ظلت مالي، الدولة المؤثرة على أمن واستقرار منطقة الساحل الأفريقي، تؤثر أيضاً على الحراك السياسي في المنطقة، بما فيه تفاعلاتها الدولية، نظراً إلى الوجود الكثيف للجماعات الإرهابية التي استوطنتها، وانتقلت إلى بعض دول "الساحل" الأخرى، موفرةً بيئةً خصبةً للتهريب وتجارة البشر، بالإضافة إلى النزاعات الإثنية. وبتعرض دولة مالي لانقلاب ثانٍ ضد السلطة الانتقالية، تبرز توقعات قد تمتد إلى دول الساحل بشكل أشد مما كان عليه الحال من قبل، تغذيها عوامل أمنية وسياسية، قد لا تخضع معها للحل في الإطار الأفريقي على الرغم من التحركات في هذا الاتجاه، وربما تقود الأحداث إلى تدخل دولي آخر تظهر معه سيناريوهات عدة.
اضطرابات مزمنة
ظلت مالي منذ عقود تعاني فقدان التماسك الداخلي وتوالي الانقلابات العسكرية، سطر آخرها العقيد أسيمي غويتا نائب الرئيس، رئيس المجلس العسكري، الذي انقلب على الرئيس باه نداو الذي نصب في سبتمبر (أيلول) الماضي، واعتقله ورئيس الوزراء مختار وان في قاعدة عسكرية. وكان تبرير غوتا للانقلاب بأن حكومة جديدة شكلت من دون استشارته، بعد أن وصف دوره كنائب للرئيس ومكلف الدفاع والأمن، بالحاسم في بلد يشهد اضطرابات مزمنة.
بعد استقلال مالي في عام 1959 من "السودان الفرنسي" (ليس جمهورية السودان الحالية)، كونت مع السنغال "اتحاد مالي"، وبعد انسحاب السنغال بعد عام واحد من الاتحاد، سمت نفسها باسم "جمهورية مالي". وشهدت أول انقلاب في عام 1968، ثم تلاه انقلاب عام 1991، وعلى أثره أنشئت دولة ديمقراطية، ثم حدث انقلاب آخر إثر تمرد عسكري في 21 مارس (آذار) 2012، بسبب عدم استجابة الحكومة لمطالب الجيش بتسليح قواته في شمال البلاد في حربها ضد مجموعات مكونة من الطوارق والمتطرفين.
مكونات الصراع
أسس انقلاب عام 2012 لسقوط شمال مالي تحت سيطرة الجماعات الإرهابية، وأسهم التدخل العسكري الفرنسي بالعملية المسماة "برخان" وقوات الأمم المتحدة (مينوسما) في عام 2013، في طرد بعض الجماعات، ولكن بعضها الآخر ظل مسيطراً. وبانعدام الأمن، تصاعد النزاع بين إثنيتي الدوغون والفولان، من ضمن 20 إثنية كمكونات للصراع الناشئ حول مناطق الرعي والمياه. واستغلت جماعة إرهابية موالية لتنظيم القاعدة العداء بين الإثنيتين، فحرضت الفولان على الدوغون وحدثت مجزرة في عام 2015، قامت خلالها هذه الجماعات بتصفية أفراد من الدوغون. وخلق ذلك الوضع مواجهةً مستمرة بين الجماعة الإرهابية التي تنتمي إلى الفولان بزعامة أمادو كوفا، وبين ميليشيات يقودها دان آن بسوغو تسمى "ميليشيات الدفاع الذاتي عن إثنية الدوغون". كما هاجمت هذه الجماعات القوات الأممية بدعم من بعض الإثنيات وواجهتها في مناطق النزاع، ما أدى إلى سقوط مئات القتلى من القوات الدولية.
غذت احتجاجات شعبية انقلاباً عسكرياً آخر في مالي، في 18 أغسطس (آب) 2020 ضد حكم الرئيس المنتخب إبراهيم أبوبكر كيتا ورئيس وزرائه، إثر تدهور الحالة الاقتصادية، واضطراب الأمن بسبب الجماعات الإرهابية، التي تطالب بسحب فرنسا والأمم المتحدة قواتهما من مالي.
إهمال الدولة
وعزمت فرنسا على تقليص عدد قواتها التي تقود العمليات ضد الإرهاب هناك، ولكن هذا الانقلاب هز موازين خطتها، وجعلها تقف والاتحاد الأوروبي أمام تحديين هما، إما فرض عقوبات على مالي مثلما فعلت الولايات المتحدة بأن علقت المساعدة الأمنية لقوات الشرطة والجيش في البلاد، ولكن ذلك ستكون نتيجته نسف الجهود الدولية في تطوير البنية التحتية وإعادة بناء الدولة التي دمرها المتطرفون. أما التحدي الآخر، فهو مواصلة أهداف البعثتين على نفس الوتيرة السابقة، وهذا سيعطي العقيد أسيمي غويتا الضوء الأخضر لمواصلة السيطرة على الحكم وعدم التنحي، وتقوية موقفه في المفاوضات وتحالفه مع الجماعات المتطرفة. وعليه سيكون على المجلس العسكري أن يتعاون مع القوات التابعة للبعثتين الأممية والفرنسية، وفي هذه الحالة سيكون عرضة لمواجهة التنظيمات الإرهابية، في شمال مالي ووسطها، التي ترفض الوجود الدولي. وتتمثل إحدى النتائج المباشرة للشعور المتجذر بإهمال الدولة، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، للمجموعات السكانية التي تعاني الفقر في مالي، بنشوء حركات التمرد الانفصالية. فبالإضافة إلى الحركات الإرهابية، تأسست "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" المكونة من الطوارق في مدينة تمبكتو في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 2010، وفي 6 أبريل (نيسان) 2012، أعلنت الحركة استقلال إقليم أزواد الذي لم يحظَ باعتراف دولي أو إقليمي. وبدلاً من أن تواجه القوات الحكومية خطراً واحداً متمثلاً بالإرهاب، ظلت تقاتل على جبهة المجموعات المتمردة التي دخلت من جانبها في قتال آخر مع المجموعات الإرهابية. كما أن "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" تحارب المجموعات الإرهابية التي سيطرت على منطقتها شمال مالي، وتقف ضد عودة الجيش المالي وفرض سيطرته في المنطقة. هذا الوضع وقوامه التنافر الإثني بين القبائل، كون ميليشيات قبلية، يتبع بعضها لقبائل موالية للحكومة والبعض الآخر لحركة تحرير أزواد. وتهدد هذه التطورات بنسف اتفاق السلام الذي ظل يتعرض لاتهامات من قبل حركة أزواد للحكومة السابقة بدعمها الميليشيات الموالية لها، واتهام الحركات باستثارة القبائل في الشمال. وهو ما يؤدي إلى تقوية الولاء للجماعات، سواء كانت إثنية أو إرهابية باعتبارها توفر الانتماء على حساب الدولة.
أدوار خارجية
ووضع الانقلاب المنظمات الأفريقية، ومنها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس)، على المحك، إذ سمح قائد الانقلاب أسيمي غويتا للوسيط الأفريقي، رئيس نيجيريا السابق غودلاك جوناثان بلقاء الرئيس باه نداو ورئيس وزرائه مختار وان المعتقلين. وبعد هذه المهمة، ستكون المجموعة الأفريقية والاتحاد الأفريقي أمام تحد آخر، فهل ستتقدم خطوةً بذهابها مع رأي القوى الدولية بفرض عقوبات على مالي؟ أم ستمضي في الطريق الذي سمته "المساعي الحميدة" لحل الأزمة.
على الرغم من الإدانات الدولية والإقليمية الواسعة على استخدام القوة والمطالبة في بيان مشترك بالإفراج الفوري وغير المشروط عن القادة الانتقاليين، إلا أن رفض غويتا لهذا الطلب سيجعلهم يتعاملون معه كأمر واقع، خصوصاً مع تأكيده أنه باقٍ على تعهد إجراء الانتخابات في العام المقبل بعد إقصاء رئيس الحكومة الانتقالية ويسعى إلى اجتماع مع الوسطاء الدوليين. من ناحية أخرى، تخشى القوات الدولية من تعقيد مهمة بعثتها الموجودة حالياً في مالي، بسبب عدم استطاعتها الاعتماد على القوات النظامية في مالي، ولأسباب لوجستية ومالية سيتفاقم هذا العجز في ظل الانقلاب. ونسبةً لتعقيدات وجود القوات الدولية فإن تدخل مجلس الأمن الذي نادت به فرنسا، ربما يكون بمزيد من القوات الدولية أو تبديلها بأخرى، لها حرية التدخل في كل الأزمات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الخروج من المأزق
توضح طبيعة التقسيم السياسي في مالي أنه أتى نتيجة تشابكات داخلية معقدة، بالإضافة إلى فرض شكل من التقسيم الذي يعود إلى فترة الاستعمار الفرنسي، إذ إن السيطرة على منطقة "السودان الفرنسي" بأكملها كانت نتيجةً لاعتبارات مصالح الاستعمار فيها كمنطقة تشمل في نطاقها الواسع هذه التناقضات. بعد الاستقلال، لم تقسم مالي سياسياً عندما انفصلت عن "السودان الفرنسي"، وإنما ككيان مفتت ومنشق من منطقة كاملة، لذا فإن بناء مؤسسات جديدة لم يكن فاعلاً في ظل الدولة الحديثة لأن عوامل الفرقة كانت أقوى من عوامل البناء. في قلب هذه الأحداث تعزز النموذج الذي تعكسه مالي، باعتباره نموذجاً صارخاً لشكل الدولة في أغلب الدول الأفريقية.
من الصعب الحكم على ميزان القوى في مالي، في ظل هذه الاضطرابات، لكن ربما يحتفظ أسيمي غويتا ببعض السيطرة طويلة الأمد، ومع ذلك فإن الواقع في ذلك البلد مفتوح على بعض السيناريوهات. السيناريو الأول هو، بما أن هذا الانقلاب السريع جاء بعد انقلاب قريب وانتخابات وشيكة فهذا يدل على خوف العسكريين من قيام نظام ديمقراطي قد يتعرض أي انقلاب محتمل عليه، إلى إدانة دولية أوسع. وربما يتم تحالف بين قائد الانقلاب الحالي وحركة 5 يونيو (حزيران)، لكن لا يتوقع أن يصمد التحالف كثيراً لأن للمجموعتين العسكريتين أطماعاً متشابهة، وتعتقد حركة 5 يونيو أنها الأولى بالحكم لأنها هي التي أطاحت الرئيس كيتا وجاءت بالحكومة الانتقالية، التي همشتها.
في السيناريو الثاني، ستحاول الجماعات الإرهابية والميليشيات الإثنية إفشال مساعي التهدئة، من خلال شن مزيد من الاضطرابات. وسلاح هذه الجماعات منذ انقلاب عام 2012 هو الهجوم على المدنيين واغتيال القيادات العسكرية وتحميل المسؤولية للجماعة المعادية لها. ومع انعدام الأمن وعدم ملاحقة المعتدين وغياب العدالة، نشأت سوق موازية لتجارة السلاح والمخدرات. وأصبح التجار من هذه الفئة أمراً واقعاً، تتفاوض بالنيابة عنهم الجماعات المتمردة على رفض اتفاقيات السلام، ما يضع الحكومة في مالي والمجتمع الدولي في مواجهة قوى أخرى بالإضافة إلى القوى الإثنية والجماعات الإرهابية.