في وقت تتوجه الأنظار إلى شد الحبال الأميركي- الإيراني وإرسال واشنطن قطعاً حربية وبطارية صواريخ باتريوت إلى الشرق الأوسط لمواجهة إيران، يعاني هذا البلد من مشكلات داخلية كبيرة منها أضرار السيول والفيضانات الأخيرة. فرغم أن الأزمة بدأت قبل أسابيع لا يزال البلد يواجه صعوبات في احتواء الأضرار التي خلفتها السيول الجارفة. فالآلاف من المواطنين لم يتمكنوا من العودة إلى منازلهم إذ أن المياه ما تزال تحاصر مناطق وقرى شاسعة في عدد من الأقاليم. ويقول خبراء إن شطراً كبيراً من الأضرار ناجم عن سياسات الحكومة، وحرف مسار الأنهر، وقطع الغابات والتمدد العقاري العشوائي.
وضربت الفيضانات في إيران أشد ما ضربت المنطقة الغنية بالنفط، الأحواز ولورستان. وبينما برز دور الحرس الثوري الايراني، الباسدران، في معالجة الأزمة لكن معارضين وجهوا اتهامات إلى الحرس بالفشل في إدارة السدود التي يبنيها على عدد من الأنهر ما نجم عنها فيضانات غير مسبوقة. وذهب آخرون إلى حد أبعد باتهام هذا الجهاز الأمني بافتعال الفيضانات في منطقة الأحواز لتهجير المواطنين العرب من أراضيهم خاصة أن السلطات لا تخفي أنها أطلقت نوافذ من الأنهر على أراضي المزارعين "بهدف حماية المدن".
أزمة الفيضانات في الأحواز تزامنت مع حملة شعبية لاحتواء آثار الأزمة وسط اتهامات للسلطات بالتقاعس في إيصال المساعدات، واعتقالها أكثر من 20 ناشطا من المتطوعين الذين كانوا يساعدون ضحايات الفيضانات بتهم "نشر أخبار مفبركة".
ولاحظ مراسل لو موند الفرنسية لوي (س) أمبير أن قوات الحرس تسعى إلى سد الثغرات الناجمة عن ضعف مؤسسات الدولة الإيرانية. فهذه القوات تنتشر في المناطق المنكوبة وتسهم في إغاثة السكان. وأرسلت وزارة الاتصالات الإيرانية طائرات درون تبسط شبكة إنترنت فوق القرى المنكوبة للحؤول دون انقطاعها عن العالم. ولكن استياء الإيرانيين كبير وهم يعيبون على الحكومة التأخر في الاستجابة لتحذيرات وكالة الأرصاد الوطنية، وعدم تفريغها السدود من المياه في الوقت المناسب، وسوء إدارة الأزمة.
دمار كلفته مثل الحرب مع العراق
وكانت كارثة الفيضانات والسيول ضخمة، فمستوى المياه ارتفع في ألفي تجمع سكني في 25 محافظة من مجمل المحافظات الإيرانية البالغ عددها 31 محافظة. وأكثر من 500 ألف اضطروا إلى النزوح، ونحو مليوني إيراني لا يزالون يحتاجون إلى إغاثة إنسانية. وفاقت قيمة الأضرار المادية 3 مليارات يورو، بحسب صحيفة "إيران" المقربة من الحكومة. ورأى نائب في البرلمان في 18 أبريل (نيسان) أن أضرار الفيضانات تضاهي كلفة الحرب الإيرانية– العراقية بين 1980 و1988. وكانت السيول بدأت في منطقة ضفاف بحر قزوين في الشمال وعلى مقربة من الحدود الأفغانية، وتزامنت مع عيد النوروز، ثم انتقلت بسرعة إلى الجنوب حيث وقع 19 قتيلاً في شيراز. ومذ ذاك بلغت الفيضانات الحدود العراقية والمنطقة النفطية غرب البلاد. وتسري الشائعات في إيران سريان النار في الهشيم. وتغرق فيديوهات قصيرة موقع تيليغرام بسيلٍ من تسجيلات عن قرى غارقة في الوحل بعد انحسار المياه، وتظهر التسجيلات هذه صور مئات الدجاجات النافقة وجيفها تطفو على سطح المياه، وسعي فلاحين وعسكريين وحتى رجال دين إلى إنشاء ساتر ترابي للإسهام في حماية سكان في جوار نهري دز وكرخه، وكان الجفاف حلّ بهما منذ سنوات، ولكن المياه فيهما انبعثت أخيراً، والتقى سيل النهرين في منتصف أبريل الماضي وفاق منسوب نهر السين الباريسي، على قول مراسل "لو موند" الفرنسية، لويس إمبير. وصار المنسوب الفائض هذا يهدد الأحواز، عاصمة محافظة خوزستان المهملة، وهي عانت في السنوات الأخيرة الجفاف والعواصف الترابية. ومع انتشار الشائعات، اضطر وزير النفط الإيراني، بيجن زنكنة، إلى نفي تحويل السلطات مياه السيول عن هور العظيم على الحدود الإيرانية- العراقية لحماية منشآت النفط، ونقلت عنه وكالة مهر تحميله "الأعداء"، وتحديداً واشنطن، مسؤولية الإشاعات، وقال إن "جميع حقول النفط في منطقة غرب كارون محاصرة بالمياه ما عدا عدة مئات من الأمتار المربعة في محيطها". وتوقفت عجلة العمل في معظم مصانع قصب السكر في خوزستان جراء غرق 30 ألف هكتار من الأراضي.
صنيعة البشر وليس الطبيعة؟
ولعل أشد المآخذ وأقساها على السلطة الإيرانية جاءت على لسان الإيرانيين، فهم يبحثون عن المسؤول عن الفيضانات الأخيرة. ولا ينفي ناصر كرامي، وهو خبير في الأرصاد الجوية من محافظة غلستان، دور التغير المناخي في الفيضانات، ولكنه يرى أن شطراً راجحاً من الدمار نجم عن أفعال البشر، أي تدمير الغابات وتغيير مسارات الأنهر أو البناء عليها حين جفافها. وهو يرى أن الكارثة التي ألمت بشيراز حيث راح ضحيتها عشرات الأشخاص لم تكن أبداً من بنات "الطبيعة"، بل نجمت عن البناء على مجرى النهر الجاف في منطقة "بوابة القرآن"، على ما كتب في موقع التواصل الاجتماعي، تيليغرام، والموقع هذا يعرف رواجاً في إيران وروسيا، وهذه حظرته على شبكتها.
ويوجه معارضون إيرانيون أصابع الاتهام إلى مقربين من المرشد الأعلى الإيراني، في المحافظات الشمالية في غيلان ومزدران وغلستان. وذهب موقع "إيران واير" المعارض إلى أن المؤشرات كثيرة إلى انتهاك قوانين حماية الغابات. فمقاولون نافذون عرقلوا إقرار قانون يرمي إلى حماية الغابات في يناير (كانون الثاني) 2017 . ويحظر مشروع القانون هذا قطع الأشجار لغايات تجارية ولا يسمح إلا باستخدام أشجار تهاوت أو انكسر جذعها، أي كانت "وفاتها طبيعية".
عقوبات أميركية... ومضاربات عقارية
ويلاحظ موقع إيران واير أن الكارثة الأخيرة وثيقة الصلة بنتائج العقوبات الاقتصادية على إيران. ففي العقد الماضي، ارتفعت أسعار العقارات والمباني السكنية جراء إغلاق العقوبات، الأميركية تحديداً، أبواب التجارة المشروعة مع إيران. فصار شطر كبير من الاقتصاد يدور في فلك المضاربات العقارية والسكنية، وصودرت مساحات كبيرة من الغابات. وغالبية المدن الإيرانية مكتظة وتستقبل ما يزيد على طاقتها من السكان، فبدأت ظاهرة التمدد إلى خارج المدن وتوسيع رقعة التجمعات السكانية إلى منحدرات الجبال والغابات. وعززت الظروف الناجمة عن الصعوبات الاقتصادية قبضة مافيا العقارات، وفيها شخصيات سياسية نافذة. ولكن عامة الإيرانيين شاركوا كذلك، وإلى حد ما، في المضاربات العقارية ومشاريع المقاولات في سفوح الجبال والغابات ومجاري الأنهر. ورجحت كفة قطاع التطوير العقاري والمقاولات في قرى شمال إيران، وهي مشهورة بطقسها المعتدل، وصارت تعتاش من القطاع هذا. وفي أبريل المنصرم، وجه الرئيس حسن روحاني أصابع الاتهام إلى عقود من التصحر وانحسار رقعة الغابات... والتطوير العقاري العشوائي. وينبّه لويس أمبير في "لوموند الفرنسية" إلى دور سياسات الزراعات المروية والتصنيع المطرد في الأزمة الأخيرة. فهذه السياسات لم تراعِ الموارد البيئية منذ نظام الشاه، وتوسعت وتفاقمت أضرارها في عهد "الثورة الإسلامية" منذ 1979 إلى يومنا هذا.
سنوات عجاف... وسيول
شهد العام الماضي اضطرابات في إيران قبل تجديد العقوبات الأميركية وبعدها. ففي مطلع 2018، ألقت أجهزة استخبارات الحرس الثوري القبض على 8 ناشطين بيئيين يسعون إلى إنقاذ الحيوانات المهددة بالانقراض في إيران، منهم كاووس سيد إمامي الإيراني- الكندي والأستاذ المحاضر في جامعة الإمام الكاظم في طهران، وهو توفي في السجن بعد أسابيع من الاعتقال، وقالت السلطات إنه انتحر، ومنعت زوجته من مغادرة الأراضي الإيرانية. وكان الناشطون البيئيون أخذوا على السياسات الحرسية والحكومية، مفاقمة التصحر جراء هدر المياه وإنشاء سدود عشوائية، وتهديد فهد الشيتا الآسيوي بالانقراض جراء الصيد الجائر. ويبدو أن الشؤون البيئية هي مسألة أمن قومي في الجمهورية الإسلامية. والسيول فاجأت الإيرانيين، بعد أعوام من قرع الناشطين البيئيين ناقوس خطر شح المياه، وكانت صحف إيرانية، إلى وقت قريب، تروي أخبار وقوف الناس في طوابير لملء عبوات مياه في مناطق شحت فيها المياه، وأخبار سعي الحرس الثوري إلى مساعدتهم. ولكن نفي السلطات الإيرانية حرف مجرى الأنهار لا يتفق مع شكوى عراقية خافتة. فمواقع عراقية دار كلامها على قطع طهران تدفق مياه نهر الزاب الصغير عن دجلة، وتغييرها مسار أنهر لتحول دون دخولها العراق، وهي الزاب الصغير في مدينة السليمانية، ونهر الوند، الذي يمر عبر مدينة خانقين، ونهر كارون، الذي ينبع من مرتفعات بختيارى الإيرانية ويصب في شط العرب، وحرف أنهر عن مجاريها بعيداً عن العراق، وهي نهر دويريج الذي ينبع من المرتفعات الإيرانية ويصب في "هور المشرح" ونهر كرخة الذي يصب في "هور الحويزة" ونهر الطيب ونهر كنجان جم، ونهر وادي كنكير ونهر قره تو ونهر هركينه ونهر زرين جوى الكبير، على ما نقل موقع مبتدا.