في مشهد سريالي بامتياز، وعلى بعد أمتار قليلة من نقطة المصنع الحدودية بقاعاً بين لبنان وسوريا، تظاهر العشرات من مهربي البنزين المستورد من لبنان إلى سوريا، وقطعوا الطريق المؤدي إلى المصنع مانعين حركة السير كلياً باتجاه الأراضي السورية.
المحتجون المطالبون بتجاوز الحدود بالحرية نفسها التي كانت سائدة في السنوات الماضية، أزعجتهم الإجراءات الجديدة التي اتخذتها القوى الأمنية الحدودية من أمن عام وجمارك ومخابرات جيش، وهي إجراءات حدت من تحركهم وأسهمت في تراجع مدخولهم غير الشرعي، بحيث يتقاضون لقاء التهريب إلى الداخل السوري مادة البنزين المدعومة في لبنان، بسعر يفوق ثلاثة أضعاف للصفيحة الواحدة.
المحتجون وغالبيتهم من بلدة مجدل عنجر ذات الغالبية السنية، تحدثوا عن صيف وشتاء على المعبر الشرعي، واتهموا الأجهزة الأمنية بغض النظر عن سيارات تابعة لحزب الله تدخل سوريا محملة بالبنزين والمازوت أيضاً. في المقابل كشف مصدر أمني لـ"اندبندنت عربية" أن الإجراءات الجديدة والمداهمات المستمرة أغضبت المهربين، شارحاً أن توقيفهم لا يمكن أن يتم إلا في حال الجرم المشهود، أي خلال تهريبهم، وهو ما يبرر غياب أي توقيفات لمتظاهري المصنع وإن كانوا من المهربين المعروفين. "التهريب لا دين له ولا انتماء"، يقول المصدر الأمني الرفيع، كاشفاً عن تعاون دائم بين المهربين في لبنان وسوريا المتنافسين في السياسة والمنتمين إلى مذاهب مختلفة، ولم تكن الخصومة السياسية عائقاً أمام عملهم معاً.
إجراءات مشددة على المعابر الشرعية
اتخذت مديرية الجمارك في البقاع قراراً منذ نحو عشرة أيام منعت بموجبه عبور الآليات والسيارات اللبنانية عبر نقطة المصنع الحدودية باتجاه الأراضي السورية، باستثناء التي تحصل من الجمارك على دفتر "مرور ومكث"، وهو دفتر العبور الموحد بين لبنان وسوريا والأردن والعراق، إثر اتفاقية النقل العربية، لكن المشكلة أن الدفتر بقي غير متوافر بسبب نقص الأوراق لدى مديرية الجمارك. وشملت الإجراءات الجديدة المتفق عليها مع الجيش اللبناني إلزامية تسجيل دخول سائق السيارة في لبنان وسوريا معاً، وألا يقتصر فقط على الختم اللبناني، منعاً لدخول المهربين لبيع البنزين والعودة مباشرة، إذ إن دخولهم يقتصر على المنطقة الحدودية الفاصلة، حيث يكون في انتظارهم تجار سوريون. وألزم الأمن العام كل صاحب سيارة إجراء فحص الـ"pcr" في مهلة لا تتجاوز الـ24 ساعة من موعد مغادرته الأراضي اللبنانية، إضافة إلى إلزامية حيازته دفتر التأمين المشترك المنصوص عليه في تنظيم التنقل بين الحدودين.
الإجراءات الجديدة التي بدأ العمل بها بشكل فعلي منذ أيام قليلة، لم تجر بالسهولة التي أرادتها الأجهزة الأمنية. فالمهربون كانوا لها بالمرصاد. توالت احتجاجاتهم منذ السبت الماضي وحاولوا في اليوم الأول اجتياز الحدود بسياراتهم، متذرعين بسماح الجمارك بدخول سيارة محملة بالبنزين إلى سوريا، متهمين الأجهزة الأمنية على الحدود بتنفيذ استثناءات لصالح بعض النافذين.
الجيش يتولى المعابر غير الشرعية
وفيما تولى جهاز الجمارك مهمة تنفيذ الإجراءات الجديدة على الحدود الشرعية شمالاً وبقاعاً، اتخذت مخابرات الجيش اللبناني سلسلة إجراءات جديدة للحد من عمليات التهريب عبر المعابر غير الشرعية بالمنطقة.
يوضح رئيس مكتب الإعلام في مديرية المخابرات، العقيد مصباح خليل، أن الإجراءات الجديدة التي اتخذها الجيش في منطقة (الهرمل – القاع)، قضت باعتماد التقنين على إدخال الكميات عبر اعتماد عدد محدد من الصهاريج أو السيارات التي يمكن أن تدخل يومياً من معبر حربتا إلى الداخل السوري. هذه الإجراءات سبقتها عملية إحصاء قام بها الجيش اللبناني ارتكزت على حاجة منطقة (الهرمل- القاع) للبنزين استناداً إلى أرقام السنوات الماضية مقارنة مع الكميات الموزعة على المحطات في المنطقة في الفترة الأخيرة. والإحصاءات أعدها الجيش اللبناني بالتعاون مع مديرية المنشآت النفطية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتبين أن عديداً من المحطات الموجودة وبالآلاف في المنطقة غير مرخصة، فيما يبلغ عدد محطات البنزين المرخصة فقط 62 محطة موزعة بين 23 في الهرمل، و31 في القصر و8 في القاع، إضافة إلى دور كبير لشركات مستوردة "محمية" تعمل على خط بيروت دمشق وتنقل بالصهاريج كميات كبيرة من البنزين والمازوت المدعومة إلى الداخل السوري وبغطاء سياسي.
تراجع كميات التهريب
بحسب العقيد خليل، فإن هناك تراجعاً كبيراً في حجم الكميات المهربة إلى الداخل السوري نتيجة الإجراءات الجديدة والتقنين المتبع في منطقة الهرمل، استناداً إلى حاجتها منعاً للتخزين في المحطات. وبالأرقام يتبين أن 1800 صهريج من المازوت و300 صهريج بنزين كانت تدخل شهرياً إلى سوريا من منطقة الهرمل وحدها، لكن بعد بدء الإجراءات الرقابية الجديدة تراجع العدد ليصل إلى 136 صهريجاً من المازوت و128 صهريج بنزين.
ويكشف العقيد خليل، أن كمية المحروقات التي تم ضبطها اعتباراً من 27 مارس (آذار) الماضي إلى 14 الحالي نحو 317465 ليتراً من مادة المازوت و48111 ليتراً من مادة البنزين. وتنشط في المنطقة نفسها عمليات تهريب للغاز والطحين، وقد بلغت الكميات المهربة خلال شهر واحد من عام 2020 وقبل البدء بالإجراءات المشددة 17 ألف طن شهرياً من الطحين و2000 طن من الغاز. وبنتيجة الإجراءات الجديدة التي حدد من خلالها الجيش اللبناني أياماً لإدخال البنزين، وأياماً أخرى مخصصة للطحين والغاز، آخذين في الاعتبار وضع 32 قرية لبنانية سورية متداخلة، تبين أن كمية الطحين منذ بدء الإجراءات تراجعت من 17 ألف طن إلى 490 طناً شهرياً، أما الغاز فتراجع إلى 83.6 طن بعدما كان 2000 طن شهرياً.
أين أجهزة الرقابة؟
يؤكد مصدر أمني رفيع أن مهمة ضبط الحدود غير الشرعية تحتاج إلى عتاد وعديد من الأفراد غير متوافرين لدى الجيش اللبناني، الذي يقوم بكل ما باستطاعته للحد من التهريب وضبط الحدود. لكن المصدر نفسه يسأل أين وزارة الاقتصاد والأجهزة الرقابية؟ فهي كما يقول غائبة بشكل كلي عن ملف التهريب إما لضعفها وإما لتواطئها.
يقول العقيد خليل، "إن المهربين يراهنون على تعب العسكر وتراجع همته على الحدود، لا سيما أن أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية ليست بأفضل حال"، مؤكداً في المقابل أن الاستمرار في ضبط الحدود هو قرار لن تعود عنه قيادة الجيش. لكن الإجراءات تحتاج إلى مواكبة من قبل السلطة التنفيذية حتى لو كانت حكومة تصريف أعمال. في 16 من يونيو (حزيران) الحالي ترأس رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب اجتماعاً لمكافحة الاحتكار والتخزين والتهريب بحضور الوزراء المعنيين. الاجتماع خرج بسلسلة توصيات تنتظر التنفيذ أبرزها؛ تكثيف الأجهزة الأمنية دورياتها في جميع المناطق، وتنفيذ مداهمات لكل الأماكن التي يشتبه في تخزين المحروقات والأدوية والحاجات الأساسية للمواطنين بها، وتشديد جميع الوزارات المعنية الرقابة المسبقة واللاحقة على الاستيراد والتوزيع والتخزين، والتشدّد في تطبيق نظام وأيام العبور بين لبنان وسوريا، بانتظار نقل نقطة التفتيش الحدودية في المصنع إلى أقرب مكان من نقطة التفتيش السورية، وضبط الجمارك جميع عمليات نقل المحروقات والأدوية والمواد الغذائية، وإشراك البلديات في الرقابة على محطات الوقود، وتحذير المخزنين بصورة غير قانونية المشتقات النفطية، من أن أي ضرر مادي أو جسدي ينتج عن ارتكابهم ذلك، يتحملون تبعاته القضائية والمادية.
ووقعت في الأيام الماضية مداهمات كثيرة وستستمر كما يقول الأمنيون، لكن معالجة ملف التهريب تحتاج أيضاً إلى رفع الغطاء عن كل المتورطين المدعومين، إضافة إلى مواكبة قضائية جدية تصبح من خلالها التوقيفات ثابتة لا اعتباطية.