يتعرض رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سعد الحريري، المكلّف تأليف الحكومة، لانتقادات في بعض الوسط السياسي لكثرة غيابه عن لبنان بين الفينة والأخرى، وتعدد أسفاره بعد كل مرحلة من محاولات إخراج عملية التأليف من عنق الزجاجة، بحيث يطالبه خصومه ولا سيما رموز "التيار الوطني الحر" بأن يوجد في البلد، ويسعى إلى التفاهم مع رئيس الجمهورية، ميشال عون، على التشكيلة الحكومية، على الرغم من الخلافات بينهما. ويعتبر معظم الوسطاء أن لا بديل من اتفاقهما، طالما أن الحريري لن يعتذر عن المهمة حتى إشعار آخر، بعد مطالبته بالعدول عن هذه الفكرة من قبل دول عدة ورئيس البرلمان نبيه بري، الذي أكد أنه مقابل عدم قيام الحكومة، لا اعتذار للحريري، وذلك في سياق الخلاف بين رئيسَي البرلمان والجمهورية على مقاربة الملف الحكومي.
وفيما كان تبرير أسفار الحريري في الأشهر الماضية بأنها من أجل التحضير مع بعض الدول والهيئات الفاعلة في المجتمع الدولي من أجل تقديم المساعدة للبنان فور تشكيل الحكومة، أو لإطلاع قادة الدول المهتمة بلبنان على ما وصلت إليه جهود إنهاء أزمة الفراغ الحكومي، فقابل خلالها رؤساء دول ومسؤولين كباراً، وأبرز هؤلاء، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والمصري عبد الفتاح السيسي، والفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين، فضلاً عن إجراء محادثة هاتفية مع الرئيس فلاديمير بوتين أثناء زيارته موسكو، ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وبابا الفاتيكان فرنسيس. كما اجتمع إلى كبار المسؤولين في كل هذه العواصم.
انتقادات لسفر الحريري
وكان فريق الحريري الاقتصادي باشر منذ تكليفه تأليف الحكومة في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، تحضير ملفات الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، ونسق بعيداً من الأضواء جانباً من هذه الملفات مع فريق صندوق النقد الدولي المعني بالوضع اللبناني، باعتبار أن الاتفاق مع الصندوق هو الشرط الأول لتقديم المساعدة للبنان من قبل الصندوق نفسه وهيئات دولية أخرى ودول مانحة. وكان للقاءات التي أجراها الحريري وقع إيجابي لجهة تواصل مسؤول لبناني مع الخارج المواكِب للأزمة اللبنانية، في ظل العزلة التي تتسم بها علاقات أركان الحكم مع الدول الفاعلة، على الرغم من اتهام الرئيس عون له بـ"الهرب من مسؤولية تأليف الحكومة". وأشارت المعلومات التي تسربت بعد كل زيارة إلى أنه تناول الأزمة اللبنانية، وإمكانات المساعدة في تخفيف معاناة اللبنانيين، والتمهيد للمرحلة المقبلة، التي تشمل خططاً ومشاريع للاتفاق مع صندوق النقد الدولي على الإصلاحات، لجلب أموال إلى البلد، يؤدي استثمارها إلى نهوض الاقتصاد المحلي.
في المقابل، يرى الذين ينتقدون حركة سفر الحريري في الشهرين الماضيين، أنها اقتصرت على دولة الإمارات باستثناء زيارة واحدة لباريس، حيث اجتمع إلى بعض أعضاء خلية الأزمة الفرنسية المولجة متابعة أزمة لبنان.
3 أجندات
وبينما يقول قياديون في "تيار المستقبل" إن الحريري على تواصل دائم مع المعنيين بتذليل عقد التأليف على مدى الساعة أثناء سفره، ولا سيما مع رئيس البرلمان نبيه بري، فإن وزيراً سابقاً محايداً يواكب حركة الاتصالات الحكومية يرى أن سبب غيابه هو أن المسرح السياسي في لبنان تتوزعه أجندات عدة على الشكل التالي:
أولاً، أجندة الفريق الرئاسي العوني المرتاح لممارسة الحكم بمعزل عن حكومة كاملة الصلاحيات فيعتمد أسلوباً هو أقرب إلى نظام "الجماهيرية" (الليبية أيام معمر القذافي)، مستغنياً عن وسائط الحكم في نظام برلماني ديمقراطي وتشاركي. وهو يعقد الاجتماعات ويصدر التعليمات لمعالجة المشاكل، التي يبقى معظمها نظرياً ولا تحقق المطلوب إلا بقيام حكومة كاملة المواصفات الدستورية.
ثانياً، أجندة فريق الثنائي الشيعي الذي ينقسم إلى نصفين، واحد يستند إلى رؤية بري الذي يعتبر أن البلد في أمسّ الحاجة إلى إحياء وبناء نظام الحكم لتنتظم أمور البلد، والنصف الثاني، موقفه مزدوج لأنه من جهة بحاجة إلى الدولة اللبنانية واستمرارها، لأنها إذا انهارت فسينكشف وبالتالي تتعاطى معه سائر الدول على أنه مجرد عصابة مسلحة تستفيد من غياب المؤسسات الرسمية، ومن جهة ثانية يخضع هذا الموقف إلى حاجات المشروع الإقليمي الإيراني بالحفاظ على القبضة الإيرانية على البلد، بانتظار نتائج مفاوضات فيينا حول رفع العقوبات عن طهران.
ثالثاً، أجندة الحريري الذي بعد أكثر من ثمانية أشهر على تكليفه من دون نجاح، بات ضمناً غير متحمس لتشكيل الحكومة، لأن التأخير الذي حصل يجعل من الصعب الحصول على مساعدات مالية من أجل إنقاذ اقتصاد البلد، لا سيما من دول الخليج. ويرى أصحاب هذا الافتراض أن رئيس الحكومة المكلّف أدرك أن الانطباع لدى هذه الدول بأن "حزب الله" هو المتحكِّم بتشكيل الحكومة عن طريق حليفه عون، سيحول دون تقديم دعم لها.
خيار تقديم تشكيلة حكومية جديدة والاعتذار
وبصرف النظر عن مدى صحة هذا التقييم لجوانب الأزمة، فإن مَن يطالبون الحريري بتحرك أكثر فعالية لتنشيط عجلة التأليف، طالما أنه أجّل خيار الاعتذار، يرون أنه على الرغم من تفهم موقفه المعلَن بأنه عقد 18 اجتماعاً مع رئيس الجمهورية وقدم لائحة من 18 وزيراً في 9 ديسمبر (كانون الأول) الماضي رُفضت، وقوله في خطاب ألقاه في البرلمان الشهر الماضي إن "المطلوب هو التخلص مني"، عليه أن يزور القصر الرئاسي ويتقدم بتشكيلة حكومية جديدة للرئيس عون، تستند إلى بنود مبادرة بري، التي وافق هو عليها، أي حكومة من 24 وزيراً من الاختصاصيين غير الحزبيين، لا ثلث معطلاً فيها لأي فريق، وموزعة بين ثلاثة تحالفات كبرى بالتساوي أي ثلاث ثمانيات. وسبق أن أشارت "اندبندت عربية" إلى أن البطريرك الماروني، الكاردينال بشارة الراعي، كان طالب الحريري بخطوة من هذا النوع في اجتماعَين بعيدين من الأضواء عُقدا بينهما قبل أكثر من ستة أسابيع، وأن الرئيس المكلّف وعده بذلك، لكنه لم يفعل، ما أزعج الراعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويطالب هؤلاء الحريري بالإقدام على هذه الخطوة على الرغم من معرفته بأن عون وباسيل يتمسكان بعقدة رفضهما أن يسمي الرئيس المكلَّف وزيرَين مسيحيَّين، بحجة أن اختيار المسيحيين حق للرئيس المسيحي. وهو أمر إذا وافق الحريري عليه يعني تسليمه بحصول الفريق الرئاسي على أكثر من الثلث المعطل في الحكومة، عبر نسف صيغة توزيع تسمية الوزراء بشكل متساوٍ على قاعدة الثلاث ثمانيات. إلا أن المستعجلين كي يتقدم الحريري بلائحته يرون أن يترك حل مشكلة تسمية الوزيرَين المسيحيَّين لوساطة بري و"حزب الله"، الذي كان وعد بمساعدة رئيس البرلمان في التعامل مع حليفه باسيل لإقناعه بالتنازل وتليين موقفه من هذا الشرط وغيره (ولم يفلح بذلك). لكن بعض محيط الحريري يبرر تريثه في تقديم لائحة حكومية جديدة إلى عون بانتظار ما ستؤول إليه اتصالات "حزب الله" مع النائب باسيل، الذي كان عهد إلى أمينه العام، حسن نصر الله، دور الوساطة، قائلاً إنه يرتضي بما يقبل به نصر الله لنفسه، على الرغم من انزعاج قيادة الحزب من نسف باسيل مبادرة بري التي كان نصر الله أيدها.
تأجيل الاعتذار للاتفاق على البديل قبله
ومع أن بعض الذين يدعون الحريري إلى الإقدام على هذه الخطوة يدركون سلفاً أنها ستفشل، بدليل انتقال الفريق الرئاسي إلى الهجوم على وساطة بري لا الحريري وحده، نظراً إلى معاكسة الشروط الرئاسية لوساطته، فإن أوساط الرئيس المكلَّف تشير إلى أن جملة عوامل تتحكم في تقدمه بلائحة حكومية جديدة، أبرزها أن فشل اتفاقه مع عون عليها يعني أنه سيقدم على الاعتذار بعد بضعة أيام من خطوة كهذه، في وقت كان اتفق مع بري على ألا يعتذر إلا بالاتفاق معه. فوقوف رئيس البرلمان إلى جانب الحريري في موقفه من شروط عون وباسيل حتّم عليه مراعاة رفضه الاعتذار عن عدم متابعة المهمة. وفي الوقت نفسه، توصل الحريري إلى قناعة بأن بقاءه رئيساً مكلفاً إلى ما لا نهاية، وحتى الانتخابات النيابية في مايو (أيار) 2020 كما يتوقع البعض، مسيء له، على الرغم من أن معظم الفرقاء السياسيين يحمّلون الفريق الرئاسي مسؤولية الفشل في تأليف الحكومة، وبالتالي فإن شعبيته ستتآكل في الأشهر الفاصلة مع الانتخابات، لأن الرأي العام، ومنه جمهوره، سيعتبره شريكاً في المسؤولية عن الانهيار الكبير الذي يتدحرج كل يوم ويجعل الأوضاع المعيشية في الحضيض، طالما أن لا حكومة تدير الأزمة وتحاول انتشال البلد من القعر الذي بلغه، وفي ظل شح المحروقات والكهرباء والأدوية وحليب الأطفال، والغلاء الفاحش في أسعار المواد الغذائية، مع الارتفاع الجنوني لسعر الدولار الأميركي يوماً بعد يوم.
ثاني هذه العوامل، هي أن الحريري كان اتفق مع بري ورؤساء الحكومات السابقين على أن يأتي اعتذاره بعد وضع تصوّر لما بعد هذه الخطوة، يشمل الاتفاق على اسم رئيس الحكومة البديل، وعلى الحصول على ضمانات من الفريق الرئاسي العوني بتسهيل مهمته، أهمها أن تكون الحكومة العتيدة جاهزة، فضلاً عن أن بري اشترط، كما أكد زوّاره لـ"اندبندنت عربية"، حين سألوه عن اعتذار الحريري أن يسمي الأخير مَن سيخلفه في مهمة التأليف. وبالتالي إذا فشل تقدمه بتشكيلة من 24 وزيراً للرئيس عون، فإن الاعتذار سيكون حتمياً، وفي هذه الحال، يحصل انسحابه قبل إنضاج تسمية البديل وترتيب نوعية الحكومة البديلة. وفي اعتقاد بري وبعض محيط الحريري أن انسحاب الأخير من معركة تأليف الحكومة من دون التخطيط مسبقاً للمرحلة اللاحقة سيجعل الفراغ الحكومي أكبر، وهو ما دفع رئيس البرلمان إلى الإدلاء بتصريح صحافي الثلاثاء في 22 يونيو (حزيران) الحالي، قال فيه إن اعتذار الحريري يعني أن "الانهيار سيكون أكبر".