ألقت جائحة كورونا بآثارها السلبية على كل مناحي الحياة، ولم تكن آثارها فقط على انتشار المرض وخسارة الأرواح، إذ تسبب المرض بشلل الحياة بكل أشكالها، وكما هي أعراض كورونا من صعوبة في التنفس، واجهت الكتب نفس الصعوبة، التي بالكاد أصبحت تتنفس أخيراً بعد توقف كاد يودي بحياتها.
حيث واجهت صناعة النشر خلال الجائحة مشاكل بعد عزوف عدد كبير من الناشرين فضلوا عدم المجازفة أو المغامرة بطباعة إصدارات جديدة يمكن ألا تصل إلى أيدي القارئ، بخاصة بعد ما شهدناه من إلغاء للمعارض الدولية للكتاب التي كانت المنصة الأساسية لبيع الإنتاجات الأدبية.
إلا أن الحكومات وبالتحديد في الخليج حاولت القيام بإنعاش رئوي بعديد من المبادرات، منها ما أعلن في السعودية بإنشاء هيئة للمكتبات، وفي الإمارات عن عقد معرض الكتاب الدولي في أبوظبي، وعودة عديد من نوادي الكتاب إلى العمل، فنظر كثير من الكتاب والناشرين إلى هذه القرارات باعتبارها بارقة أمل لإنعاش صناعة نشر الكتب على المستويين الخليجي والعربي، بعد الخسائر الكبيرة التي واجهتهم في عام مضى.
تغيير جذري في السعودية
وفي الوقت الذي أعلنت فيه الرياض العام الماضي إنشاء "هيئة المكتبات" بقرار من مجلس الوزراء، سعت من خلالها لتقديم مبادرات لتطوير المكتبات العامة وتحويلها إلى منصات ثقافية بمفهوم اجتماعي شامل، ووعدت الهيئة بإنشاء 153 مكتبة عامة في السعودية بحلول عام 2030، كما وعدت بأن تكمل أول 13 مكتبة منها خلال العامين المقبلين، بحسب حديث عبد الرحمن العاصم رئيس هيئة المكتبات، الذي ذكر أن وضع المكتبات السعودية ليس مرضياً، مؤكداً أن سعي الهيئة إلى "إضافة مرافق مفتوحة بساعات عمل أطول في 153 مكتبة، لتحتضن الشباب الراغبين بالقراءة والدراسة أمر إيجابي، سيلبي احتياجات ملحّة للقرّاء والطلاب والباحثين".
ويبدو أن أمام وزارة الثقافة السعودية وهيئة المكتبات تحدياً كبيراً يتمثل في إعادة الروح بعد الغيبوبة الكبرى للمكتبات، فبعد تأسيس المكتبات ستسعى إلى تأهيلها في بلادها لتكون بيوتاً للثقافة؛ إذ أعلن وزير الثقافة عن برنامج طموح وضخم للابتعاث الثقافي في تخصصات عدة؛ من ضمنها تخصص المكتبات، الذي يرى مختصون أنه سيرفد قطاع المكتبات بكوادر وطنية مؤهلة ستسهم في نهضة القطاع.
واقع مزر للمكتبات في السعودية
وذكر الكاتب محمد المزيني، المسؤول عن الشؤون الثقافية في مكتبة الملك فهد الوطنية، "بما أنه قد باتت هيئة المكتبات في حكم الواقع وقد أسندت مهمتها إلى وزارة الثقافة، فإن الآمال المعقودة بها واسعة وكبيرة، فلعلها تسهم بوضع الحلول المناسبة كي ترفع عن كاهل هذه المكتبات تلك المعاناة المتمثلة في عدم قدرتها على تسويق مطبوعاتها القيمة التي تكدست مستودعاتها بها، لأسباب جوهرية تكمن في تعدد اهتماماتها ومسؤولياتها، فهي ليست دور نشر تعنى بالبيع والشراء من خلال منافذ التسويق المحلية والخارجية".
وأضاف "إنشاء هيئة المكتبات جاء في وقت ملح في ظل واقع مزرٍ للمكتبات العامة في السعودية، التي باتت اليوم في غيابة جب النسيان والتجاهل، على الرغم من دعم الدولة لها والاهتمام بها، وقد أنشأت لبعضها مباني جميلة مجهزة بما يفي بحاجاتها ومتطلباتها المتنوعة، 84 مكتبة عامة موزعة على المدن والمحافظات كانت سابقاً هي المكان المحبب للقراء وملاذ الباحثين، واليوم يعلوها الغبار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في حين قال علي الشريف، المشرف على متجر "ورّاق" الإلكتروني، من الأسباب التي أثرت في الكتاب الورقي "بقاء الناس في بيوتهم، إلا أن الكتب الإلكترونية لم تتأثر كثيراً، بل بالعكس زادت المبيعات 30 في المئة"، إلا أنه لم يتوقع أن يطيح الكتاب الإلكتروني الورقي، بل سيعود الناس إلى الكتب الورقية بعد عودة معارض الكتاب.
دور النشر تقبل على المشاهير أكثر من المثقفين
من جانبه أشار إبراهيم آل سنان، مدير النشر في دار مدارك، أن جائحة كورونا أدت إلى تضرر سوق النشر العربية، مما دعا بعض الناشرين إلى تسريح الموظفين وتقليص حجم طباعة الكتب ومصاريف الإنفاق إلى أدنى مستوى، ونتيجة ذلك تباطأت حركة النشر قياساً بالسابق.
لكنه أكد أن المشكلة تسبق عام الوباء "السنوات العشر الأخيرة كان النشر في الخليج ضعيفاً من حيث توافر دور النشر القادرة على الحضور في المكتبات ومعارض الكتب، لذلك وجد المؤلف الخليجي نفسه مضطراً إلى اللجوء إلى دور النشر العربية، بخاصة اللبنانية والمصرية".
وأشار آل سنان إلى ضعف شغف الكتاب الحقيقيين بالتأليف بسبب إقبال المؤثرين والمشاهير على التأليف، لتصبح كتبهم مصدر دخل لدور النشر أكثر من المثقفين، لأنهم يدرون على الدار مبيعات أكثر بفضل جماهيرهم.
وأضاف "ينظر بعض الناشرين إلى ذلك من باب الجدوى الاقتصادية أكثر من الثقافية، الأمر ليس فيه نظرة دونية، ففي كل الأحوال من يحدد قيمة العمل هم القراء، ولا نستطيع احتكار تقييم الكتب على شريحة النخبة أو شريحة الأدب فهناك شرائح أخرى".
وأوضح المسؤول في مدارك "كثير من الدور حالياً يشهد عجزاً يجعلها ترفع من قيمة النشر وتقلل من حقوق المؤلفين، ولا أستطيع إنكار أن الكِتاب الخليجي في كثير من الأحيان يعتبر قوة شرائية كبيرة لبعض الدور، بل قد يتجاوز ذلك إلى أن شهوة النشر الحالية المنتشرة في الخليج العربي دفعت بكثيرين إلى النشر الذاتي والطباعة مباشرة دون اللجوء إلى دور نشر وهي تقريباً بنفس التكلفة"، مؤكداً أن المنطقة الخليجية تشهد إقبالاً على التأليف بغض النظر عن الجودة.
وفي سياق متصل، عقدت الإمارات معرضها السنوي للكتاب في أبو ظبي بعد تأخير كبير بسبب جائحة كورونا وبسبب الظروف الاستثنائية. ففي دورته الثلاثين ينظر كثير من المبدعين والناشرين إلى المعرض باعتباره بارقة أمل لإنعاش صناعة نشر الكتب على المستويين العربي والعالمي، بعد الخسائر الكبيرة التي منيت بها خلال فترة تفشي جائحة كورونا، والتي أدت إلى إلغاء وتأجيل معظم المعارض الدولية للكتاب والفعاليات المرتبطة بها.
ويشارك في معرض أبو ظبي الدولي للكتاب هذا العام 889 دار نشر، تقدم ما يزيد على 500 ألف كتاب ما بين ورقي ومسموع ومرئي، الأمر الذي يعد، وبحسب المشاركين، أحد أبرز الخطوات العملية لإنقاذ قطاع صناعة نشر الكتب على المستوى العالمي، الذي يقدر حجمه وفقاً لدراسة سابقة أجراها اتحاد الناشرين الدوليين بنحو 151 مليار دولار.
الوضع بعد كورونا سيكون أسوأ ثقافيا!
هذا وقد كشف الكاتب الكويتي، طالب الرفاعي، في كتابه "لون الغد، رؤية المثقف العربي لما بعد كورونا"، الذي قارن فيه بين آراء 88 مثقفاً من المفكرين العرب والغربيين أن "البشر هم ضحايا مواقع التواصل الاجتماعي والبعد عن الثقافة بمثل ما هم ضحايا الفيروس، وأنه وإن كانت الحكومات قد أقرت قوانين خلال الأزمة لحماية مواطنيها، لكنها ستظل سارية حتى بعد انتهاء الأزمة وستحد بالتالي من الحريات، وأن الأديب العربي سيصاب بالإحباط بسبب صعوبة التنقل بين الدول إلى معارض الكتب والمهرجانات الثقافية"، خاتماً رؤيته بأسفه أن الوضع بعد زوال الجائحة ثقافياً سيكون أسوأ من الوضع قبلها.
وقد عمد الرفاعي في "لون الغد" إلى الكتابة بواقعية وألم، عن قسوة الظروف التي يحيا ويعمل بها المفكر والمبدع العربي، وفي أقطار تعيش تحت خط الفقر، مهددة المبدع في عيشه وأفراد أسرته، مما يجبره على الهجرة، أو البقاء تحت نار التهديد اليومي المخيف، مدعماً ذلك بإحصاءات ودراسات عربية وعالمية.
خسائر قطاع النشر 20 مليون دولار
وبحسب تقدير محمد رشاد، رئيس اتحاد الناشرين العرب، فإن خسائر قطاع النشر في الدول العربية الناجمة عن فيروس كورونا بلغت نحو 20 مليون دولار.
وقال رشاد في تصريحات لوكالة "رويترز" إن "المخصصات الطارئة وحزم الدعم الاقتصادي موجهة في المقام الأول إلى قطاع الصحة، وهذا يتفهمه الجميع بكل تأكيد، لكن هناك قطاعات أخرى يجب الالتفات إليها تعاني من تداعيات إجراءات العزل الصحي وتوقف الأنشطة ومنها صناعة النشر".
وأضاف "الكتاب كأحد مخرجات صناعة النشر لا يمثل مصدراً تعليمياً رئيساً تعتمد عليه المؤسسات التعليمية وكل الأجهزة في إيصال المعرفة والعلوم فحسب، بل أصبحت الحاجة إليه أكبر الآن كأحد أشكال الترفيه التي يلجأ إليها الناس أثناء العزل والتباعد الاجتماعي".
وتسببت الجائحة التي تضرب العالم في إلغاء أو تأجيل نحو عشرة معارض كتاب عربية حتى الآن، منها معرض البحرين، ومعرض بغداد، ومعرض الرياض، ومعرض تونس للكتاب.