تعد الوظائف الأممية في اليمن، بخاصة منذ اندلاع الحرب في البلد، صعبة للغاية مع تعقد الأزمات والتحديات وتشابكها، مما يتطلب السير على طريق محفوفة بالمخاطر، وعدم الانزلاق إلى تبني موقف أي من طرفي الصراع للإسهام في نجاح المهمة الأممية من ناحية، واستمرار مهمة الموظفين وعملهم من ناحية أخرى.
وطوال عمل المبعوثين أو كبار الموظفين الأمميين فإن تصريحاتهم ومواقفهم تبدو أنها تميل إلى المواقف الرمادية التي لا تتموضع مع طرف ضد آخر، وعلى الرغم من إظهار حياد الأمم المتحدة، إلا أن ثمة عجزاً أممياً وإسهاماً في إطالة أمد الحرب، حتى وإن لم يكن الهدف كذلك.
واتسمت مواقف الموظفين الأمميين بمحاولة التموضع في منطقة وسطى على مسافة واحدة بين طرفي الحرب، الشرعية والحوثي المدعوم من إيران، وعدم الانحياز لأي منهم على الرغم من الحقائق التي يطلعون عليها لمعرفتهم الوثيقة بمحطات الصراع، إذ إنه من الصعب القيام بالمهمات الأممية مع أي طرف عند استعدائه، مما جعل المسؤولين الأمميين يمسكون العصا من الوسط، وهو ما ظهر جلياً في مواقف وتصريحات المبعوثين الأمميين أو منسقي الشؤون الإنسانية أو مديري برامج الغذاء و"يونيسف"، فسلوك موظفي الأمم المتحدة في اليمن ينفصل تماماً عن قناعاتهم أو مواقفهم الشخصية أو نظرتهم إلى ضفتي طرفي الصراع لاعتبارات عدة، كونهم لا يمثلون ذواتهم بل موقف الأمم المتحدة كهيئة راعية للجميع وتعنى بالوساطة وإحلال السلام والتوفيق بين الأطراف المتصارعة.
المهادنة رغبة في استمرار الوظيفة
وبغض النظر عن الحياد، فإن المبعوثين والموظفين الأمميين يقعون بين رغبتهم في الاستمرار بمناصبهم التي يحكمها مدى امتلاكهم لعلاقة جيدة مع جميع الأطراف، وبين الجهل بالواقع اليمني والخضوع لضغوط الحوثي ، إذ يخشون عدم تعامله معهم في حال تصريحهم بحقيقة ما عرفوه، ولذا يدفع الشعب اليمني ثمن ذلك عندما لا يصرح أمثال هؤلاء بالحقيقة إلا عند مغادرتهم.
ويرى وزير الخارجية اليمني السابق عبدالملك المخلافي أن السياسة التي يتبعها الموظفون الأمميون تضمن لهم رضا الحوثي واستمرارهم في مناصبهم، لكنها لا تضمن لليمن السلام، وإنهاء معاناته ولا تضمن نجاح مهماتهم ولا حتى إرضاء ضمائرهم، إن كانوا يضعون للضمير اعتباراً.
ويقول، "لا أعتقد أن اليمنيين راضون عن أداء المنظمات الدولية ولا المبعوثين، ولا أظنهم سيذكرون بالخير إلا من يأتي من أجلهم ومن أجل السلام لا من أجل المنصب، وحين يوجد من يمثل آمال الناس وتطلعاتهم للسلام لا شك سيعبر سريعاً عن نقده للحوثي، وسيفضح ممارسة هذه الجماعة منذ البداية ولن ينتظر حتى نهاية مهمته".
مرونة سلبية أطالت أمد الحرب
وفيما لم ينل أي من المسؤولين الأمميين في اليمن رضا أطراف الصراع، يعتقد المخلافي أن ادعاء الحياد والمرونة يصل بعض الأوقات إلى المرونة السلبية التي تسهم في إطالة أمد الحرب وتفاقم المشكلات والتحديات بشكل أكثر تعقيداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فلم يصل مثلاً المسؤولون الأمميون إلى تفسير "اتفاق ستوكهولم" وبنوده، وتسليم الموانئ للقوات الأمنية، إذ تم بناء على تفسير خاص بالحوثيين الذين سلموا الموانئ إلى قوات أمنية موالية لهم، وهنا اختلفت مواقف المسؤولين الأمميين، إذ عارضها رئيس فريق المراقبين الأمميين لتنفيذ الاتفاق في الحديدة، فيما رحب المبعوث الأممي مارتن غريفيث بهذه الخطوة، وعلى الرغم من الموقفين المختلفين إلا إن طرفي الصراع استمرا في الهجوم الإعلامي عليهما.
الحقيقة بعد انتهاء الوظيفة
وما إن تنتهي فترة عمل المسؤولين الأمميين في اليمن حتى تظهر مواقفهم الحقيقية إلى العلن على شكل تصريحات أو إفادات خاصة، وعلى رأسهم رئيسة معهد الولايات المتحدة للسلام حالياً ليز غراندي، والتي كانت تشغل سابقاً منسقة الشؤون الإنسانية التابعة للأمم المتحدة في اليمن، ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارك لوكوك، وغيرهم كثير.
فغراندي أكدت أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي أن جماعة الحوثي استولت على مؤسسات الدولة في مناطق سيطرتها بشكل منهجي، وقامت بتشكيل مؤسسات موازية خاصة لا تخضع للمساءلة العامة، وأنها تحول جميع الإيرادات العامة تقريباً بشكل مباشر إلى المؤسسات الخاضعة لسيطرة الحركة، بما في ذلك فرع البنك المركزي بصنعاء .
وأضافت أن الحوثيين يستخدمون هذه الأدوات لتحويل الإيرادات من السلع والخدمات العامة إلى مقاتليهم، وتدمير شركات القطاع الخاص التي لا تتعاون معهم، فضلاً عن التلاعب بالعملة والسيولة من أجل مصالحهم، وليس مصالح عامة الناس.
وفيما لم تشر ليز غراندي طوال عملها في اليمن إلى ما تصفه بـ "سلوكيات الحوثي لعرقلة الجهود الإنسانية"، فإنها أفصحت وبشكل واضح أن الحوثيين فرضوا فعلياً مئات القيود على المساعدات الإنسانية، سعياً إلى التحكم في نوع وتدفق واستهداف جميع أشكال المساعدة، موضحة أن جماعة الحوثي تواصل تهديد العاملين في المجال الإنساني والتنمر عليهم وترهيبهم واحتجازهم.
كما كشف منسق الإغاثة ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارك لوكوك في آخر إحاطة بعد مغادرته منصبه، أن هجمات الحوثيين تشكل تهديداً مباشراً على حياة ملايين الناس، من بينهم أكثر من مليون يمني فروا من ديارهم ولجأوا إلى داخل مدينة مأرب وفي محيطها.
وقال رئيس لجنة تنسيق إعادة الانتشار في الحديدة الجنرال الدنماركي مايكل لوليسغارد في آخر اجتماعاته مع اللجنة، إن جماعة الحوثي تضع عراقيل أمام خطة إعادة الانتشار في الحديدة والموانئ، مؤكداً آنذاك أنه سيبلغ الأمم المتحدة بهذا الخصوص، ومشيراً إلى أنه سيرسل رسالة يوضح فيها النقاط التي تسببها مماطلة الحوثيين في تنفيذ الاتفاق.
وفي موقف مشابه، سبقهم جميعاً ثاني مبعوثي الأمم المتحدة إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ، والذي أكد أن الحوثيين هم من يعرقل الحل السلمي عبر تمسكهم بالسلاح.
والسؤال هنا حول تقويم مواقف كبار موظفي الأمم المتحدة طوال فترة عملهم في اليمن، وحول ما إذا كانت هذه المواقف قد أسهمت في تمادي جماعة الحوثي في منهجيتها لإطالة أمد الحرب وزيادة أعداد الضحايا وارتفاع درجة المخاطر الإنسانية وتعقد ملفات الأزمة اليمنية.
سياسة التحفيز الأممية غير مجدية
منذ تعيينه مبعوثاً أممياً لدى اليمن، بدأ البريطاني مارتن غريفيث بمنهجية مختلفة عمن سبقوه، إذ أظهر مرونة عالية مع جماعة الحوثي، وجعل صنعاء محطته لأكثر من مرة، حيث قابل فيها قيادة الحوثي وعلى رأسهم عبدالملك الحوثي، في مسعى منه إلى تقريب الجماعة إلى السلام وتحقيق اختراق في جدار الأزمة اليمنية المعقدة.
غير أنه وبعد ثلاثة أعوام من اتباع سياسة التحفيز والمرونة العالية للجماعة الحوثية، كانت النتيجة مزيداً من التصعيد في جبهات القتال وبخاصة في مأرب التي تواجه حملة حوثية مكثفة للسيطرة عليها، إضافة إلى استمرار الانتهاكات من طرفي الصراع في الحديدة والتي شهدت ارتفاعاً في عدد الضحايا المدنيين، كما زادت هجمات الحوثي بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة على السعودية وحتى المدن اليمنية السكنية.
في المقابل، يعبر وزير الخارجية اليمني السابق الدكتور عبدالملك المخلافي عن أسفه مما سماه سياسة التستر على الجماعة الحوثية، والتي أسهمت في إطالة أمد الحرب، كون الحوثيين جماعة عقائدية مسكونة بكثير من الأوهام، ولديها تصور أنها ستحقق في النهاية أهدافها وسيستسلم العالم لها، بحسب قوله.
ويضيف، "لهذا كلما كان الخطاب الدولي مهادناً لها كلما ازدادت قناعة الاستمرار في الحرب للوصول إلى غاياتها"، إذ إن "اللغة البراغماتية وسياسة التحفيز لا تتناسب مع مجموعة عقائدية لا تختلف كثيراً عن داعش، وهي بحاجة إلى لغة الضغط والوضوح لإجبارها على التخلي عن السلاح في تحقيق أهدافها".