على الرغم من انخفاض أسعار النفط في اليومين الماضيين، بعد فشل منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك" وحلفائها في التوصل إلى اتفاق زيادة الإنتاج، فإن أسعار المشتقات البترولية خصوصاً وقود السيارات ما زالت مرتفعة. ومع توقعات زيادة الطلب على النفط عالمياً، تتوقع الأسواق زيادة في إنتاج دول تحالف "أوبك+" ربما بقدر أكبر من الحصص المقررة عملياً.
ومنذ تجاوز سعر برميل النفط حاجز 70 دولاراً واقترابه من 80 دولاراً قبل التراجع الأخير، ارتفعت أسعار المشتقات باستثناء وقود الطائرات الذي لم يتحسن الطلب عليه بدرجة كبيرة منذ انهياره مع توقف السفر الجوي في عام وباء فيروس كورونا. ولأن النسبة الأكبر من سعر بعض المشتقات، كوقود السيارات، من بنزين وديزل، مثلاً هي عبارة عن ضرائب ورسوم حكومية وبقدر أكبر من كلفة الخام وتكريره، فإن أسعار المشتقات ترتفع مع ارتفاع أسعار الخام ولا تتراجع بالسرعة ذاتها إذا ما انخفضت أسعار الخام.
لكن المحللين في أسواق النفط وشركات الاستشارات، مثل "رايستاد" و"غلوبال بلاتس" وغيرهما، يرون أن أسعار المشتقات خلال الشهرين الماضيين أصبحت أكثر ارتباطاً بأسعار النفط الخام. وتتوقع الأسواق استمرار ارتفاع أسعار الوقود حتى نهاية أغسطس (آب) على الأقل، على الرغم من أن مصافي التكرير تعمل بطاقة أكبر في الصيف عموماً.
المصافي وكلفة التكرير
مع ارتفاع أسعار الخام يتقلص هامش الربح بالنسبة إلى مصافي التكرير، لذا بدأت المصافي، أخيراً، الاستعاضة عن استيراد مدخلاتها من الخام واللجوء إلى المخزونات التي تم شراؤها في وقت سابق حين كانت أسعار النفط أقل ربما بأكثر من 25 في المئة عن الآن. لذا، تشهد المخزونات الأميركية سحباً بمعدلات غير مسبوقة بلغ في الأسابيع الأربعة الماضية أكثر من مليون برميل يومياً. ويتوقع المحللون أن تنخفض تلك المخزونات ربما بقرابة النصف في نهاية سبتمبر (أيلول) المقبل.
بحسب أرقام "غلوبال بلاتس"، وحدة تحليل معلومات الطاقة في مؤسسة "ستاندرد آند بورز"، تراجع معدل استيراد المصافي للمدخلات الخام في الصين بقرابة ستة في المئة (نسبة 5.9 في المئة) في يونيو (حزيران) مقارنة مع مايو (أيار)، ليصل إلى 3.49 مليون برميل يومياً، وهو أدنى معدل استيراد منذ فترة طويلة. في المقابل، زاد معدل السحب من المخزونات في تلك الفترة، مع ارتفاع أسعار النفط، وطال التراجع في استيراد المصافي الصينية أنواعاً مختلفة من خام النفط.
في أوروبا، زادت المصافي من إنتاج البنزين ومشتقات أخرى، مع بقاء إنتاج وقود الطائرات من دون زيادة كبيرة. وفي يونيو وبداية يوليو (تموز)، أصبحت أسعار البنزين تتحرك أقرب ما يكون إلى نسبة الارتفاع في أسعار النفط الخام، وذلك للحفاظ على هامش ربح معقول للمصافي. وعلى الرغم من تخفيف إجراءات الوقاية من انتشار كورونا في دول عدة، فإن الطلب لا يزال أقل من معدلاته قبل كورونا في 2019، ربما بنسبة ما بين 3 و5 في المئة. في المقابل، يظل الطلب على وقود الطائرات أقل من معدلاته ما قبل وباء كورونا بنسبة في حدود 30 في المئة.
غالباً ما يتراجع نشاط المصافي موسمياً عدا فصل الصيف إذ تدخل في عمليات الصيانة أو تقلل طاقتها الإنتاجية مع تراجع الطلب على المشتقات. لكن هذا النمط قد يختلف، مثلما اختلفت كثير من نماذج النشاط الاقتصادي التقليدي مع أزمة وباء كورونا. ويخشى المتابعون لقطاع التكرير وسوق المشتقات من أن ارتفاع الأسعار ربما يحد من زيادة الطلب، ما يشكل تهديداً للانتعاش الاقتصادي من أزمة كورونا عموماً.
أسعار البنزين والتضخم
الثلاثاء الماضي، نفت الحكومة الأميركية مسؤوليتها عن ارتفاع أسعار وقود السيارات بعد اتهام الجمهوريين إدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطية بأن سياساتها السبب وراء تضرر جيوب السائقين عند محطات الوقود.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي في إيجازها الصحافي اليومي، "أعتقد أن هناك أحياناً سوء فهم حول سبب ارتفاع أسعار البنزين، لذا نؤكد للشعب الأميركي أننا نعمل على معالجة الأمر، وإن مدى توفر المعروض من النفط الخام له التأثير الأكبر... ونؤكد أن ضمان عدم تحمل المواطن الأميركي العبء عند محطات الوقود أولوية للحكومة". وأشارت إلى أن إدارة بايدن لم تفرض ضرائب إضافية على أسعار الوقود لتمويل خطط البنية التحتية الهائلة الحجم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وارتفعت أسعار البنزين في الولايات المتحدة بنحو 40 في المئة منذ بداية العام حتى الآن، وكذلك الحال في بريطانيا ومعظم الاقتصادات الرئيسة. فمع إعادة فتح الاقتصاد وعودة النشاط في الدول التي تشهد نسبة عالية من التطعيم بلقاحات الوقاية من كورونا، زاد الطلب على وقود السيارات وعلى المشتقات النفطية عموماً. وتجاوز سعر غالون (3.7 لتر) البنزين في محطات الوقود الأميركية 3.13 دولار، مقابل 3.05 دولار خلال يونيو الماضي و2.18 دولار في المتوسط العام الماضي.
أما في بريطانيا مثلاً، فيزيد سعر لتر البنزين عن 1.8 دولار (1.35 جنيه إسترليني)، وبحساب الغالون على الطريقة الأميركية يزيد سعر الغالون عن 6.6 دولار. أما الغالون في بريطانيا فهو 4.5 لتر، أي أن سعره يتجاوز 8 دولارات. ويعود سبب كون سعر لتر البنزين في بريطانيا أكثر من ضعف سعره في أميركا إلى كمية الضرائب والرسوم الحكومية التي تفرضها الحكومة البريطانية على أسعار الوقود للمستهلك.
تلك الرسوم والضرائب لا تنخفض، وفي أفضل الأحوال لا ترفعها الحكومة بنسب كبيرة، فيبقى هامش تحرك أسعار الوقود استناداً إلى أسعار النفط الخام محدوداً. لذا، يُخشى من أن استمرار ارتفاع أسعار المشتقات في الأشهر القليلة المقبلة سيزيد من معدلات التضخم المرتفعة أصلاً بأكثر من النسبة التي تستهدفها البنوك المركزية وهي 2 في المئة. على سبيل المثال، ارتفع التضخم في أكبر اقتصاد في العالم لشهر مايو بمعدل سنوي بنسبة 5 في المئة. ويشكل ذلك قلقاً إضافياً للاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي الذي قد يضطر إلى مواجهة التضخم برفع أسعار الفائدة.
دائرة مفرغة
وفي حال استمر ارتفاع أسعار المشتقات البترولية، خصوصاً وقود السيارات، واضطرت البنوك المركزية إلى تشديد سياساتها النقدية، فإن ذلك سيضر بالنمو الاقتصادي، وبالتالي يتراجع معدل التعافي بعد أزمة كورونا. ناهيك عن أن ارتفاع الأسعار سيضغط نزولاً على الطلب على تلك المشتقات وعلى النفط الخام عموماً. ومع تراجع نمو الطلب، واحتمالات زيادة الإنتاج، يصبح ميزان سوق الطاقة مائلاً نحو العرض فتنخفض الأسعار.
صحيح أن السحب من المخزونات سيوفر طلباً إضافياً على النفط الخام لملء حاويات التخزين، لكن ذلك لا يحدث بكثافة غالباً إلا في أوقات تراجع أسعار النفط. ومن غير الواضح إن كانت معدلات انخفاض الأسعار ستنعكس على أسعار المشتقات بعد شهرين مثلاً بما يوازن مستوى الطلب.
ويضيف ذلك عبئاً آخر على المنتجين والمصدرين وهم يحددون سياساتهم لضمان توازن السوق. فعليهم، كما يرى كثيرون من الاقتصاديين والمحللين أن يأخذوا في الاعتبار تأثير أسعار المشتقات على النمو الاقتصادي عموماً، وليس طلب المصافي على الخام فحسب. فنمو الناتج المحلي الإجمالي بقوة وسرعة بعد أزمة كورونا الدافع الأساسي لتوقعات نمو الطلب العالمي على النفط.