ما إن أعلنت موسكو عن اتفاق "الثنائي" فلاديمير بوتين ودميتري ميدفيديف حول عودة كل منهما إلى منصبه السابق "المتفق عليه" في ما بينهما (بوتين إلى عرشه في الكرملين، وميدفيديف كرئيس للحكومة الروسية) مع بداية الولاية الثالثة لفلاديمير بوتين في عام 2012، حتى أصابت كثيرين من ممثلي الأوساط السياسية الغربية مشاعر خيبة الأمل، وكانوا يتوقعون أن يستمر الرئيس السابق ميدفيديف الليبرالي النزعة في سدة الحكم في الكرملين.
ولم يمض من الوقت كثير حتى اندلعت الأزمة الأوكرانية عام 2014، لتزيد معها حدة التوتر في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها من بلدان الاتحاد الأوروبي. وهي القوى التي لم تخف يوماً ما يساورها من رغبات في تحقيق مخططاتها التي استهدفت تقسيم روسيا وتغيير الأنظمة الحاكمة في الجمهوريات السوفياتية السابقة من خلال مخططات "الثورات الملونة".
عميل أجنبي
وفي محاولة لإحكام السيطرة على الأوضاع في الداخل الروسي، تحول الرئيس بوتين إلى طرح عدد من المبادرات التي تلقفها الحزب الحاكم لإقرارها بقوانين تحد من حركات المعارضة في الداخل، وتفرغ المخططات الغربية من محتواها، وتحد من نشاط منظمات المجتمع المدني، وتفرض السيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
وعلى الرغم من كل القوانين التي تقر "الرقابة غير المعلنة"، وسيطرة الدولة على الغالبية الساحقة من الصحف والقنوات التلفزيونية، فقد أقر مجلس الدوما مجموعة جديدة من القرارات التي تزيد من تشدد السياسات، منها ما يعتبر "منظمات المجتمع المدني" عملاء أجانب، ويفرض تسجيلها في وزارة العدل، ويخضع نشاطها للرقابة بما فيها المالية، إلى جانب ما جرى اتخاذه من قرارات تتعلق بالتحكم في مواقع التواصل الاجتماعي.
وإذا كان التشدد يمكن أن يكون مطلوباً، لأسباب قد ترتبط بنشاط الأجهزة الأمنية الأجنبية، بالنسبة إلى منظمات المجتمع المدني التي تعتمد في نشاطها بالدرجة الأولى على التمويل الخارجي، فإنه يصبح من غير الممكن أن يستقيم مثل هذا الوضع بالنسبة إلى الصحافة الأجنبية، وحتى الروسية في الداخل، التي صارت تحمل ذات الكنية "عملاء أجانب"، وتخضع للقانون الذي يبدو وكما يقال بالعربية "حمالاً لكل التأويلات"، شأنهم في ذلك شأن "العملاء والجواسيس". وذلك ما توقف عنده بالرفض والإدانة الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف، حين اعترض على تسمية "عميل أجنبي"، التي صار مدعواً لأن يحملها بحكم رئاسته "لصندوق الأبحاث والدراسات السياسية والاستراتيجية" في موسكو.
ويتساءل كثير من المراقبين والمعنيين من ممثلي الصحافة الأجنبية عما يمكن أن تكون عليه الحال اليوم، بعد أن كانت هذه الصحافة ومنذ سنوات الاتحاد السوفياتي السابق، أي ما يزيد على نصف القرن تابعة لوزارة الخارجية التي تتولى اعتماد افتتاح المكاتب الصحافية الأجنبية والعاملين فيها، بينما صار من المطلوب بموجب القانون الجديد، أن تتولى وزارة العدل الروسية تسجيل هذه المؤسسات الصحافية كـ"عميل أجنبي" شأنها في ذلك شأن منظمات المجتمع المدني.
فهل يمكن أن نشهد تحول الصحافة الأجنبية إلى تبعية وزارة العدل شأن الحال بالنسبة إلى منظمات "المجتمع المدني"، في الوقت الذي ثمة من لا يستبعد، على سبيل التندر، احتمالات تحويلها إلى "وزارة الداخلية" التي كانت مسؤولة وحتى آخر سنوات الاتحاد السوفياتي السابق عن الإشراف على مستشفيات الصحة النفسية؟!
روسيا: الشيء ونقيضه
وكان الحزب الحاكم قد أوعز إلى "حزب العدالة الروسية" المعارض، على الرغم من اعتباره من جانب كثيرين "موالياً للكرملين"، التقدم بمشروع القانون الذي هب الحزب الحاكم "الوحدة الروسية" مدعوماً بأصوات نواب الحزبين الشيوعي والليبرالي الديمقراطي إلى تأييده وإقراره رداً على القرار الأميركي في شأن "روسيا اليوم" و"سبوتنيك". وكان كثيرون قد سارعوا إلى رفضه وإدانته وتأكيد عدم مشروعيته، في نفس الوقت الذي راحوا يتساءلون فيه عن منطقية أن تقوم موسكو التي طالما عرف عنها التمسك بالمثل والمبادئ، بإدانة الشيء ثم التحول إلى تنفيذ مثيله؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من التأكيد المستمر من جانب كل الأجهزة الرسمية في موسكو لتبني مبدأ "التعامل بالمثل" في تعاملها مع البلدان الأجنبية، فقد ابتعدت الأجهزة المختصة عن هذا المبدأ، وفضلت تعميم القانون ليشمل ممثلي كل بلدان العالم في موسكو، بما فيها البلدان الصديقة، بل ولم تعتد موسكو الرسمية في ما سبق وقالته تنديداً وإدانة للقانون الأميركي. وعادت السلطات الروسية لتفرض القانون ذاته الذي سبق ودانته بالنسبة إلى أجهزتها الإعلامية، على كل وسائل الإعلام الأجنبية بما فيها التي طالما أكدت غير مرة وقوفها إلى جانب موسكو وقضاياها ضد كل المحاولات الأجنبية التي استهدفت أمنها وأمن مواطنيها.
ويتساءل المراقبون في موسكو وخارجها، كيف للأطراف المعنية التي وقع عليها مثل هذا الضرر قبول مثل هذا الواقع؟ وماذا إذا انتفضت هذه المكاتب الإعلامية لتطالب بلادها بتطبيق القرار نفسه على ممثلي الأجهزة الإعلامية الروسية الصديقة في بلدانها؟
قيود "الحرب الباردة المقيتة"
ويمضي المراقبون في تساؤلاتهم عما يمكن أن تمضي موسكو معه على طريق المواجهة مع الدوائر الغربية، بما في ذلك احتمالات العودة إلى ما كانت تطبقه من قيود "الحرب الباردة المقيتة" التي طالما عانى منها ممثلو كل البلدان الأجنبية، بما فيها البعثات الدبلوماسية والممثليات التجارية الأجنبية في موسكو، ومنها ما تعلق بالحد من حرية الحركة والانتقال إلى أبعد من أربعين كيلومتراً من محل الإقامة والعمل، وطلب تأشيرة للخروج إلى ما هو أبعد من ذلك. وذلك ما ظل معمولاً به حتى تاريخ "المصالحة التاريخية" بين الرئيسين غورباتشوف وجورج بوش، وتوقيع إعلان نهاية "الحرب الباردة" في مالطة في ديسمبر (كانون الأول) 1990.
غير أنه من اللافت في هذا الشأن، أن يظهر بين جموع الصحافيين ممن أعربوا عن إدانتهم وسخطهم تجاه صدور مثل هذا القانون، من يقف مدافعاً عنه، وهو ما سجله ألكسي فينيديكتوف رئيس تحرير إذاعة "صدى موسكو"، بقوله، إنه من المثير للدهشة والأسف أن يظهر من يمكن أن يؤيد هذا القانون، بدلاً من الوقوف إلى جانب زملاء المهنة والدفاع عن مصالحهم. وذلك ما فتح الباب أمام أصوات أخرى سارعت إلى إعلان رفضها للقانون، وتأكيد "أنه أمر مقزز أن نجد من الصحافيين الأجانب من يعرب عن تأييده للقانون". فلا أحد من الشرفاء يمكن أن يطيق كنية "عميل أجنبي"، حتى وإن اختلق المسؤولون مختلف المبررات والأعذار، ومهما كانت أشكال الضغوط والممارسات التي لجأ إلى مثلها عدد من منظمي لقاء سان بطرسبورغ.
وكانت السلطات الروسية قد أعلنت بدء تطبيق التشريعات الخاصة بـ "العملاء الأجانب" اعتباراً من أول مارس (آذار) 2021، بما في ذلك تنفيذ ما نصت عليه هذه التشريعات من عقوبات، ومنها فرض غرامات كبيرة، إلى جانب المسؤولية الجنائية التي تصل عقوبتها إلى السجن مدة تصل إلى خمس سنوات.
وأشارت المصادر الروسية الرسمية إلى تعديل المادة 330.1 من القانون الجنائي للاتحاد الروسي، بما يكفل تطبيق العقوبة الجنائية بدلاً من العقوبة الإدارية عن "التهرب" من التسجيل ضمن قائمة "العملاء الأجانب" لدى وزارة العدل الروسية. وتتدرج العقوبات من الغرامة التي تصل إلى 300 ألف روبل (ما يزيد على أربعة آلاف دولار) أو العمل الإجباري لمدة تصل إلى 480 ساعة، أو العمل الإصلاحي لمدة تصل إلى 480 ساعة، وحتى عقوبة السجن حتى خمس سنوات.
ولعل ما أثار حفيظة الإعلاميين الروس والأجانب في موسكو وخارجها على نحو أكثر من ذي قبل، هو ما ساد الأوساط الإعلامية الغربية من شكوك تجاه الأسباب التي أعادت هذه القضية إلى سطح الأحداث مجدداً، على الرغم من أن القانون الأميركي حول حظر نشاط "روسيا اليوم" و"سبوتنيك" في الولايات المتحدة، ما لم تلتزم تسجيل مكاتبها كوكيل أجنبي، كان قد صدر في عام 2017 أي منذ قرابة الأربع سنوات، وما كانت موسكو سارعت بالرد عليه بإقرار قانون مماثل.
وكانت موسكو قد أعلنت آنذاك أن تطبيق هذا القانون سوف يقتصر على البلدان التي تتخذ موقفاً من وسائل الإعلام الروسية في الخارج، لكنها عادت ونكصت عن وعودها، حيث بدأ الحديث مجدداً عن ضرورة أن يشمل هذا القانون كل وسائل الإعلام الأجنبية والروسية التي تتلقى تمويلاً أجنبياً.
ومن اللافت في هذا الصدد أن الرئيس فلاديمير بوتين قد تطرق إلى هذه القضية في لقاء سابق جمعه مع رؤساء تحرير وسائل الإعلام الروسية في فبراير (شباط) 2021، وقال فيه، إن لا رغبة لديه في حجب أو تقييد شيء ما من دون سبب، لكنه لا يستبعد ذلك في حال إجراء أنشطة عدائية ضد روسيا، وهي الأنشطة العدائية التي وصفها بأنها "غير مقبولة".
رسائل طمأنة
وحرص الرئيس الروسي على طمأنة الأوساط الصحافية بقوله، "إن روسيا لن تتحرك ضد شبكات الإنترنت الأجنبية إلا في حال إقدام الأخيرة على أنشطة عدائية". ومضى "إن السلطات لن تلجأ إلى حجب أي شيء" ما لم تمتلك روسيا "منتجاً بديلاً مماثلاً"، وحتى بعد ذلك لن يحدث ذلك إلا "مع الأخذ بالاعتبار الحالات المعينة".
وأضاف، "لن نفعل شيئاً (ضد الشبكات الأجنبية) لمجرد أنها لا تروق لنا، أو لأنها كتبت شيئاً عن قيادات ما. قد يحدث مشكلات لمواطنينا ومستهلكينا بصورة مصطنعة إن تصرفنا ضد هذه الشبكات، لن نفعل ذلك طبعاً، لكن في حال هاجمتنا فلن يبقى أمامنا سوى أن نرد عليها بالطبع. وآمل أنها هي الأخرى ستدرك ذلك أكثر فأكثر، وستغير سلوكها عندما ستعلم أنها قد خسرت انفرادها في السوق مع توفر البديل" الروسي.
وكشف الرئيس بوتين عن قناعته بأن الشبكات الأجنبية ستغير سلوكياتها ما أن ترى أن هناك بديلاً، وأنها لم تعد تحتكر هذا السوق. وعلى الرغم من أن حديث الرئيس الروسي ينسحب في مجمله على علاقة بلاده في وسائل الإعلام الغربية في معظمها، فإن ما نشهده من تصرفات وتصريحات تصدر عن مصادر إعلامية رسمية مسؤولة، تتجاوز ما يجب أن تتحلى به من دبلوماسية، يوغر الصدور ويدفع إلى مزيد من الشكوك تجاه احتمالات أن يظل القانون الجديد سيفاً مصلتاً على "رقاب وأقلام" الصحافيين غير الروس، من أصحاب الرأي والموقف، وممن لا استعداد لديهم "للوقوف في الصف انتظاراً للتعليمات وقبول الامتيازات".