بعد إطلاق سراح القيادي في "الحشد الشعبي" قاسم مصلح، تتزايد التساؤلات في العراق بشأن مدى إمكانية إيفاء الحكومة بتعهداتها إزاء الشارع، خصوصاً في ما يتعلق بملف قتَلة الناشطين وعمليات الاغتيال المستمرة في البلاد، وما إذا كانت ستتمكن من تجاوز الضغوطات الكبيرة التي تمارسها الميليشيات في تلك القضايا.
وعادت مخاوف المحتجين العراقيين إلى الواجهة مرة أخرى، بعد بادرة أمل أحدثتها عملية اعتقال مصلح، ويتحدث الناشطون عن أن هذه الحكومة أخفقت في تحقيق كل التعهدات التي قطعتها على نفسها، وعلى رأسها محاسبة القتَلة وتقويض نفوذ الميليشيات على الدولة.
وكان لخبر إطلاق سراح القيادي في الحشد الشعبي وقع كبير بين أوساط الناشطين، حيث رأى قسم كبير منهم أن الميليشيات نجحت بالضغط مرة أخرى على الحكومة لتقديم تنازلات للسلاح المنفلت.
لا أدلة
وكان القضاء العراقي أعلن في 9 يونيو (حزيران) الحالي، في بيان أن "محكمة التحقيق لم تجد أي دليل يثبت تورط مُصلح باغتيال الناشط إيهاب الوزني"، وكشف البيان عن أن الاتهامات التي وجِهت إلى مصلح كانت تتعلق بقضية اغتيال الوزني، وأشار بيان مجلس القضاء إلى أنه "بعد الاستيضاح من القضاة المختصين بالتحقيق، تبيّن أن قاسم مصلح تم اتهامه بقتل الناشط ايهاب الوزني، لكن لم يقدَم أي دليل ضده، بخاصة أنه أثبت بموجب معلومات جواز السفر أنه كان خارج العراق عند اغتيال الوزني وأنكر ارتكابه لهذه الجريمة أو اشتراكه بها".
وأشار البيان إلى أن محكمة التحقيق "لم تجد أي دليل يثبت تورطه في تلك الجريمة بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء بالتحريض أو غيره، لذا تم اتخاذ القرار بالإفراج عنه بعد أن أودع التوقيف 12 يوماً"، مبيناً أن عائلة الوزني "لم تقدم أي دليل بخصوص ذلك حسب القانون".
وكانت والدة الناشط الكربلائي، إيهاب الوزني، كشفت خلال الأيام الماضية أن مصلح هدد ابنها قبل اغتياله.
وسبق البيان تداول منصات مقربة من الميليشيات صوراً ومقاطع فيديو قالت إنها التقطت بعد خروج مصلح من منزل رئيس هيئة "الحشد الشعبي" فالح الفياض، متوجهاً إلى محل اقامته في محافظة كربلاء، وأظهرت مقاطع مصورة أخرى مُصلح داخل العتبة الحسينية في كربلاء.
مخاوف الناشطين
ويأتي إطلاق سراح مُصلح بعد أسابيع من حملة واسعة أطلقها المحتجون حول إنهاء فصل الإفلات من العقاب في العراق، حيث أعادت تلك القضية مخاوفهم إلى الواجهة مرة أخرى، في وقت رجّح مراقبون تصاعد حدة الحراك الاحتجاجي خلال الفترة المقبلة.
وقال الناشط العراقي البارز زايد العصّاد، إن "المحتجين لم يكن لديهم إيمان بجدية حكومة (مصطفى) الكاظمي في فتح ملف محاسبة القتلة، لكن الملاحقات الأخيرة ووصولها إلى حدّ اعتقال قيادي في الحشد الشعبي، أشعرتنا بإمكانية أن تقوم الحكومة بتحقيق العدالة ولو نسبياً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعتبر العصّاد أن الإفراج عن مصلح "قوّض تطلعات الناشطين سريعاً"، مضيفاً أن "إطلاق سراح متهم بلائحة طويلة من العمليات الإرهابية لا يمكن فهمه إلا في سياق نجاح الميليشيات مرة أخرى في فرض قواعد اللعب على النظام السياسي في العراق"، وتابع أن الدولة العراقية "ما تزال غير قادرة على اتخاذ موقف حقيقي، أو حتى مجرد الإشارة إلى أي طرف سياسي متورط بقتل عراقيين"، وأشار العصّاد إلى أن ما جرى "يؤكد الانطباع بأن الحشد الشعبي والميليشيات هم مَن يمتلكون اليد العليا على الدولة العراقية، الأمر الذي يزيد مخاوف الناشطين ويعزز شكوكهم في قدرة الدولة على حمايتهم وإيقاف مسلسل الاغتيالات المستمر بحقهم".
ويبدو أن الاحداث الأخيرة جعلت المحتجين العراقيين ينظرون إلى الميليشيات بوصفها "دولة موازية تتحكم بالقرار السياسي والأمني والاقتصادي للبلاد"، على حدّ وصف العصّاد الذي لفت إلى أن هذا التحول في شكل النظام العراقي هو الذي "خلق دعوات لمقاطعة الانتخابات المقبلة لأنها ستكون تحت سطوة السلاح الميليشيوي".
دعوات للتوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية
ويبدو أن اليأس من قيام السلطات العراقية بحسم ملف القتلة لم يعد مقتصراً على أوساط المحتجين بل تسرب إلى شخصيات سياسية بارزة باتت تدعو إلى التوجه نحو المحكمة الجنائية الدولية.
وقال رئيس "ائتلاف الوطنية"، إياد علاوي، في تغريدة على "تويتر"، "من مصلحة العراق والدول الأخرى اليوم عدم الاستغناء عن المحكمة الجنائية الدولية ودعم دورها في إعمال مبدأ المحاسبة للمتورطين بجرائم الاغتيال"، وأضاف أنه "بغير ذلك، فإن الرادع لعصابات الإرهاب والسلاح المنفلت سيبقى غائباً وستزداد وتكبُر سطوة تلك العصابات على حساب أمن واستقرار العراق والدول الأخرى".
رسالة ضعف وخضوع
ولا يبدو أن صراع المحتجين العراقيين مع السلطات العراقية سينتهي، تحديداً في ما يتعلق بمطالبتهم بإنهاء فصل الإفلات من العقاب والكشف عن قتلة المتظاهرين والجهات السياسية والميليشيات التي تقف خلفهم.
في المقابل، رأى رئيس مركز "كلواذا" للدراسات، باسل حسين، أن "إطلاق سراح قاسم مصلح سيقوض إلى حد كبير المسعى الذي أُطلق في برنامج الحكومة بمحاسبة قتلة المتظاهرين ويجعله شعاراً غير قابل للتنفيذ ويقلل من مصداقية الحكومة في التعامل مع هذا الملف"، وأضاف أن "ما جرى يمثل رسالة ضعف وخضوع من قبل الحكومة"، مبيناً أن "الرأي العام العراقي بات ينظر إلى الحكومة بأنها عاجزة عن مواجهة المليشيات".
ولفت إلى أن ما جرى جعل من رئاسة الوزراء "مؤسسة النصف قرار، أي أنها تقوم في البدء بعمل صائب ثم تنهيه بأسوأ ما يكون"، مردفاً، "هذا ما حدث مع خلية الكاتيوشا التابعة لـكتائب حزب الله وتكرر في قضية قاسم مصلح".
وبشأن إمكانية أن يقوّض ما جرى إمكانية استجواب القادة الأمنيين في البرلمان حول قضايا الاغتيالات، بيّن حسين أن "ليس هناك نية فعلية لاستجواب القادة الأمنيين، بل كل ما في الأمر انه تحول إلى استضافة شكلية"، وختم قائلاً إن "الوسط السياسي في العراق لا يحاول الاقتراب من جوهر المشكلة او إثارة قضايا حساسة تقترب من الميليشيات".
إشكالية بالنظام السياسي
وكان اعتقال مصلح أثار غضب فصائل "الحشد" التي قامت خلال الساعات الأولى لاعتقاله بتطويق المنطقة الخضراء الحكومية، فضلاً عن تصاعد لهجة شخصيات مقربة من أوساط المليشيات الموالية لإيران، وتلويحها باستخدام ما أطلقوا عليه "السيناريو اليمني"، وتناقلت وسائل إعلام محلية معلومات مفادها بأن التحقيقات مع مُصلح جرت في منزل رئيس هيئة "الحشد" فالح الفياض، الأمر الذي عده ناشطون تجاوزاً على السياق القانوني، ولم يتوقف الأمر عند التسريبات بخصوص مكان التحقيق مع مصلح، وأكدت ذلك شخصيات قيادية في تحالف "الفتح" البرلماني الذي يمثل غالبية الكتل التي تملك فصائل في الحشد الشعبي.
ورأى أستاذ العلوم السياسية هيثم الهيتي أن "عدم التحرك إزاء الميليشيات وإطلاق سراح قاسم مصلح، أمور لم تعد مستغربة، خصوصاً وأن الإشكالية باتت واضحة وتتعلق بالنظام السياسي العراقي وليست بالحكومة فحسب"، وأوضح أن "شكل النظام السياسي في العراق بُني على أساس منح الميليشيات مساحة أوسع بكثير من مساحة مؤسسات الدولة، ولذلك أصبحت الحكومة والمؤسسات الأخرى رهينة المزاج السياسي للفاعلين الرئيسين"، مبيناً أن هذا الأمر "يقلل بشكل كبير من احتمال إقدام الحكومة على أي تحركات إزاء الحشد الشعبي أو الميليشيات".
ولعل المتغيّر الرئيس الذي حصل خلال السنوات الماضية يتمثل في فهم الشارع العراقي بأن الحل يكمن في "تغيير النظام السياسي وليس الحكومة فحسب"، بحسب الهيتي الذي لفت إلى أن هذا المطلب بات يمثل "الإطار الرئيس في مطالب المحتجين العراقيين"، وتابع أن ما جرى "يؤكد عدم وجود نية حقيقية لحسم ملف قتَلة المحتجين سواء على مستوى إحالة ملفاتهم إلى القضاء العراقي أو على مستوى الاستجوابات في البرلمان التي يبدو أنها ستسوَّف"، مبيناً أن "البرلمان يمثل ركناً رئيساً من أركان النظام ولن يقدم على أي خطوات تدين فاعلين كبار في الوسط السياسي".