سخر الجميع من السلحفاة حين تحدت الأرنب في مسابقة الجري، لكنها فازت عكس كل التوقعات المنطقية على مر عقود طويلة. وحين صادق الفيل النملة تعجب الجميع وتوقعوا فشل الصداقة غير المتكافئة، فكيف لفيل كبير ضخم أن يصادق نملة لا تكاد ترى بالعين المجردة؟ لكن الصداقة استمرت وتم توارث قصصها وحكاياتها من جيل إلى جيل. وقبل أسابيع قليلة، وتحديداً في مارس (آذار) الماضي، امتلأ الأثير العنكبوتي بـ "كوميكس" ساخرة ونكات مجلجلة ودعابات حادة، وأُتخم الإعلام في الغرب والشرق بإشارات متهكمة عن السفينة الكبيرة التي جنحت ثم علقت في قناة السويس والحفار (الكراكة) الصغير الذي هب لتعويمها أمام أعين العالم وألسنته المسنونة.
ألسنة ساخرة
ألسنة العالم الحادة المنعكسة سخريات لاذعة، بعضها اقتصر على عرض صور فوتوغرافية حيث مفارقة الحجمين المتضادين، أساء لسمعة الحفار الصغير، وشكك في قدراته أمام حجم السفينة "إيفرغيفن" التي يبلغ عرضها 59 متراً وارتفاعها 400 متر وإجمالي حمولتها 224 ألف طن وسعة حمولة حاوياتها 129 ألف طن.
وعلى الرغم من أن نجاح مصر في تعويم السفينة العملاقة الجانحة التي سدت المجرى الملاحي الأهم في العالم "قناة السويس" تماماً لمدة سبعة أيام كاملة تم من خلال عشرات المعدات البحرية والحفر، فإن دور الحفار متناهي الصغر كان محورياً بشهادة المتخصصين والخبراء.
مسؤولو قناة السويس أوضحوا أن الجنوح استدعى دخول حفار صغير ليكون على مسافة قريبة من السفينة من دون إلحاق الضرر بجسمها ليتمكن من العمل في الجزء الملاصق منها لتكسيات (الأجزاء المبطنة من جسم القناة المغموسة في المياه) القناة المائلة بنحو 70 متراً. وهنا تألق الحفار الصغير وصار مثار اهتمام الجميع في البداية بدافع السخرية، ثم بدافع حب الاستطلاع لأهمية الدور الذي قام به.
مسافات مقلقة
أهمية الدور تلخص في وجود الحفار على مسافة قصيرة من السفينة العملاقة بلغت نحو 10 أمتار فقط. وتلخص دوره في رفع الرمال والردش (قطع الطوب الصغيرة) من التسكيات الملاصقة للسفينة بحرص شديد. وبدا الأمر كأن أحدهم يحفر حفرة عميقة مستخدماً ملعقة صغيرة. عمل دؤوب دون كلل أو ملل أو تأثر بالأجواء الساخرة التي عمت أرجاء العالم بكل اللغات. وبالفعل نجح الحفار في تخليص مقدمة السفينة من عبء الرمال ما مكن القادرات من ذنبها بعد سبعة أيام عجاف.
الأيام العجاف لم تسفر فقط على نجاح كبير في تعويم السفينة وإعادة فتح المجرى الملاحي الذي تسبب تعليقه في خسائر بالمليارات وتأخر وصول البضائع لمحال عملاقة مثل "وولمارت" و"أيكيا" و"ديكسونز" و"تسكو" ومصانع تصنيع السيارات والتكنولوجيا والكمامات والمعدات الطبية المختلفة المستخدمة في مواجهة الجائحة، بل أسفر عن قرب صدور قصة للأطفال في الولايات المتحدة الأميركية عنوانها "السفينة الكبيرة والحفار الصغير: قصة من قناة السويس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحفار الصغير والسفينة الكبيرة
القصة تتناول نجاح الحفار الصغير في تخليص السفينة العملاقة وإعادة فتح القناة، أو كما كتب أحدهم ساخراً "كيف يطلبون من هذا الشيء الصغير أن ينقذ نظيره الكبير؟" أو "كيف يمكن لهذا الحفار القزم أن ينقذ ربع اقتصاد العالم؟" (حيث المليارات الضائعة بسبب توقف عشرات السفن في القناة لمدة أسبوع كامل وغلق المجرى ما ترتب عليه تكدس السفن التي كانت في طريقها إلى قناة السويس في موانئ عدة حول العالم انتظاراً لحل أزمة السفينة).
يقول مؤلف القصة ريان بيترسون، إن الهدف من الكتاب هو التأكيد على أن "التفاؤل الساذج" أحياناً يمتلك من القوة والإرادة ما يمكّنه من إزالة العوائق الكبرى التي توجد في الطريق. التفاؤل الذي اعتبرته الملايين ساذجاً، مكن الحفار الصغير من إزالة العقبة العملاقة عكس كل التوقعات والنكات والسخريات.
البطل المغوار
القصة الجديدة التي تطرح في الأسواق في 12 أغسطس (آب) المقبل، فتح باب حجز نسخ منها عبر الإنترنت سعرها 25 دولاراً أميركياً تقدم الحفار المصري الصغير باعتباره بطلاً مغواراً.
يقول المؤلف في مقدمة الكتاب، إن ما فعله الحفار يعلمنا الإصرار على القيام بالعمل الصحيح، حتى لو كان نصف العالم يسخر منا ويؤكد فشلنا مسبقاً. كما تعلم القصة الأطفال مبادئ اللوجستيات العالمية الخاص بسفن الحاويات. يشار إلى أن المؤلف ريان بيترسون هو رئيس مجلس إدارة شركة "فلكس بورت" أبرز الشركات المتخصصة في نقل البضائع جواً وبراً وبحراً والتخليصات الجمركية.
الطريف أن الكتاب المصور خضع لقراءات ومراجعات دقيقة ومعملية أثناء الكتابة، إذ دأبت زوجة المؤلف على قراءة ما ينتهي زوجها من كتابته على ابنتهما البالغة من العمر خمسة أعوام لتقوّم المكتوب وتتمكن أمها من تقديم تقرير لبيترسون حول مدى مناسبة القصة للأطفال وتقويم جودة الإثارة ومواءمة المعلومات للسن الصغيرة.
معجبون ومتابعون
ومنذ غرد بيترسون عن كتابه الجديد، والردود تتوالى بين معجب بالفكرة ومستفسر عن السن المناسبة لقراءتها ومعترف بالتقليل من قيمة وقدرة الحفار الصغير. كثيرون قالوا إن صغارهم دأبوا على متابعة مجريات أزمة قناة السويس على مدار الأيام السبعة، وكان الحفار الصغير محور المتابعات وحديث الصغار. تعامل الكثيرون من أطفال العالم مع الحفار باعتباره البطل الصغير المغوار في الوقت الذي اعتبره الكثيرون من الكبار هزلاً ونكتة. واجتهد آخرون وبحثوا عن صورة سائق الحفار المصري الشاب العامل في قناة السويس ونشروها في إطار تعليقاتهم على الكتاب، وهو ما أعاد أزمة السفينة وبطولة الحفار إلى الواجهة. وأعلن بيرتسون أن مبيعات الكتاب ستخصص لدعم الهند في كارثتها الصحية الحالية، إذ تواجه موجة شرسة من موجات "كوفيد-19"، وذلك ضمن الجانب الخيري من نشاط الشركة الداعم للحالات الطارئة والحرجة.
وكان بعض المصريين اقترح عقب انتهاء أزمة السفينة العالقة وبزوغ الدور البطولي للحفار الصغير أن يتم ابتكار وإنتاج دمي صغيرة تمثل السفينة العالقة والحفار البطل لتوثق ما جرى، إضافة إلى إنتاج فيلم كرتون لهذه الشخصيات أسوة بشخصية "بوب البناء" وكوكبة من العربات ومعدات أعمال البناء وكل منها له شخصية واسم جذبا اهتمام الأطفال على مدار سنوات.
واعتبر البعض المقترح وسيلة لتسليط الضوء على قدرات مصر في حل الأزمات، التي عادة تستدعي اهتمام المعارضين المقيمين في الخارج للدق على أوتار ما يسمونه بـ "فشل الدولة" في كل كبيرة وصغيرة، حيث يجري تسييس كل الأحداث والحوادث. الطريف أن بيرتسون يتخذ من صلاة تقول كلماتها "إلهي، البحر كبير جداً ومركبي صغير جداً"، وصفاً لعنوان حسابه الشخصي على "تويتر".