اللعبة في العراق أبعد من تبادل "الرسائل" الصاروخية بين أميركا وإيران عبر وكلائها. وحكومة مصطفى الكاظمي تواجه تعقيدات أشد من الصراع على السلطة. أقل ما يراه الكاظمي هو "لحظة تاريخية نتفحص فيها حقيقتين: لا طريق إلى المستقبل من دون تكاتف واستعادة الثقة. ولا بد من استعادة توازنات المنطقة التي يشكل العراق ركناً أساسياً فيها". وأكثر ما يستطيع فعله هو الدفع نحو الدولة الوطنية في مواجهة التلاعب الإقليمي بالعراق ومشاريع ما دون الدولة ومشروع ما يتجاوز الدولة والحدود. وليس من المفاجآت أن يبدو الكاظمي في قمة الحرج عشية التوجه إلى واشنطن للقاء الرئيس جو بايدن. كذلك الأمر بالنسبة إلى الإدارة الأميركية المنخرطة في "الحوار الاستراتيجي" لترتيب الانسحاب العسكري من العراق ضمن جدول زمني خاضع لاهتمامات الأمن القومي للبلدين.
الحشد الشعبي التابع نظرياً للقائد العام للقوات المسلحة، الذي هو رئيس الوزراء، تابع عملياً لولاية الفقيه. والميليشيات القوية فيه، وأبرزها "عصائب أهل الحق" و"كتائب حزب الله" و"كتائب سيد الشهداء" تتلقى الرواتب من الحكومة العراقية والأوامر من "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني. الكاظمي الذي اضطر إلى حضور استعراض الحشد لا يستطيع منع الميليشيات من قصف المواقع العراقية التي فيها جنود أميركيون، ولا أن يعاقبها على القصف. ولا يستطيع أن يقبل الرد الأميركي بقصف مراكز الميليشيات، الذي رآه انتهاكاً للسيادة كما حدث أخيراً ضد "كتائب حزب الله". "كتائب سيد الشهداء" داخل العراق وسوريا على مقربة من الحدود. أميركا تقصف لأن حكومة الكاظمي عاجزة عن ضبط الميليشيات ومعاقبتها. والحسابات الأميركية تمنع الإدارة من الرد القوي القاصم والسهل بالنسبة إليها. وهي تدرك لماذا لا يستطيع الكاظمي حتى معاقبة مَن يهدده بالقتل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الانطباع السائد هو أن تبادل القصف "ورقة" ضغط على المفاوضات النووية في فيينا. لكن هذا هدف تكتيكي ضمن الهدف الاستراتيجي للملالي. وهو يبدأ في المرحلة الحالية بالدفع نحو إخراج القوات الأميركية من "غرب آسيا"، ولا ينتهي بالهيمنة على العراق وسوريا ولبنان واليمن وزعزعة الاستقرار في بقية البلدان العربية. طموح الكاظمي، كما دلت القمة الثلاثية المصرية - العراقية - الأردنية في بغداد أخيراً، هو العمل لتحقيق هدفين متكاملين إلى جانب التعاون الاقتصادي وسواه: استعادة العراق دورَه العربي والتركيز على هويته العربية التي تعرضت لصراع هويات منذ الغزو الأميركي عام 2003. وإخراج بلاد الرافدين من الأسْر الإيراني. لكنه لا يريد مخاصمة طهران ويعرف أنه لا يستطيع لو أراد ذلك، بسبب التركيبة الاجتماعية للعراق. وهو ورئيس الجمهورية برهم صالح يكرران القول إنهما يرفضان تحويل العراق "ساحة لتصفية الحسابات"، ويريدانه "جسر لقاء" بين دول المنطقة.
غير أن المشكلة بين العرب وإيران أبعد من خلافات على مصالح لها تسويات وحلول في النهاية. فالمشروع الإمبراطوري الإيراني يأخذ المشكلة إلى مستوى صراع وجود. ومن دون أن يتخلى الملالي عن اللعب بالورقة المذهبية في العالم العربي، كما عن المشروع الإقليمي الإمبراطوري والتصرف كدولة طبيعية جارة حريصة على المصالح المشتركة، فإن من الصعب أن يكون العراق أو سواه "جسر لقاء". والأصعب هو إدارة الوضع العراقي المعقد بين القوى المحلية والقوى الإقليمية التي لها وجود عسكري في العراق مثل إيران وتركيا، في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي الفوري الذي تطالب به طهران والميليشيات. إذ، حتى في وجود القوات الأميركية، فإن الحكومات العراقية عجزت عن منع الحشد الشعبي من التمركز في الأنبار ونينوى وصلاح الدين بعد نهاية الحرب مع "داعش". وعجزت عن منع "كتائب حزب الله" و"كتائب سيد الشهداء" من السيطرة على طول الحدود من كربلاء إلى نهاية الأنبار. كما عجزت حتى عن إعادة الأهالي الذين هجّرتهم ميليشيات الحشد من "جرف الصخر" بحجة القرب من كربلاء.
ذلك أن لدى العراق اليوم 1.5 مليون جندي في الجيش والشرطة. ولم يعد في حاجة إلى قوات أميركية، إلا للتدريب وحماية الأجواء، ولا إلى الحشد الشعبي. لكن حسابات اللعبة مختلفة. فالملالي هم الذين لم يعودوا في حاجة إلى الوجود الأميركي الذي أفادهم بإسقاط عدوهم صدام حسين وحلّ جيشه. والحشد الشعبي أداة في الرهان الإيراني على مواجهة "الدولة الوطنية" التي يراهن على قوتها الكاظمي والجيل الجديد الثائر من العراقيين. وبعد خروج أميركا التي استفادت إيران من غزوها العراق كما من العداء لها، تصبح سياسة طهران هدف العراقيين.
كان رينهولد نايبور يسخر من "أحلام إدارة التاريخ". وما سماه هيغل "مكر التاريخ" سيسخر ممَن يتوهمون القدرة على "تصحيح التاريخ".