تواجه حكومة النمسا رد فعل غاضباً متزايداً بعد إطلاق موقع إلكتروني يوضح قائمة بمواقع جمعيات إسلامية ومساجد ومسؤولين لهم صلات أجنبية، تقول الحكومة إنه بهدف محاربة حركات الإسلام السياسي و"الأيديولوجية الإسلاموية"، في حين يخشى كثيرون أن تؤدي إلى وصم جميع المسلمين، ما يسفر عن جرائم كراهية.
الخريطة التي تعرض أكثر من 600 مسجد وجمعية إسلامية في جميع أنحاء البلاد، تأتي في إطار مشروع مشترك بين الحكومة ومركز توثيق الإسلام السياسي وجامعة فيينا، على الرغم من أن الأخيرة نأت بنفسها بعد ما أثير من جدل، وحظرت استخدام شعارها على الموقع الإلكتروني للمشروع.
ويصنف المسؤولون الخريطة على أنها أداة في الحرب ضد "الإسلام السياسي"، إذ إنه على غرار فرنسا تسعى حكومة النمسا لمكافحة الحركات الدينية المتطرفة التي تسعى إلى إعادة هيكلة المجتمع وفقاً للمثل التي تتعارض مع المبادئ الديمقراطية.
غير أنه وفقاً لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، فإن المنظمات المدرجة تشمل مراكز ثقافية للمهاجرين البوسنيين والألبان، ومنظمات شبابية وأندية رياضية، في كثير من الأحيان دون أي دليل على أي صلة بالتطرف.
مخاوف وصم المسلمين
يقول منتقدو المشروع، إن الخريطة ستدفع الناس إلى الشك في كل الجماعات الإسلامية ووصم المسلمين. وتساءل رئيس مبادرة النمساويين المسلمين، طارفا بغاجاتي، في تصريحات إلى محطة "أو آر أف" التلفزيونية النمساوية، "ماذا لو كان لدينا خريطة يهودية أو خريطة مسيحية في النمسا؟"، في حين حذر رئيس منظمة الشباب المسلم في النمسا، أديس سيريفرفيتش، من مخاطر أمنية هائلة يحملها كشف عناوين المؤسسات المسلمة.
كما حذرت مجموعة تسمى "الجماعة الدينية الإسلامية في النمسا" (IGGOE) من المخاطر التي تشكلها مثل هذه الخرائط، التي يمكن أن تسبب وصم المسلمين في جميع أنحاء النمسا، مضيفة "أن العنصرية ضد المسلمين تتزايد". وأشارت إلى أن تسمية جميع المؤسسات الإسلامية تمثل "تجاوزاً غير مسبوق للحدود"، وأن مثل هذه الإجراءات "يمكن أن تعطل الانسجام الديمقراطي في البلاد".
وتخطط منظمة الشباب المسلم لمقاضاة حكومة المستشار سيباستيان كورتس، المعروف بأنه أحد أشد القادة الأوروبيين انتقاداً لجماعات الإسلام السياسي، خصوصاً منذ مقتل أربعة مواطنين في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عندما فتح مسلح، على صلة بتنظيم "داعش"، النار في العاصمة فيينا.
وفي أعقاب الهجوم الإرهابي، أعلن كورتس عن تسمية "الإسلام السياسي" كجريمة جنائية، حتى يتسنى للحكومة "اتخاذ إجراءات ضد أولئك الذين ليسوا إرهابيين أنفسهم، لكنهم يخلقون أرضية خصبة لهم".
استهداف الأيديولوجية لا الدين
ودافعت وزيرة الاندماج سوزان راب عن الغرض من الخريطة، واستبعدت أن يجري وضع المسلمين "قيد الشبهات". ونقلت صحيفة "كلاين تسايتونغ"، النمساوية عن راب قولها إن الخريطة تهدف إلى "محاربة الأيديولوجيات السياسية لا الدين". وأضافت، "نريد استخدام هذه المعلومات لخلق الشفافية، وليس مجرد النظر إلى الأماكن التي يجري فيها انتهاك القوانين"، مؤكدة أنه "لا يوجد شك عام في المنظمات الإسلامية."
لكن منتقدي الخريطة لم يكونوا من المسلمين فقط، إذ دعا أسقف الكنيسة الإنجيلية اللوثرية الألمانية مايكل تشالوبكا إلى إلغائها، وأثار عديد من السياسيين في النمسا والجماعات الحقوقية مخاوف من تعرض المسلمين للخطر. وقالت فائقة النجاشي، متحدثة حزب الخضر الشريك في الائتلاف الحاكم، إن "المشروع على نقيض ما يجب أن تبدو عليه سياسة الاندماج والحوار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي حين أن معظم المسلمين الذين يعيشون في النمسا هم من أصل تركي، وفق وسائل إعلام نمساوية، فإن وزارة الخارجية التركية وجهت انتقادات إلى الخريطة، ووصفتها بأنها "معادية للأجانب وعنصرية ومعادية للمسلمين". وحثت أنقرة كورتس على تبني "سياسة مسؤولة" بدلاً من تطوير سجل للمواطنين المسلمين والمواقع.
تحركات أوروبية
تحركات فيينا لمكافحة الجماعات السياسية الدينية تتزامن مع تحرك مماثل في فرنسا منذ العام الماضي عندما أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حملة حكومته ضد ما وصفه بـ"الانفصالية الإسلاموية" لحركات الإسلام السياسي، التي لا تتوافق مع الحرية والمساواة، كما قال إنها "تتعارض مع الجمهورية التي لا تتجزأ، والوحدة الضرورية للأمة". ثم عاد وأكد بخطاب في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول)، خطة وطنية شاملة للتصدي لتلك الجماعات الانفصالية.
ويواجه ماكرون منذ ذلك الحين انتقادات، باعتباره يستهدف الدين. فعلى سبيل المثال تناولت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تحركات الرئيس الفرنسي في إطار "قمع للمسلمين"، وهو ما أغضب مجموعة من المراقبين الفرنسيين. وندد مقال في صحيفة "لوموند" الفرنسية، العام الماضي، بما وصفه "العمى الأميركي المقلق عندما يتعلق الأمر بالإرهاب في فرنسا".
ويبدو أن أوروبا باتت أكثر يقظة لخطر جماعات الإسلام السياسي لديها، فعلى الرغم من أن المخاوف الأوروبية ليست جديدة، لكن الملاحظ أنه لم يعد التعبير عنها حصراً من قبل أولئك الذين ينتمون إلى اليمين من الطيف السياسي، لكن من قبل السياسيين والمعلقين من جميع المذاهب السياسية وأجهزة الأمن.
تدخل نادر
ومطلع مايو (أيار) الماضي، وقع نحو 75 ألف شخص رسالة صاغها عسكريون فرنسيون تحذر من خطر الحرب الأهلية في فرنسا، واتهمت الرسالة الحكومة الفرنسية بتقديم تنازلات لجماعات الإسلام السياسي.
الرسالة التي كتبها عسكريون وصفوا أنفسهم بأنهم جيل شاب من الجنود الذين خدموا في مالي وأفريقيا الوسطى وأفغانستان، أو شاركوا في عمليات لمكافحة الإرهاب، لم تكن الأولى من نوعها، إذ سبقتها رسالة مماثلة كتبها جنرالات جيش في أبريل (نيسان) الماضي.
لكن تحرك العسكريين الفرنسيين هو أمر نادر وغير مقبول، إذ قالت الوزيرة المسؤولة عن القوات المسلحة، فلورنس بارلي، إن رسالة الجنرالات تعد خرقاً لقانون يحظر على العسكريين الاحتياطيين التعبير علناً عن آرائهم في قضايا سياسية أو دينية، وتوعدت بتوقيع عقوبات ضدهم.
وفي الآونة الأخيرة، نشرت مجموعة من علماء جامعة السوربون المرموقة بقيادة برنارد روجير سلسلة من الدراسات التجريبية بعنوان "الأراضي التي غزاها المتطرفون"، محذرة من أن "الشبكات المتطرفة تمكنت من بناء جيوب في قلب الأحياء الشعبية".
وحذر تقرير صدر عام 2018 عن أجهزة الأمن في ولاية شمال الراين وستفاليا بألمانيا، من أنه "على المدى الطويل، فإن التهديد الذي تشكله الإسلاموية الشرعية أو حركات الإسلام السياسي تجاه النظام الديمقراطي الليبرالي أكبر من التهديد المتطرف. إنهم يطمحون إلى نظام إسلامي، لكنهم مستعدون للسماح بعناصر ديمقراطية معينة ضمن هذا الإطار، ولهذا السبب بالكاد يمكن التعرف على تطرفهم للوهلة الأولى".