توقفت عقارب الساعة في القاهرة، مساء الخميس 8 يوليو (تموز) الحالي، عند التاسعة بالتوقيت المحلي، حيث يتابع المصريون جلسة نادرة لمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، التي انطلقت خصيصاً لبحث أزمة سد النهضة الإثيوبي في أعقاب إعلان أديس أبابا بدء المرحلة الثانية للملء الأول لسدها الضخم الذي تبنيه على النيل الأزرق، فيما تباينت ردود الفعل إزاء كلمات الدول الأعضاء بالمجلس الداعية في مجملها إلى استئناف العملية التفاوضية المتعثرة بقيادة الاتحاد الأفريقي.
ويدعو مشروع القرار الذي تقدمت به تونس، العضو العربي بمجلس الأمن، إلى التوصل إلى اتفاق ملزم بين إثيوبيا والسودان ومصر في شأن تشغيل السد خلال ستة أشهر، فيما أجمعت الدول الأعضاء على دعم الوساطة الأفريقية لحل النزاع، مع تأكيدها تفهم المشكلات والتهديدات التي يمثلها السد لمصر والسودان، خاصة في سنوات الجفاف.
وعقد المجلس مساء الخميس اجتماعاً بناءً على طلب مصر والسودان لبحث المسألة، باعتبارها تهديداً للأمن والسلم الدوليين. وقال وزير الخارجية المصري، سامح شكري، في بيانه أمام المجلس، إن بلاده تواجه تهديداً وجودياً، متهماً السد الإثيوبي بأنه يضيق شريان الحياة على "ملايين الأبرياء" الذين يعيشون على مجرى نهر النيل، لافتاً إلى لجوء مصر العام الماضي إلى مجلس الأمن أيضاً من أجل التحذير من "مغبة السعي لفرض السيطرة والاستحواذ على نهر يعتمد عليه بقاؤنا".
ووجه آبي أحمد، رئيس وزراء إثيوبيا، اليوم الجمعة، رسالة "طمأنة" إلى مصر والسودان، من خلال تغريدة باللغة العربية، عبر حسابه في "تويتر"، قائلاً "يمكن أن يكون سد النهضة الإثيوبي الكبير مصدراً للتعاون بين دولنا الثلاث، وأبعد"، مضيفاً، "أود أن أطمئن الشعبين السوداني والمصري أنهم لن يتعرضوا أبداً لضرر ذي شأن بسبب ملء السد، لأنه لن يأخذ سوى جزء صغير من التدفق".
الاعتداء على النيل وفشل الحل الأفريقي
ووصف شكري، خلال كلمته بجلسة عاصفة لمجلس الأمن، شروع إثيوبيا في الملء الأول المنفرد للسد العام الماضي، بعد أيام من جلسة مجلس الأمن، بأنه مثّل "اعتداءً على النيل"، موضحاً أن رد فعل القاهرة إزاء "هذا الاعتداء" على النيل اتسم بضبط النفس واتباع درب السلم والسعي للتوصل إلى تسوية لهذه الأزمة من خلال اتفاق منصف يحفظ مصالح الأطراف الثلاثة.
وقال إن بلاده تبنت مبادرة رئيس الاتحاد الأفريقي سيريل رامافوزا، رئيس جنوب أفريقيا، لإطلاق مفاوضات تحت رعاية الاتحاد، من خلال الانخراط على مدار عام كامل في المفاوضات، مشيراً إلى أن جهود التوصل إلى "حل أفريقي" لهذه الأزمة "الكؤود" باءت "بالفشل".
ومن جانبه، طالب وزير المياه والطاقة والري الإثيوبي، سيلشي بيكيلي، خلال كلمته، بأن يعيد مجلس الأمن مجدداً الملف إلى الاتحاد الأفريقي، وأن "تكون هذه آخر مرة يناقش فيها مجلس الأمن هذه القضية"، واصفاً طرح موضوع السد الذي يقول إن بلاده تبنيه من أجل توليد الطاقة الكهرومائية، يعد بمثابة "مضيعة للوقت"، على حد تعبيره.
لكن، الوزير المصري استنكر إعلان إثيوبيا بدء المرحلة الثانية من ملء السد بشكل أحادي من دون "اتفاق" يضمن حماية شعبي مصر والسودان ضد مخاطره. واستكمل، "هذا السلوك الفج لا يعكس فقط انعدام المسؤولية لدى الجانب الإثيوبي وعدم المبالاة تجاه الضرر الذي قد يلحقه ملء هذا السد على مصر والسودان، لكنه يجسد أيضاً سوء النية الإثيوبية، والجنوح لفرض الأمر الواقع على دولتي المصب في تحدٍ سافر للإرادة الجماعية للمجتمع الدولي".
وقال شكري، إن سلوك إثيوبيا يستهدف "أسر نهر النيل والتحكم فيه وتحويله من نهر عابر للحدود جالب للحياة إلى أداة سياسية لممارسة النفوذ السياسي وبسط السيطرة، وهو ما يهدد بتقويض السلم والأمن في المنطقة".
وفي المقابل، قال الوزير الإثيوبي، "إثيوبيا لا تستجيب للضغوط السياسية أو أي تدخل وستواصل ممارسة ضبط النفس، وتبدي التعاون لأننا سنكون دائماً متواصلين ومترابطين بسبب هذا النهر، ويجب أن نعيش بسلام كجيران، ونعيد تأكيدنا التزامنا بالعملية التفاوضية برئاسة الاتحاد الأفريقي".
وأمام الحديث عن فشل الجهود الأفريقية المتواصلة لعام الثاني على التوالي، دعت واشنطن، التي تشارك كمراقب بالمفاوضات الأفريقية، إلى استئناف المفاوضات بقيادة الاتحاد الأفريقي "على وجه السرعة"، ويجب أن تستخدم هذه العملية كمراجع تأسيسية إعلان المبادئ لعام 2015 الذي وقعت عليه الأطراف وبيان يوليو (تموز) الماضي الصادر عن مكتب الاتحاد الأفريقي.
وقالت السفيرة الأميركية ليندا غرينفيلد، ممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، التي استحدثت بلادها منصب مبعوث خاص للقرن الأفريقي وإثيوبيا التي تشهد حرباً داخلية منذ شهور، إن بلادها ترى أن "الاتحاد الأفريقي هو المكان الأنسب لمعالجة هذا النزاع، والولايات المتحدة ملتزمة بتقديم الدعم السياسي والفني لتسهيل التوصل إلى نتيجة ناجحة. ونحث الاتحاد الأفريقي والأطراف على استخدام خبرة المراقبين الرسميين الثلاثة، أي جنوب أفريقيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وكذلك الأمم المتحدة والشركاء الآخرين للمساعدة في تحقيق نتيجة إيجابية".
تهديد أمن المنطقة
وطالب الوزير المصري مجلس الأمن "بالتدخل العاجل والفعال لمنع تصاعد التوتر ومعالجة هذا الوضع الذي يمكن أن يعرض الأمن والسلم الدوليين للخطر، وذلك وفقاً لما هو منصوص عليه في المادة 34 من ميثاق الأمم المتحدة"، واصفاً الأوضاع الأمنية في منطقة القرن الأفريقي بـ"الهشة".
وقال شكري إن تهديدات السد تتطلب قيام المجلس بمطالبة الأطراف للعمل على الوصول إلى اتفاق منصف، وفي إطار زمني محدد، محذراً من أنه "إذا لم تتحقق هذا الغاية، وإذا تضررت حقوق مصر المائية أو تعرض بقاؤها للخطر... فلا يوجد أمام مصر بديل إلا أن تحمي وتصون حقها الأصيل في الحياة وفق ما تضمنه لها القوانين والأعراف السائدة بين الأمم ومقتضيات البقاء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما وزيرة الخارجية السودانية، مريم الصادق المهدي، فأكدت أنه إذا تبنى مجلس الأمن الدولي قراراً حول أزمة سد النهضة الإثيوبي، ستكون سابقة فريدة من نوعها، معتبرة أن "وزير المياه الإثيوبي، أرسل برسالة إلى مصر والسودان تكاد تكون تهديدية بعد أن أعلن بدء الملء الثاني لسد النهضة".
وفي مقابل تصعيد نبرة الخطاب المصري خلال الاجتماع، دعت واشنطن "كل الأطراف إلى الامتناع عن الإدلاء بأي تصريحات أو اتخاذ أي إجراءات قد تعرض عملية التفاوض والالتزام بحل تفاوضي مقبول للجميع للخطر".
وقالت غرينفيلد، إن منطقة القرن الأفريقي تقف عند نقطة انعطاف، معتبرة أن القرارات التي سيجري اتخاذها في الأسابيع والأشهر المقبلة تداعيات كبيرة وطويلة الأجل على شعوب المنطقة، مؤكدة واشنطن "ملتزمة بمعالجة الأزمات الإقليمية المترابطة ودعم القرن الأفريقي المزدهر والمستقر"، واستعدادها لدعم "الجهود التعاونية والبناءة" التي تبذلها إثيوبيا ومصر والسودان لحل المشكلات المتعلقة بسد النهضة.
أزمة "سياسية"
وتضمنت كلمة وزير المياه الإثيوبي عبارات "عاطفية" تدافع عن المشروع باعتباره "الأمل والطموح الذي ولده لـ65 مليون إثيوبي لا يحصل على الكهرباء"، معتبراً أن غياب الاتفاق حول ملء السد يعود إلى رفض مصر والسودان استئناف المفاوضات. وقال بكيلي إن بلاده تؤمن أنه يمكن أن نتوصل إلى اتفاق لو توافرت الإرادة السياسية والالتزام بالتفاوض بحسن نية، معرباً عن أسفه أن مصر والسودان اختارتا طرح هذه المسألة على مجلس الأمن.
وتابع، "نتحدث عن سد لتوليد الطاقة الكهرومائية، للمرة الأولى منذ إنشائه يجبر مجلس الأمن على البت في مشروع تنموي، مجلس الأمن هيئة سياسية معنية بالأمن، ومن غير المفيد أن نطرح عليه مسألة تتطلب حداً فنياً مائياً ليبت فيها".
وقال وزير الخارجية المصري إن "الإخفاق المستمر للمفاوضات لا يرجع إلى غياب الحلول العلمية السليمة للأمور الفنية العالقة أو لغياب الخبرة القانونية المطلوبة لصياغة اتفاق في هذا الشأن، إنما السبب الأوحد للفشل والإخفاق المستمر هو التعنت الإثيوبي"، معتبراً أن تصريح وزير الخارجية الإثيوبي في خطابه للمجلس الشهر الماضي بأن "ملء وتشغيل سد النهضة دون السعي للتوصل إلى اتفاق مع مصر والسودان، لهو مجرد ممارسة للحد الأدنى من حقوق إثيوبيا السيادية كدولة مشاطئة في مجرى مائى دولى"، يشير إلى أن منشأ الأزمة "سياسياً بامتياز"، على حد وصفه.
وأكدت مصر تمسكها بتعزيز وزيادة فرص التعاون المشترك مع "الأشقاء" من دول حوض النيل، مؤكداً ضرورة التوصل إلى اتفاق منصف ومعقول وملزم قانوناً، "يتضمن تدابير وإجراءات لتفادى تأثيراته السلبية على دولتي المصب، خاصة في فترات الجفاف، ولمنع حدوث أي أضرار جسيمة بالمصالح المائية لكل من مصر والسودان، ولضمان صون أمن وفاعلية وكفاءة التشغيل لسدود دولتي المصب، كما يجب أن يضمن عدم تعرض أمن مصر المائى للخطر جراء ملء وتشغيل هذا السد الذي يمثل أكبر منشأة كهرومائية في أفريقيا".
وفي مقابل تأكيد مصر على الطابع السياسي للأزمة، دعا شكري إلى ضرورة تبني "قرار سياسي" حول مسألة سد النهضة الإثيوبي، تعمل على "إعادة إطلاق المفاوضات وفقاً لصيغة معززة تحافظ على قيادة رئيس الاتحاد الأفريقي لعملية التفاوض وتدعمها بدور أكبر للشركاء الدوليين، بما فيهم الأمم المتحدة.
وذكرت ممثلة الولايات المتحدة، العضو الدائم بمجلس الأمن، أنه يمكن "التوفيق" في شأن مسألة السد بين مخاوف مصر والسودان في شأن الأمن المائي وسلامة السد وتشغيله مع احتياجات التنمية في إثيوبيا، حيث "يمكن التوصل إلى حل متوازن ومنصف لملء سد النهضة وتشغيله من خلال التزام سياسي من الأطراف كل".
خيارات مصر وبدائل التفاوض
تعهدت مصر بخيار لا بديل عنه في أن "تحمي وتصون حقها الأصيل في الحياة والبقاء" إزاء ما تعتبره تهديداً "وجودياً" لكيانها، لكن بقي ذلك مشروطاً "بتضرر حقوقها المائية أو تعرض بقائها للخطر"، بحسب خطاب الوزير المصري في مجلس الأمن الذي تصدّره بيت من النشيد الرسمي للقوات المسلحة المصرية للشاعر فاروق جويدة، يقول: "وتنساب يا نيل حراً طليقاً... ليحكي ضفافك مدى النضال"، ما أثار حالة من الحماسة الوطنية على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام في مصر.
وتقول مصادر مسؤولة في كل من مصر والسودان لـ"اندبندنت عربية"، إن هدف الاجتماع السعي إلى استصدار قرار من مجلس الأمن يوفر غطاءً دولياً لأي عمل عسكري محتمل حال تحول المسار التفاوضي المتعثر إلى "عمل غير ذي جدوى"، وتعتقد شخصيات قريبة من دوائر صنع القرار في مصر إن مواقف الدول الخمس دائمة العضوية في المجلس لم توفر إجماعاً مقبولاً على دعم الموقف المصري - السوداني بالمستوى الذي يسمح باتخاذ تدابير غير التفاوض.
وبينما أجمعت المصادر على أن انعقاد الاجتماع حقق الهدف منه بوضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته تجاه تلك الأزمة، وتصعيدها على أجندة القضايا المؤثرة على الأمن الإقليمي والدولي، قال مصدر مطلع على المناقشات، إن "موقف المجتمع الدولي ليس هو العنصر الحاسم أو المحرك الرئيس لما يمكن أن تتخذه مصر حال قررت استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافها السياسية والاستراتيجية في أزمة السد، فالقاهرة لن تنتظر ضوءاً أخضر للدفاع عن وجودها وبقائها ضد أي تهديد، والعالم لا يعترف إلا بالأقوياء، كما أن تصعيد الخطاب الرسمي المصري رفع سقف توقعات الشعب المنشغل بهذه الأزمة، بما جعله بانتظار مفاجأة أو حل يزيح شبح التهديد لأمنه المائي ويرسخ أساساً جديداً للإجماع الوطني على المستوى الداخلي".
ويتصاعد الحديث في القاهرة حول نية استخدام القوة لتجنب "التهديد الوجودي"، الذي يشكله المشروع الإثيوبي على كل من مصر والسودان. وأكد وزير الخارجية المصري، في مؤتمر صحافي عقب الاجتماع الأممي، أنه "يجب على مصر حماية حقوق شعبها، وهذا أمر ضروري ستتخذه أي حكومة، وأن بلاده بدأت هذه المفاوضات منذ أكثر من عقد، وأظهرت حسن النية ومرونة، وستستمر في فعل ذلك، والمجيء إلى مجلس الأمن يثبت فعلاً رغبتها في أن يساعد المجتمع الدولي الدول الثلاث في مفترق الطرق المهم الحالي، لتخفيف التوترات وتشجيع العودة لطاولة المفاوضات ومحاولة التوصل إلى ختام لهذه المفاوضات".
إلى ذلك، اقترح مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، عقد جولة من المفاوضات لتسوية الخلافات حول السد برئاسة الاتحاد الأفريقي في نيويورك، حيث مقر الأمم المتحدة. وقال المندوب الروسي، إن بلاده تشعر بالقلق من تنامي الخطاب التهديدي في أزمة سد النهضة.
ودعت تونس التي تقدمت بمشروع القرار حول أزمة السد إلى "إعطاء دفعة جديدة وحاسمة لمسار المفاوضات تحت إشراف الاتحاد الأفريقي"، ووجود "آلية تنسيق وتعاون بين الدول المعنية حول استغلال الموارد المائية وفض الخلافات التي قد تنشأ في هذا الإطار بما يضمن حقوق الجميع".