جميعاً أخذ اللقاح والمضي قدماً في حياتنا"، وفق تعبير فاطمة.
اليوم، وبعد مرور أكثر من عام على الموجة الأولى من تفشي فيروس كورونا، تستمر البلديات الفرنسية في حالة تأهب ويستمر عدد كبير من موظفيها مشغولاً عن مهامه المعتادة، بسبب انشغاله بالتطعيم.
وتعليقاً على ذلك، ذكر بنجامين راتو، نائب مدير مكتب رئاسة البلدية في الدائرة الثالثة عشرة أنه "من المهم حقاً أن نستوعب حقيقة ما يجري ونتصرف بالشكل الصحيح". وفيما كان يشق طريقه بين الحشود المصطفة في طوابير طويلة للوصول إلى مركز التلقيح، أوضح راتو أن عدد الراغبين حالياً في التطعيم يفوق بكثير عدد اللقاحات المتاحة.
ومن المرتقب لهذا الواقع أن يتغير خلال الأشهر المقبلة مع زيادة الإنتاج العالمي للقاحات. "أخشى أن الناس يعتبرون الحصول على اللقاح قراراً شخصياً. وفي الحقيقة، أنه يشكل قراراً جماعياً يعزز قدرة المجتمع ككل على إبطاء العدوى، والحد من انتشار سلالات جديدة منها. على كل واحد منا أن يؤدي دوره"، شدد راتو.
وبسبب الجدال الذي أثير حول لقاح "أسترازينيكا" وتأثيراته الجانبية المحتملة، لم يكن من السهل على الفرنسيين الثقة بجهود التطعيم العامة. وكذلك يعتبر بعض الناس أن حكومة ماكرون زادت الطين بلة والمخاوف سوءاً، من خلال تصريحاتها وبياناتها غير المتناسقة. ففي يناير (كانون الثاني) الماضي، وصف الرئيس ماكرون اللقاح البريطاني علانيةً بأنه "غير فاعل تقريباً" إزاء الكبار في السن، ليعود بعد شهر ويؤكد رغبته الشخصية في الحصول عليه.
وبعد ربط لقاح "أسترازينيكا" بنوع نادر من الجلطات الدموية، علقت الدول الأوروبية استخدامه لفترة مؤقتة. واليوم، عاودت فرنسا تقديم اللقاح لسكانها ممن تتجاوز أعمارهم الـ55 عاماً، غير آبهة بقرار نظرائها سحبه من برامجها الوطنية للتطعيم بصفة دائمة.
وفي هذا الصدد، يشير الصحافي تومايس باباينو الذي تلقى الجرعة الأولى من "أسترازينيكا" قبل أن يصدر قرار حصره بمن يتجاوزون الـ55 عاماً، إلى أن "استخفافهم بلقاح أسترازينيكا، ثم دفاعهم عنه، فإلغاءهم له قبل إعادة تقديمه هو غباء. وهذا الغباء يشكل السبب وراء شعور الناس بأنهم فئران تجارب، ووراء تقويض ثقتهم بالحكومة".
وفي سياق متصل، تجزم صوفي دوبوا، منسقة طاقم العاملين في مركز التلقيح في الدائرة الثالثة عشرة، بأنه "لا أحد يرغب في الحصول على لقاح "أسترازينيكا" (= "لقاح أكسفورد")"؛ والدليل على ذلك أنه لما قصدت الممرضات، أخيراً، بيوت مقيمين مؤهلين كي يقدمن لهم اللقاح، قوبلن بأغلبية مضادة رافضة. وفي مراكز التلقيح المنتشرة على امتداد الأراضي الفرنسية، ثمة صعوبة كبيرة في توزيع جرعات "أسترازينيكا المتاحة". وثمة تعويل أساسي على لقاح "فايزر- بيونيتك" الألماني الأميركي الذي يخزن في برادات خاصة على درجة حرارة -70 درجة مئوية.
في ملمح متصل، فيما تعد إحدى الممرضات مجموعة جديدة من الحقن المملوءة بلقاح "فايزر"، تشير دوبوا إلى أنها تسأل الله ألا يتأتى عن هذا اللقاح أي تأثيرات جانبية مفاجئة. وتضيف، "إذ يمكن لهذا الأمر أن يكتب نهاية حملة التلقيح".
وتضيف دوبوا أن دراسة استقصائية من الربيع الماضي أظهرت بأن الأشخاص الذين لا يتجاوزون الخامسة والثلاثين يشكلون أكثرية الفرنسيين الرافضين للقاحات فيروس كورونا، إلى جانب مناصري الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة وتلك اليسارية المتطرفة.
وثمة نموذج عن ذلك الأمر تجسده المحامية آن (26 عاماً) التي تنتمي إلى فئة رفض لقاح "أسترازينيكا". ووفق كلماتها، "لست مجنونة ولست ضد اللقاحات في حد ذاتها. كل ما في الأمر أنني أقيم وزناً للتكلفة والفوائد. وكنت مقتنعة بأخذ اللقاح المضاد للسل، لأن السل يقدر على الفتك بي. لكن هذا الأمر لا ينطبق إحصائياً على "كوفيد". لماذا علي أن أخاطر بنفسي وأتحمل مشقة المخاطر التي يمكن أن تصاحب التطعيم؟"
وفي نفس مشابه، تجيب آن عن السؤال بشأن شعورها بمسؤولية جماعية في تلقي اللقاح، مسلطة الضوء على ما وصفته بالسياسات الحكومية الفاشلة. "منذ سنوات والمستشفيات الفرنسية تعاني نقصاً في التمويل، وهم الآن يطالبوننا جميعاً بأن نحصل على اللقاح ونأخذ إجازة من الحياة حتى لا تزدحم أقسام الطوارئ بأكثر من طاقتها؟ ويغضبني هذا المنطق برمته".
وفي وقت قريب، تلقت فرنسا صفعةً قويةً من الجائحة المستجدة، مع تخطي حصيلة الوفيات الناجمة عنها عتبة 100 ألف وفاة. ووفق استطلاع صادر في أبريل (نيسان)، لا يعتقد سوى 35 في المئة من الفرنسيين بأن حكومة ماكرون تعاملت مع "كوفيد- 19" بطريقة فعالة. ولكن مع اقتراب فصل الصيف، تشير البيانات الأخيرة إلى أن الرأي العام الفرنسي بدأ يتحول تدريجياً لمصلحة اللقاحات المضادة للفيروس.
وفي رأي الطالبة الباريسية كلير روبيه، "موقف الناس من اللقاحات نابع من حقيقة تأييدهم للحكومة أو رفضهم لها. وأصدقائي خير مثل على ذلك. إذ إن مؤيدي التطعيم بينهم هم الذين منحوا أصواتهم لماكرون يوم الانتخابات".
في المقابل، وفق رأي عالم الاجتماع جيريمي وارد، لا يفسر الاعتراض على ماكرون وقراراته سوى جزء بسيط من التشكيك في اللقاحات. "لو سألت الناس في فرنسا اليوم عما إذا كانوا يؤيدون مبادرة حكومية جديدة، فسيجيبونك بالنفي. وهذا أمر متوقع وجزء من ثقافتنا السياسية. وبفضله، يمكن لبعض وجهات النظر السلبية إزاء اللقاحات المضادة لفيروس كورونا أن تتوضح، لكن المستويات العامة في التردد حيال اللقاح العامة التي تتبعناها لسنوات، ستبقى مغمورة".
يذكر أن الممرض الباريسي لوغان فرنانديز سعيد للغاية بحصوله على اللقاح، لكنه في الوقت نفسه مرتاب بشأن قدرة الحكومة على إقناع زملائه وسواهم من المشككين في اللقاحات، عبر قوة المنطق وحده. ووفق كلماته، "لقد فقد الفرنسيون الثقة في السياسات والطبقة السياسية، ولن يقتنعوا بالأدلة والإحصاءات التي تضعها في متناولهم حكومة لا يعترفون بها ولا تمثلهم".
© The Independent