نشأتُ نشأتي في هولندا خلال الأعوام التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، حينما عانت البلاد بأكملها استمرار آثار القتال والاحتلال النازي.
لم أتمكن على مدى عقود من الزمن من أن أفهم سبب سماح الناس بحدوث ذلك. لماذا لم يقف أحد في وجه (الزعيم النازي في ألمانيا أدولف هتلر)؟ لماذا لم يتلقَّ الشعب اليهودي والغجر والمثقفون والمعاقون والشيوعيون دعماً حقيقياً؟ وبات بإمكاني الآن أن أفهم كيف غضّ الشعب الألماني الطرف حينما انطلقت آلة الحرب التي انفجرت في نهاية المطاف، كي تتحول إلى حالة من الفوضى العارمة.
حينما تحدثت حنّة أرندت (مُنظِّرة سياسية أميركية ألمانية الأصل وضعت مؤلفات، وكتبت مقالات سياسية وفلسفية) عن تفاهة الشر، لم تكن تعني مجرد الإشارة إلى أن الأناس الأشرار يتعوَّدون ارتكاب الأفعال السيئة، ويصبحون غير عابئين بنتائجها، بل قصدت أيضاً أن عدداً من الأشخاص الطيبين يبدؤون في تقبُّل الأمور السيئة التي تحدث من حولهم، لأنهم ببساطة يتعودون عليها ويقبلون أن تمُرّ، معتبرين أنها تافهة وحتمية ولا مفر منها.
لقد تابعنا جميعاً في الآونة الأخيرة ما حدث في الولايات المتحدة، حينما انتُخِب دونالد ترمب رئيساً للبلاد، وكذلك ما حدث في المملكة المتحدة في شأن التصويت على مغادرة بريطانيا كتلة الاتحاد الأوروبي. فقد انقسمت الدولة في البلدين بشكل مصطنع، وأخذت التوترات في التصاعد. في حينه، أدركتُ للمرة الأولى أنه يمكن الكذب على أممٍ بأكملها، وتهدئتها، كي تتغاضى عن مسائل من شأنها أن تنعكس في نهاية المطاف سلباً على شعوبها.
رأيتُ ساسةً يخففون من وطأة الأفكار اليمينية، ويغضون الطرف عن الانزلاق في خطوات مقلقة للغاية، نحو الأنظمة الشمولية. لقد حدث الأمر نفسه مع هتلر في ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين، حينما أخذ الشر يتنامى ببطء شيئاً فشيئاً، وخطوةً خطوةً. ولا يبدأ الناس في رؤية حقيقة ما حدث إلا حينما يدركون أنهم فقدوا السيطرة، ولم يعودوا قادرين على فعل أي شيء، هذا إذا كانوا فعلاً قد أدركوا ذلك. ومع حلول تلك اللحظة، كثيراً ما يكون الأوان قد فات على تعديل الوضع، فتقع على الأثر أزمة لا مفر منها.
في المملكة المتحدة، حينما أطلق الاستفتاء على الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي (بريكست) في 2016، العنان أمام موجة بغيضة من العنصرية وكراهية الأجانب والتعصب الأعمى، بشكل لم أكن أتصوَّره على الإطلاق في البلد الذي اعتمدته موطناً لي بسبب معاملته اللطيفة وانفتاحه وعدالته وتقدُّمه، بدأتُ أفهم حينها حقيقة ما حذرني منه والداي في طفولتي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
للمرة الأولى، استوعبتُ حقاً الدروس التي تعلمها والداي بأن الانقسام والفرقة والتمييز تشكل أموراً فظيعة، وتؤدي إلى نتائج شديدة السوء نادراً ما يمكن لجمها، لأن الأفراد الطيبين لا يفعلون شيئاً حيال ذلك لفترة طويلة للغاية. لم أكن أتصوَّر حتى في أسوأ أحلامي، أنني سأجد نفسي على ضفة الأشخاص الذين يتلقون مثل تلك المعاملة.
ومع ذلك، لقد كنتُ من بين خمسة ملايين مواطن من دول الاتحاد الأوروبي الذين عاشوا في المملكة المتحدة أعواماً عدة، وبنوا حياتهم وشيَّدوا منازل وأسسوا عائلات، ثم وجدوا أنفسهم فجأةً مضطرين لتقديم طلب، سعياً إلى الحصول على الجنسية البريطانية، أو على وضع الإقامة المستقرة، لكن حتى هذا السعي بدا في بعض الحالات بلا جدوى.
واستطراداً، ينبع ولعي بهذه الأمور من التزامي الشخصي العميق بالحفاظ على السلام في أوروبا، خصوصاً بعد الذي حدث لنا جميعاً خلال الحرب العالمية الثانية. وقد ساعدت مهنتي في مجال الفلسفة والعلاج النفسي، في تمكُّني إلى حد كبير، من فهم مجريات الأمور؛ إذ علمتُ سلفاً أنه يتوجب عليَّ توثيق ما جرى والكتابة عنه، إذ يتوجب علينا أن نواصل التعلم. وانطلاقاً من ذلك، فإنه لا يمكننا أن نشعر بالرضا عن مستقبلنا، استناداً إلى النتائج التي تمخض عنها بريكست ووباء كوفيد-19.
وإذا كان هناك من أمر واحد تعلمناه في أعوام بداية القرن الحادي والعشرين، فإنه يتمثل في أن الأزمات ستعصف بنا، بغضِّ النظر عن مدى الاستعداد والأمان اللذين نعتقد أننا صنعناهما بأنفسنا. إن القدر لا ينطوي على أي استثناءات.
بالتالي، يتوجب علينا في هذا الإطار أن نواصل فهم ما يحدث، حينما يعتقد الناس أن مزايا المساواة والتنوع والإنصاف والتعاون يمكن اعتبارها كأنها تحصيل حاصل، أو أسوأ من ذلك، أن يُنظر إليها على أنها غير مهمة. يجب ألا ننسى على الإطلاق مدى هشاشة الحياة، إن أموراً قد تحدث في العالم من شأنها أن تضع الجنس البشري برُمّته وجهاً لوجه أمام خطر الانقراض.
إذا توقفنا عن دعم بعضنا البعض وحماية أنفسنا والآخرين، فلن نصنع جهنم على الأرض بالنسبة إلى الآخرين وحدهم، بل نصنع جحيماً لأنفسنا أيضاً.
كتاب إيمي فان دورزن "النهوض من أزمة وجودية: حياة ما بعد الكارثة" Rising From Existential Crisis: Life Beyond Calamity، من منشورات دار "بي سي سي أس بوكس" PCCS Books
© The Independent