يترقب السودانيون عملية إعفاء الديون الخارجية لبلادهم البالغة نحو 56 مليار دولار، بشغف بالغ، لكونها كانت سبباً رئيساً في تدني الاقتصاد، وتأخر البلاد لهذه الدرجة من التخلف، بعد حصول الحكومة السودانية على موافقة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، على إعفاء 23.5 مليار دولار من إجمالي الديون، ليصبح السودان الدولة رقم 38 في العالم التي استفادت من مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون "هيبيك".
لكن ما هي الخطوات التي ستتبعها الحكومة الانتقالية برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك من أجل تعافي الاقتصاد الذي شهد تدهوراً مريعاً، وأزمات مستمرة؟ وما العبر والدروس التي استفاد منها السودان حكومة وشعباً من هذه التجربة، وما هي رؤيته، وكيفية تعامله مستقبلاً مع مسألة القروض؟
الفوائد والجزاءات
وأوضح في هذا الشأن، المحلل الاقتصادي السوداني محمد الناير قائلاً، "من المفترض أن تسرّع الحكومة السودانية خطواتها باتباع عديد من الخطوات التي تتعلق بإزاحة العبء عن الاقتصاد الوطني، الذي ظل يتولد سنوياً بسبب الفوائد والجزاءات المصاحبة لديون البلاد الخارجية، التي تقدر بنحو ملياري دولار في العام، ما جعل الديون تزيد من 17 ملياراً إلى نحو 56 مليار دولار، لأن مسألة إعفاء الديون بعد وصول السودان إلى نقطة اتخاذ القرار التي صادق عليها صندوق النقد الدولي، الاثنين 28 يونيو (حزيران) 2021، ستأخذ وقتاً، ولن تتم بشكل فوري، لأنها مرتبطة بإجراءات تتعلق ببرنامج زمني محدد، بالتالي، قد تصل حتى منتصف العام المقبل".
أضاف الناير، "من الإجراءات العملية التي يجب أن تقوم بها الدولة، وضع برنامج متوسط وبعيد المدى، يعتمد عدداً من المشروعات الحيوية في مجالات البنى التحتية، والزراعة والصناعة والطاقة، من خلال الحصول على تمويل من مؤسسات التمويل الدولية، فضلاً عن برنامج قصير المدى يختص بمعالجة الوضع المعيشي الذي بلغ تدهوراً مريعاً، بالنظر إلى التصاعد المستمر لأسعار السلع المختلفة، وزيادة التضخم لمعدلات لم يسبق أن شهدها اقتصاد البلاد على مر التاريخ ببلوغه أكثر من 400 في المئة".
ولفت إلى أن هذا الوضع المتدني يتطلب حلولاً عاجلة لحماية الشرائح الفقيرة في المجتمع التي تشكل معظم السكان البالغ عددهم أكثر من 40 مليون نسمة، إذ إن ما اتُخذ من برامج حماية، سواء برنامج "ثمرات" المختص بدعم الأسر بمعدل خمسة دولارات للفرد شهرياً، أو برنامج "سلعتي" الذي يوفر عدداً من السلع الأساسية للمواطنين بأسعار مخفضة، ليس مجدياً في التخفيف عن كاهل المواطن، لذلك لا بد من برنامج ضمان اجتماعي ذي جدوى أفضل مما هو متبع حالياً، مشيراً إلى ضرورة حدوث استقرار في سعر صرف الجنيه السوداني مقابل الدولار، وكذلك التحكم في الذهب كمورد اقتصادي مهم في مكافحة عمليات التهريب، إلى جانب الاهتمام بالمغتربين من أجل استغلال موارهم بالشكل المطلوب، بتقديم حوافز مشجعة في مجالات مختلفة بخاصة الجانب السكني.
انفجار الأسعار
وطالب المحلل الاقتصادي الدولة بإعادة النظر في المرتبات التي أصبحت لا قيمة لها في ظل انفجار الأسعار بعد تطبيق سياسة رفع الدعم، ما أدى إلى تدني أداء الخدمة المدنية، وهو أمر لن يتوقف عند هذا الحد، وسيتمدد إلى القطاعات الإنتاجية كافة، بل قد يؤدي إلى توقف الإنتاج، مبيناً أن على الدولة أن تقوم من وقت لآخر بقياس توجهات الرأي العام، حتى تتعرف على تداعيات قراراتها وإجراءاتها على الأفراد والقطاعات المختلفة، بخاصة الإنتاجية.
وأشار محمد الناير إلى أن مبلغ الملياري دولار الذي سيقدمه البنك الدولي للحكومة السودانية خلال الفترة المقبلة لن يحل مشكلة الاقتصاد السوداني، فما تواجهه البلاد من عقبات وتحديات يحتاج إلى توفير أربعة إلى خمسة مليارات دولار في مدة لا تتجاوز النصف الثاني من عام 2021، ومن دون تأمين هذا المبلغ سيكون الوضع الاقتصادي صعباً للغاية، بخاصة وأن أثر إلغاء الدولار الجمركي، ورفع الدعم عن الوقود نهائياً الذي تم أخيراً، لم يقع على أرض الواقع حتى الآن، بالتالي، فإن هذا المبلغ المطلوب توفيره سواء من موارد محلية أو تمويل خارجي، أمر حتمي وضروري، منوهاً إلى أن ما زاد من مشكلات السودان الاقتصادية تدني حركة الصادرات التي تواجه تحديات عديدة بسبب السياسات التي اتخذتها الدولة في الفترة الأخيرة، ويتوقع أن تتراجع أكثر مما هي عليه حالياً، البالغة بين ثلاثة إلى أربعة مليارات دولار سنوياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح الناير أن من الصعب استقطاب استثمارات أجنبية في ظل زيادة التضخم، وعدم ثبات سعر الصرف، إذ إن المناخ غير إيجابي، لناحية عدم الاستقرار الاقتصادي، على الرغم من توافر الموارد المختلفة، ووجود قانون استثمار مشجع، بالتالي لن تأتي استثمارات إلا في حال توجيه الدول الصديقة صناديقها الاستثمارية بالاستثمار في البلاد.
دروس وعبر
من جهته، أشار أستاذ الاقتصاد في الجامعات السودانية عبد العظيم المهل، إلى ضرورة أن تتعظ الحكومة السودانية من مسألة الديون الخارجية باعتبارها درساً لا بد من الوقوف عنده كثيراً، ومعرفة ماهية هذه الديون، وأين ذهبت، على أن تكون هناك محاسبة دقيقة وشفافة تشمل الأفراد والحكومات والقطاعات المختلفة التي لعبت دوراً سلبياً في تفاقم هذه القضية حتى وصلت لهذا الحد، على أن تخلص إلى قرار بشأن التعامل مع الديون مستقبلاً، بخاصة ما يتعلق بالفوائد التي كانت نسبتها عالية جداً، وكذلك من ناحية مدى جدوى المشاريع التي أُنشئت.
وتابع المهل، "بالنظر لهذه التجربة، لا بد أن تكون هناك استراتيجية قائمة على أن يُخضع أي مشروع يتطلب تمويلاً في المستقبل إلى دراسة جدوى اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية، وأن تحدد وجهة هذه الديون فهل تذهب للحكومة أم للقطاع الخاص، وهل يشمل الدين (القرض) التمويل فقط؟ أم أنه يكون شاملاً التمويل والتشييد والتشغيل؟ وما القطاعات الإنتاجية التي سيتم التركيز عليها (الزراعة، أم الصناعة، أم البنى التحتية، أم الخدمات، أم كلها)؟ فلا بد أن تكون هناك معلومات دقيقة متوفرة يتم على ضوئها رسم خطة التنمية المستقبلية للبلاد، كما يجب الاهتمام بفئات الشباب، وأن يكون لهم نصيب من المشاريع التي تستهدف من ناحية القروض، لا سيما وأن نسبة التحصيل والنجاح تكون عالية، وقد تصل إلى 90 في المئة، فضلاً عما توفره من وظائف كبيرة، لذلك لا بد من رؤية واضحة يتم على ضوئها الوصول إلى مدى فائدة القروض".
ونوه أستاذ الاقتصاد إلى أن إعفاء هذه الديون لن يتم سريعاً، حيث سيكون تدريجاً قد يصل إلى ثلاث سنوات، لكن من المهم أن تتوجه الدولة نحو القطاعات الإنتاجية، بأن تُصدر المنتجات مصنعة وليست مواد خام، مع التركيز على المشاريع التي فيها عائد فعلي، وتشغيل عمالة، فضلاً عن تنمية المجتمعات المحلية، بالتالي لن تكون هناك مشكلة من ناحية الاستفادة من القروض.
عقبة رئيسة
تعرض الاقتصاد السوداني لأزمات كبيرة، بخاصة خلال الـ 30 عاماً من حكم الرئيس السابق عمر البشير، الذي أطاحت به ثورة شعبية في أبريل (نيسان) 2019، بسبب انتشار الفساد، فضلاً عن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية لأكثر من عقدين، على نظام البشير.
وشكلت الديون الخارجية، أيضاً، عقبة رئيسة أمام انتعاش اقتصاد السودان، لكن تكللت جهود الحكومة الانتقالية بعد الخطوات التي اتبعتها لإصلاح اقتصادها بوصول البلاد إلى نقطة القرار المطلوبة للاستفادة من مبادرة الـ "هيبيك"، ما سيساعد على إحداث تغيير دائم للسودان من خلال السماح بتخفيض ديونه بشكل نهائي بمقدار 23.5 مليار دولار من حيث القيمة الصافية الحالية بمجرد وصوله إلى نقطة الإنجاز الخاصة بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون، إضافة إلى كونه سيساعد في التطبيع الفوري لعلاقاته مع المجتمع الدولي، والوصول إلى الموارد المالية الإضافية المهمة لدعم الإصلاحات الاقتصادية الصعبة التي يقوم بتطبيقها.
ويعد ما تم بخصوص إعفاء ديون السودان، أكبر تخفيف للديون يتخذ لأي دولة في إطار هذه المبادرة حتى الآن، ما يعبر عن الدعم الحقيقي الذي تلقاه السودان من المؤسسات المالية الدولية و"نادي باريس" والشركاء المانحين.
مؤتمر باريس
وكان أن حصل السودان خلال انعقاد مؤتمر باريس في مايو (أيار) الماضي، على تعهدات إعفاءات ديون ثنائية بقيمة 30 مليار دولار، فضلاً عن إعلان فرنسا إلغاء ديونها كافة على البلاد التي تقدر بنحو خمسة مليارات دولار، وهي تمثل أكبر نسبة ديون على السودان في "نادي باريس"، كما أعلنت النرويج أيضاً عن إلغاء ديونها البالغة 4.5 مليار دولار، دعماً لجهود السودان الرامية لإصلاح أوضاعه الاقتصادية، كما أكدت السعودية المضي قدماً في اتخاذ الخطوات اللازمة لإلغاء ديونها على السودان المقدرة بنحو خمسة مليارات دولار، في حين أبدت كل من الولايات المتحدة والسويد وإيطاليا استعدادها لتقديم منح لتغطية النواقص في متأخرات الديون التي تقدر بـ 13 مليار دولار، بما فيها الفوائد والغرامات الجزائية، وفي الوقت ذاته، تعهدت دول وشركات وهيئات تمويل بالاستثمار في مختلف قطاعات اقتصاد البلاد.