بعد أشهر من النزاع بين مجلس النواب التونسي ورئيس الجمهورية قيس سعيد حول مشروع قانون المحكمة الدستورية الذي أُقر مرتين بعد ما رده الرئيس، بحسب ما يتيح له الدستور، إلى البرلمان لقراءة ثانية، حيث صوت عليه ثلثا النواب (عددهم الإجمالي 217 نائباً)، وطعن بدستوريته 30 نائباً أمام الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، التي ردت الطعن، وأحالت مشروع القانون لرئيس الجمهورية بعد انقسام أعضائها بين مؤيد للطعن ورافض له، وبالتالي عدم توفر أغلبية مطلقة بعد التصويت. ونتيجةً للانقسام وعدم اتخاذ قرار حاسم، قررت الهيئة رد مشروع القانون إلى سعيد على حاله لاتخاذ القرار المناسب، بحسب ما ذكر عضو الهيئة سامي الجربي.
سياسية وليست دستورية
الصراع المكشوف بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب راشد الغنوشي، أخذ أبعاداً عدة، منها الخلاف بشأن مشروع قانون المحكمة الدستورية، الذي اعتبره الباحث السياسي التونسي منذر بالضيافي "مسألة سياسية في ظل أزمة ثقة عميقة بين الرئاسات، ما سيزيد من تعقيد الأوضاع وتصعيد التوتر. كما أن البحث عن حلول سياسية وليست قانونية أو دستورية هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة".
تباين في المواقف
من جهتها، استشعرت "حركة النهضة" الإسلامية، صاحبة أكبر كتلة في البرلمان، حجم الأزمة التي خلقها رد مشروع القانون إلى رئيس الجمهورية، المؤهل لتفسير النص بحسب الدستور وله حق ختم المشروع أو رفض ذلك. وسعت قيادات في الحركة إلى التهدئة ودعوة سعيد إلى توقيع مشروع القانون، وهو ما عبر عنه القيادي في "النهضة" الحبيب خضر، المقرر العام لدستور 2014، بالقول إنه "لم يبق أمام الرئيس إلا ختم (توقيع) مشروع القانون المتعلق بتعديل قانون المحكمة الدستورية والإذن بنشره في الرائد الرسمي".
وافترض خضر معلقاً على قرار الهيئة أن يكون "رئيس الجمهورية يعتبر نفسه في حالة خرق مستمر للدستور منذ 8 مايو (أيار) الماضي، ويبادر الآن إلى ختم مشروع القانون لوضع حد لذلك".
كما وجه القيادي في "النهضة" عبد اللطيف المكي رسالة إلى الرئيس طالبه فيها بأن يكون "قراره بشأن المحكمة الدستورية منعرجاً إيجابياً نبني عليه برنامجاً للخروج من الأزمة"، مقراً بأنه "لا أحد ينكر أننا نمر بأزمة سياسية غير مسبوقة لأنها تتعلق بعدم التفاهم بين المؤسسات القيادية للدولة ما أدى إلى تعطل
في كثير من المجالات، ما أثر على قدرة بلادنا في إدارة الأزمتين الصحية والمالية، وعلى صورة تونس أمام العالم وبخاصة أمام شركائها".
الرئيس لن يختم
في المقابل، اعتبرت ليلى الحداد النائب عن حركة الشعب، التي كانت من بين الموقعين على طلب الطعن بدستورية القانون، أن "رد الهيئة لمشروع القانون يعطي رئيس الجمهورية صلاحية مطلقة برفضه، بخاصة وأنه الوحيد المخول تأويل النص بحسب الدستور، خصوصاً وأنه كان رفضه بعد ما صوت البرلمان عليه في قراءة أولى، إذ اعتبره مخالفاً لما جاء في نص الدستور، جراء عدم احترام البرلمان المواعيد القانونية لإنشاء المحكمة، التي حُددت بسنة بعد انتخاب مجلس النواب في نهاية عام 2014".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على خط الأزمة
في سياق متصل، دخل نوفل سعيد، شقيق رئيس الجمهورية، على خط الأزمة الدستورية، إذ رأى أن رد الهيئة مشروع القانون "يهدف إلى إحراج الرئيس بمطالبته بختم قانون غير دستوري"، مشيراً إلى أن "الهيئة المنتهية ولايتها، تدين نفسها وتثبت مرة أخرى أن رهان تنقيح القانون المتعلق بالمحكمة الدستورية هو رهان سياسي شكلاً ومضموناً ويندرج ضمن إطار الصراع مع رئيس الجمهورية، وتبرير ذلك بعدم توفر الأغلبية المطلوبة في الهيئة لاتخاذ القرار".
مناكفات أساتذة القانون الدستوري
وفتح قرار الهيئة، باب الخلافات في التحليل والتأويل على مصراعيه بين أساتذة القانون الدستوري في تونس، إذ اعتبرت الأستاذة منى كريم أن "رئيس الجمهورية ملزم بختم القانون ونشره في الجريدة الرسمية وعدم قيامه بذلك يُعتبر خرقاً جسيماً للدستور". في المقابل، اعتبر الأستاذ أمين محفوظ أن "الرد بحسب توصيفه أعطى لرئيس الجمهورية صلاحية الختم من عدمها في ظل غياب أي نص دستوري يجبره على ذلك"، موضحاً أن "رفض الرئيس ختم القانون سليم ولا يمكن التشكيك به، وموضوع مشروع القانون لم يعد له قيمة مضافة قانوناً".
قرار الرئيس والسجال السياسي
كذلك اختلفت الآراء بين مَن اعتبر عدم توقيع الرئيس على مشروع القانون المذكور، خرقاً جسيماً للدستور يتيح لمجلس النواب بدء إجراءات عزله من منصبه، وبين مَن اعتبر ذلك حقاً يختص به بصفته حامي الدستور والمخول تأويل نصوصه. وقال المحامي حازم القصوري إن "هذا السجال يساهم في إضاعة للوقت لأن الجميع يعلم خفايا طرح الحزام السياسي للحكومة مشروع قانون المحكمة الذي عطلته حركة النهضة لست سنوات منذ بداية عام 2015 والهدف هو استخدامها كسيف لتهديد الرئيس ومحاولة البيع والشراء في القضايا السياسية التي تهم مستقبل تونس"، مضيفاً أن "التهديد بمباشرة إجراءات العزل لا تستقيم في ظل غياب المحكمة الدستورية التي لم ولا يبدو أنه سيُكتب لها وجود في ظل الدستور الحالي الذي تبين أنه الدستور الأكثر فشلاً في تاريخ الدولة التونسية".
في انتظار الحسم
وعلى ضوء التطورات الأخيرة، كيف سيكون قرار الرئيس، وماذا سينتج عنه من تبعات وهل سيفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الصراعات بانتظار الوصول إلى حل لا يبدو متاحاً في ظل الظروف الراهنة التي تعيشها البلاد جراء الصراعات السياسية. ويرى مراقبون أن هذه الأزمة ستفاقم مشاكل تونس سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.