ملخص
كلما ازدادت البشرية تقدماً تضاعفت مخاوف أفرادها وأمراضهم حتى صارت هواجس مقيمة، وتتطلب قدراً من المعالجات عبر العلوم متعددة الميادين، لتعدد المسببات. في الكتاب الصادر حديثاً (2025) عن دار مرفأ بعنوان "الأبوروفوبيا، رهاب الفقر ورفض الفقراء" من تأليف الباحثة الإسبانية عديلة كورتينا (1947)، عرض لأحد أنواع الرهاب الذي تنبه الباحثون الاجتماعيون والنفسيون وغيرهم إلى شيوعه وانتشاره في أمم الأرض، ولا سيما في البلدان التي تشهد انقساماً حاداً بين طبقاتها وجماعاتها، والحساسيات التي تبقي الهوة بينها ماثلة أبداً. ونقل هذا العمل من الإسبانية إلى العربية الكاتب المصري أحمد نور الدين الرفاعي.
قبل المباشرة بالكلام رهاب الفقر الذي يسهم أكثر من أنواع الرهاب الأخرى في تكريس الفوارق الاجتماعية والنفسية بين فئات المجتمع الواحد، لا بد لنا من عرض موجز لأهم أنواع الرهاب التي أمكن تسجيلها إلى يومنا هذا، ومدى خطورتها في المجال العام والخاص، إذ يعتقد بحسب الموقع الحكومي البريطاني الوطني للخدمات الصحية (النفسية)، بوجود أنواع عديدة من الرهاب وثمة 10 منها شائعة، وهي رهاب الطائرة ورهاب الجمهرة ورهاب الفراغ، والمرض والأماكن المغلقة والوحدة، وغيرها. ومن اللافت أن كلاً منها يستحوذ على مرضى به بعشرات الملايين، ويستدعي معالجة تستغرق أعواماً، وقد تلازم المرء طوال حياته. وربما يمكن إضافة أنواع أخرى من الرهاب لا تختص بالجانب النفسي فقط وإنما تتعداه إلى الجانب القيمي والديني، شأن الإسلاموفوبيا، أو الخوف من الإسلام وما يجره من مواقف حيال المسلمين، ولا سيما بعد الذي جرى يوم الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 في الولايات المتحدة الأميركية.
رهاب الفقراء
أما رهاب الفقراء، أو ما اصطلح عليه بالأجنبية "الأبوروفوبيا" فهو بموجز العبارة "خوف الناس من الفقراء"، وممن يمت بصلة إليهم، ويستدعي حيالهم سلوك الإبعاد والإهمال، ونظرة الاستخفاف. وتقول الباحثة عادلة كورتينا، في مقدمة كتابها ما مفاده أن أعداد السياح المتعاظمة إلى بلادها إسبانيا والتي بلغت 75 مليوناً خلال العام، في مقابل نمو أعداد اللاجئين السياسيين، من سوريين وغيرهم، إلى البلاد. وكان من شأن هذين العاملين أن بدلاً مواقف الناس من كلا نوعي الوافدين، ففي مقابل نظرة الترحاب والسرور لقاء السياح الأجانب، ما دام هؤلاء يوفرون أرباحاً عظيمة الفائدة للاقتصاد الإسباني، راحت تتنامى لدى الغالبية مشاعر الكراهية والازدراء والعنصرية حيال اللاجئين والمشردين وجماعات الغجر، والأفارقة الهاربين من الفقر والجوع والاستبداد والداخلين بطرق غير شرعية عبر قوارب، لا ينجو منهم سوى صاحب الحظ.
آفة لا اسم لها
في الفصل الأول من الكتاب تروي الباحثة، استناداً إلى معرفة عميقة وشاملة بالتاريخ البشري وبسلسلة الصراعات التي نشبت بين الشعوب والحضارات، كيف نمت أحقاد وترسخت صور من العنف المادي والمعنوي بين ذوي القرابة وبين الجماعات المتباعدة لغة ومعتقداً ومصالح، منذ أسطورة قايين وهابيل في التوراة، وإلى حكاية عائلة بوينديا بقرية ماكوندو في رواية "مئة عام من العزلة" للأديب الكولومبي غابريال غارثيا ماركيز. وتقول الباحثة، استتباعاً، إن ظاهرة الرهاب من الأجانب وإن برزت إلى السطح أواسط العقد الثاني من القرن الـ21 في إنجلترا، لدى وصول عدد كبير من الأطباء والممرضات المهاجرين من إسبانيا، فإنها ظاهرة راسخة الوجود في لا وعي كل مجتمع، وفي تاريخه القديم والحديث. وفي هذا الشأن يمكن أن نورد رهاب الموريسكيين (أو عهد الملوك الإسبان بعد استرداد الأندلس من العرب)، ويمكن أن نورد أيضاً - ما لم تذكره الباحثة - وهو اضطهاد اليهود في إسبانيا من قبل المجتمع المسيحي الكاثوليكي، ما بين القرنين الـ14 والـ16 تحت شعارات دينية لا مجال لإيرادها في هذه العجالة.
ولئن كانت الباحثة كورتينا لا ترغب في استعادة تواريخ إسبانيا الماضية، فإنها بدت أشد حرصاً على استنطاق زمن البلاد الحاضر، وما يجره الشعور العام الكاره الفقراء من جرائم بحقهم، تخالف بطبيعتها شرعة حقوق الإنسان والمبادئ والقيم الإنسانية الكبرى التي قامت عليها الدول الغربية الديمقراطية الحديثة. وتمضي الباحثة في تعداد هذه المظاهر، فتذكر في البداية حدث تعرض مجموعة من المتسولين الغجر لمضايقات وتصرفات متعجرفة، خلال مباراة لكرة القدم بين فريق أتلتيكو مدريد، وفريق (بي. أس. في). وفيما تستقصي الباحثة أفعالاً مشينة أخرى جرت ضد الفقراء والمشردين في إسبانيا، تبين لها وبناء على ملاحظات منظمة "رايس" لرصد جرائم الكراهية ضد المشردين أن واحداً من كل ثلاثة أشخاص مشردين يتعرض للإهانة أو المعاملة السيئة، "بينما يتعرض واحد من كل خمسة أشخاص للاعتداء الجسدي" (ص:46)
وبناءً عليه، أقرت الباحثة بأن خطاب الكراهية قديم قدم البشرية، وهو صورة من صور التعبير يهدف إلى التحريض ضد فئة بعينها، وبث الكراهية حيال أفرادها، وتصويرها عدواً ينبغي تجنبه أو مواجهته وإيذاؤه. ومن تلك الخطب ما كان لمعاداة السامية، أو لبث الكراهية ضد المثليين، أو تعزيز رهاب الأجانب أو المسلمين أو المسيحيين، أو ضد الفقراء والمحتاجين وتحميلهم أوزاراً لا قبل لهم بها. والحال أن صانع هذا الخطاب أو صناعه، لا يعدمون من الأساطير والحكايات المتخيلة والأفكار المسبقة ما يجعلهم يرسخون صوراً مشوهة عن هذا الآخر أو هؤلاء الآخرين، تستوجب موقفاً عدائياً منهم أقله الحذر وإقامة الحدود المكانية والنفسية بينهم وهؤلاء. ولكن الخطورة في هذا الخطاب، بحسب الباحثة كورتينا، أنه قابل للاشتعال شأن المواد الملتهبة، ليتحول إلى جريمة بحق الفئة المعنية بخطاب الكراهية، عبر إيذاء فرد أو جماعة منها.
الديمقراطية وخطاب الكراهية
ولكن، ما هو موقف النظام الديمقراطي من احتمال إفلات الكراهية من عقالها وتجديد الاتجاهات الراديكالية شبابها، من النازية الجديدة صاحبة الإرث الأفظع في التنكيل بالفئات المكروهة من قبلها، إلى المتشددين بكل صنوفهم سواء في الغرب الأوروبي أو في الولايات المتحدة الأميركية؟ وللإجابة عن هذا التساؤل تقول الكاتبة عادلة كورتينا ما مفاده أن الدولة الديمقراطية المحصنة ينبغي لها أن تضمن مناخاً ملائماً للحريات العامة، يكون لكل الأحزاب والمكونات بمقتضاها القدرة المتساوية على التعبير عن آرائها بحرية، شرط ألا تغلب نزعة التعصب في خطاب كل منها على فضيلة التسامح. ذلك أن التسامح بحسبها هو الحد الأخلاقي الواجب مراعاته ضماناً لاستمرار الحياة المدنية، وحفظاً لبنية النظام الاجتماعي وديمومته. ومن هذا المنطلق، رأت الباحثة أن "تدمج الأخلاق في مؤسسات المجتمع وعاداته وتقاليده" (ص:86) على ما كان يدعو إليه الفيلسوف هيغل.
وفي فصول لاحقة، استنتجت الباحثة أن بقاء أنواع الرهاب وتمكنها من المجتمعات الغربية، على رغم ما وضعته الأنظمة الديمقراطية فيها من حدود وضوابط، إنما يعزوان إلى تفاوت في أخلاقيات الناس، حتى يمكن تصنيفهم مستويات ثلاثة، الأول يحابون فيها من ينفعهم، والثاني يحابون من يتفق مع أعراف مجتمعهم، والثالث يوافقون ما يفكرون أنه عادل ويخالفون ما يعتقدون أنه أمر ظالم. وهذا يعني لها أن ثمة ضعفاً أخلاقياً مولوداً في الإنسان، ويتفق مع مقولة القديس بولس "لست أفعل الخير الذي أريده، بل الشر الذي لا أريد فعله" (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية: 7/ 15-20). ويتقاطع مع آيات بينات في القرآن الكريم دالة على أن "إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ" (سورة يوسف).
علم الأعصاب ورهاب الفقر
ولما وجدت الباحثة أن جذور رهاب الفقر والفقراء تمتد عميقاً في النفس البشرية، استعانت بعلم الاعصاب لتستوضح أسرار هذه المعضلة، فتبين لها وفقاً لأبحاث علماء الأعصاب أن الدماغ عضو تقييمي بصورة أساس، وأنه مصدر للقيم المسؤولة عن صنع القرارات. وإذ استعانت بأراء عدد من المفكرين ومن بينهم إيفرز، تبين لها أن الهوية العصبية التي تشكل عليها الأوروبيون هي التي تجعلهم اجتماعيين أو انفراديين. من ثم، فمن المرجح أن البنية العصبية التي تكونت لدى الغربيين تدل على أنهم كارهون للأجانب بيولوجياً. وبما أن ثمة استعداداً بيولوجياً للأنانية لدى الغربيين، يميل بهم إلى كره الأجانب والمختلفين عرقاً ولوناً وانتماء، فقد يكون لدى بعض آخر استعداد بيولوجي للتعاون، ومعاملة الأجانب بالرحمة. ثم إنه لن يكون أمراً مستغرباً أن نرى أشخاصاً مستبعدين ومهمشين في هذا المجتمع.
أما الفصول الأخيرة من الكتاب فيخص بها مراجعة مستفيضة عن مكانة الضمير في الحياة الفكرية والأخلاقية للإنسان الغربي المعاصر، علماً أن الضمير مسألة جعلها الفلاسفة، أمثال هيغل وهايدغر وليفيناس ويوناس، راهنة وداخلة في الشأن السياسي، ويجب على المجتمعات أن تعمل على تمكين دوره في حياة الأفراد والجماعات، وفي مضاعفة حس التعاطف مع الآخرين، المختلفين أو الأجانب، والمهمشين والفقراء.
وحتى يكتمل تصور الباحثة عادلة كورتينا في شأن الأبوروفوبيا ورهاب الفقراء، ارتأت الانطلاق من شرعة حقوق الإنسان المعلنة عام 1948، التي تفرض التزام المجتمع بحماية حق كل إنسان في الحياة، حق يقابله واجب الحماية من قبل مختلف الجهات الوطنية، والدولية. من ثم دعت إلى تحسين ظروف الفقراء في مجتمعاتهم، من حيث التعليم والطبابة والعمل وتحفيز النمو الاقتصادي، وغيرها من الحلول التي تستشرف الآفاق الإنسانية للبشر، وتقلص من مضار الأزمات العاصفة من كل زوايا العالم المعاصر.