لم يبلغ كوينتين تارانتينو عامه الستين بعد، لكنه يتطلع بالفعل إلى إحالة نفسه إلى التقاعد. يخطط المخرج الذي بدأ حياته المهنية بجرأة صارخة مع فيلمه الروائي الأول "كلاب المستودع" Reservoir Dogs عام 1992 لصناعة فيلم آخر سيكون عاشر أعماله، ومن ثم سيعلن اعتزاله.
قال مقدم برنامج الدردشة بيل ماهر محتجاً على كلام تارانتينو الأسبوع الماضي: "أنت ما زلت شاباً جداً على الاعتزال." لكن المخرج كان مصراً على موقفه وقال: "لهذا السبب أريد الاعتزال! أنا أعرف تاريخ صناعة السينما، ومن هذه السن فصاعداً لا يقدم المخرجون أداءً أفضل." وأوضح أنه يعمل بالفعل منذ ثلاثين عاماً ("إنها مسيرة طويلة حقاً")، وقال إنه "قدم كل ما لديه".
لكن هل ينطوي ما قاله تارانتينو على شيء من الصحة، هل بالفعل يبدأ إنتاج المخرجين بالانحدار بعد بلوغهم سن الستين؟
سنرى عكس ذلك في نسخة هذا العام من مهرجان كان السينمائي (الذي سينطلق الأسبوع المقبل، ويعتبر أفضل فعالية سينمائية في العالم). حيث ستجدون العديد من المخرجين أكبر سناً من تارانتينو بكثير يتنافسون على جوائز المهرجان الرئيسة.
ما زال عطاء بول فيرهوفن قوياً في سن الثانية والثمانين مع فيلمه الجديد "بينديتا" Benedetta الذي يدور عن راهبة سحاقية، وبات جاهزاً للعرض أخيراً. إنه لا يترك بعض المنغصات البسيطة مثل إجراء جراحة في الورك تعيق مسيرته، وقد استلم بالفعل مشاريع جديدة، مثل المعالجة التلفزيونية لرواية "بيل آمي" Bel-Ami للكاتب الفرنسي غي دو موباسان.
يفتتح المهرجان مع فيلم "أنيت" Annette أحدث أعمال المخرج ليوس كاراكس، الذي كان يعتبر في يوم من الأيام شاعر السينما الفرنسية الشاب ولكنه الآن كهل في الستينيات من عمره. كما يتنافس على جائزة السعفة الذهبية كل من المبدع الإيطالي ناني موريتي الذي سيبلغ عامه الثامن والستين في أغسطس (آب)، والمؤلفة والمخرجة المجرية إلديكو إينيدي (65 عاماً)، وكاثرين كورسيني (65 عاماً أيضاً)، وجاك أوديار (69 عاماً)، وبرونو دومون (63 عاماً فقط)، وشون بن نجم فيلم "فاست تايمز آت ريدجمونت" Fast Times at Ridgemont High الذي بلغ الآن من الكبر عتياً ووصل إلى الستين. كما أن لجنة التحكيم التي ستقيم أعمالهم ستكون برئاسة سبايك لي البالغ من العمر 64 عاماً. كما أن المخرج تود هاينز الذي يعرض فيلمه الوثائقي "ذا فيلفيت أندرغراوند" The Velvet Underground خارج المنافسة، هو أيضاً في الستينيات من عمره، بينما يبلغ أوليفر ستون، الذي يقدم لأول مرة فيلمه الوثائقي الجديد عن نظرية المؤامرة التي قامت بها وكالة المخابرات المركزية "إعادة فتح ملف جون إن كيندي: عبر المرآة" 74 عاماً JFK Revisited: Through the Looking Glass . وبعبارة أخرى، فإن المهرجان بأكمله يشبه حفلة شاي لكبار السن.
عندما كشف المخرج البرتغالي الخبير مانويل دي أوليفيرا النقاب عن فيلمه الذي يحمل عنواناً غير مألوف هو "غرابة أطوار فتاة ذات شعر أشقر" Eccentricities of a Blonde Haired Girl في مهرجان برلين السينمائي عام 2009، كان قد تجاوز عامه المئة، ولكنه كان ما زال يُسعد النقاد بأسلوبه غير النمطي والمرح لسرد القصص.
أما المخرجة الفرنسية العظيمة أنييس فاردا فقد اشتهرت مع تقدمها في السن بحبها للقطط وكذلك حبها للسينما. ومع ذلك، كان وثائقي السيرة الذاتية الذي قدمته فاردا عام 2008 بعنوان "شواطئ أغنيس" The Beaches of Agnes، وقد صنعته عندما بلغت الثمانين من عمرها، واحداً من أكثر أفلامها حذقاً ورقة وتميزاً.
ومن المؤكد أن جان لوك غودارد، أحد المخرجين الذين يُكن لهم تارانتينو أشد إعجاب، لم يستسلم في سن الستين. فقد ظهرت أفلامه الاستفزازية والمرحة التي تخلط بين الواقع والخيال مثل "وداعاً للغة" Goodbye to Language عام 2014 و"كتاب الصور" The Image Book (عام 2018) عندما كان في الثمانينيات من عمره، حيث حضر إلى مدينة كان بعد مرور أكثر من 60 عاماً على عرض فيلمه الروائي الأسطوري الأول "مقطوع الأنفاس" Breathless عام 1960.
تعد المهرجانات مثل كان والبندقية مقاييس للسينما الهادفة، ولكن ماذا عن شباك التذاكر، هل تفتقر أفلام المخرجين الأكبر سناً إلى الإقبال الجماهيري، وهل ما زالت شركات الإنتاج بحاجة إليهم، هل ما زال المخرجون يدرون عليها الأرباح وهم في سن الرابعة والستين؟ بالتأكيد يأمل رؤساء شركات السينما عبر العالم في أن يكون الحال كذلك. إنهم يعتمدون على جيمس كاميرون، وهو الآن في منتصف الستينيات من عمره، لإخراج الصناعة من حالة الركود التي عاشتها السينما خلال أزمة وباء كورونا مع أفلام "أفتار" Avatar عندما تطرح للمشاهدة، أخيراً.
انظر إلى قائمة "موجو" لشباك التذاكر لأكثر الأفلام ربحاً عبر تاريخ السينما وستجدون فيلم "الوصايا العشر" The Ten Commandments من إنتاج عام (1956) يحتل المرتبة السادسة. كان مخرج العمل سيسيل بي ديميل في منتصف السبعينيات من عمره عندما أنجزه، لكن ذلك لم يؤثر على قدرته على تحقيق معجزة على أقل تقدير. من ناحية أخرى، كان هيتشكوك قد بلغ الستين من عمره عندما أخرج فيلم "سايكو" Psycho عام 1960، أحد أكثر أفلامه جرأة وإثارة للإزعاج وشهوانية وعنفاً ودراً للأرباح.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يستشهد تارانتينو من دون سيغيل كمثال للمخرج الذي استمر في العمل لفترة طويلة جداً أكثر من اللازم وشوه سمعته، لكن هذه المقارنة ليست صحيحة حقاً. سيغيل، المولود في عام 1912، كان في الستينيات من عمره في الواقع عندما أخرج فيلم "الهروب من ألكتراز" Escape from Alcatraz عام 1979 من بطولة كلينت إيستوود، وهو أحد الأفلام التي تحظى بإعجاب تارانتينو. ربما أنهى مسيرته بأعماله لم تكن ناجحة مثل "نسخة أولية" Rough Cut و"منحوسون" Jinxed! ولكنه لو اتبع نصيحة تارانتينو، لكان قد اعتزل في الفترة التي قدم فيها فيلم "هاري القذر" Dirty Harry عام 1971، وبالتالي حرم الجماهير من الأفلام المثيرة التي واصل صنعها لاحقاً في السبعينيات ومن بينها "تشارلي فاريك" Charley Varrick و"مطلق النار" The Shootist.
تقول الحكمة السائدة، إن عمل مخرجي الأفلام يزداد سوءاً ولا يتحسن مع مرور الوقت. إنهم يصبون كل إمكانياتهم الإبداعية في أفلامهم القليلة الأولى، ثم لا يتبقى لديهم شيء جديد ليقولوه أو أنهم لا يملكون الطاقة ليقولوه.
كما أن كل جيل لديه نصيبه من صانعي الأفلام المشهود لهم في السابق والذين فقدوا جاذبيتهم مع تقدمهم في السن. لن يقترب المنتجون منهم. وينتهي بهم الأمر يعيشون على هامش الصناعة ويتحملون كل الإهانات، الصغيرة والكبيرة، التي ترافق تدهور وضعهم. ومع ذلك، يحاول معظمهم الاستمرار في العمل كمسألة مبدأ وكرامه مهنية.
أحد الأمثلة المؤثرة هو المخرج الإنجليزي العظيم مايكل باول في السنوات التي تلت إخراج فيلمه "توم مختلس النظر" Peeping Tom عام 1960 عن قاتل متسلسل، والذي حصل على شجب النقاد. وبات من الصعب أن يحصل باول على عمل في المملكة المتحدة. لكنه توجه إلى التلفزيون بدلاً من ذلك. سافر إلى أستراليا ليقدم عملاً كوميدياً شاذاً وغريب الأطوار تحت عنوان "إنهم عصابة غريبة" They’re a Weird Mob (1966)، المسلسل الذي أحبه الجمهور الأسترالي ولكن الجماهير الأخرى تجاهلته.
وعندما عاد إلى بريطانيا، أخرج فيلماً لصالح مؤسسة أفلام الأطفال هو "الصبي الذي صار أصفر اللون" The Boy Who Turned Yellow عام 1972. كانت هذه أعمالاً بسيطة جداً في رصيده المهني مقارنة بالأفلام العظيمة مثل "الحذاء الأحمر" The Red Shoes و"مسألة حياة أو موت" A Matter of Life and Death التي صنعها برفقة مساعده إميريك برسبيرغر في الماضي. ومع ذلك، رفض باول التنازل أو الاعتزال. وكتب في سيرته الذاتية: "عندما كان كل شيء صنعته آخذاً في الانهيار من حولي، لم يخطر ببالي مطلقاً أنني كنت أعيش ذلك... السينما هي حياتي وحياتي هي السينما. أنا مخرج ولطالما كنت مخرجاً."
من المؤكد أن الاعتزال لم يكن شيئاً خطر على بال بيلي وايلدر في ثمانينيات أو تسعينيات القرن الماضي عندما كان يذهب يومياً إلى مكتبه في مقر شركة الإنتاج ويحاول بلا هوادة إخراج فيلم آخر. لقد كان أسطورة هوليوود الذي لم يحبه رؤساء شركات الإنتاج. لن يمنحوه المال اللازم لصناعة أفلامه الخاصة، لكنهم سيلقون على عاتقه وظيفة استشارية غريبة بدلاً من ذلك. لقد كان جلفاً بشدة كي يتمكن من النجاح في تلك المهمة. يتذكر الصحافي بيتر بارت نصيحة وايلدر التي قدمها لرؤساء اتحاد الفنانين عندما قال: "هذا الفيلم عبارة عن كومة كبيرة من الهراء." وكما كان متوقعاً، لم يبقه اتحاد الفنانين في وظيفته لفترة طويلة، ومع ذلك، لم يفكر في الاستسلام.
من مايكل هانيك إلى إيريك رومر، هناك العديد من الأمثلة على صانعي الأفلام الذين أنجزوا أعمالهم الأكثر غنى والتي لاقت أكبر صدى لدى الجمهور عندما كانوا في المرحلة الأخيرة من مسيرتهم المهنية، المرحلة نفسها التي ربما يدعوهم فيها تارانتينو إلى التقاعد. قد يعاني مارتن سكورسيزي وبول شريدر لمضاهاة الشدة التي تتمتع بها أعمالهم السابقة ذات الطابع المراهق مثل "سائق التاكسي" Taxi Driver، على سبيل المثال، لكن أفلامهم التي يقدمونها اليوم ما زالت متميزة.
يجب أن يحذو تارانتينو حذو باول، وايلدر، وسكورسيزي. وإذا كانت هناك فرصة للاستمرار في الإخراج، فعليه أن ينتهزها بكل تأكيد. أسوأ ما يمكن أن يحدث هو أن أفلامه الجديدة لن تكون بنفس جودة تلك التي صنعها عندما كان في أوج عطائه. سيظل يحظى بالإعجاب لكونه ملتزماً برسالته. حتى أنه ربما يفاجئ نفسه بتحسن إنتاجه مع تقدم العمر. إن قراره بالاعتزال بعد فيلم آخر واحد هو المعادل السينمائي لرفع الراية البيضاء - وهي حركة غرور إبداعية جبانة وانهزامية ومدمرة للنفس.
سينعقد مهرجان كان السينمائي ما بين 6 و17 يوليو (تموز).
© The Independent