يدرك الرجل الذي رُزق بأربعة أطفال جيداً احتمال أن تكون العودة الى الوطن أشبه بالانتحار. لكن، على الرغم من أنه فر من الحرب قبل ثلاث سنوات فهو الآن يفضل المجازفة بحياته بالعودة إلى سوريا على البقاء في لبنان والموت جوعاً.
ويصف سلطان، 46 عاماً، الذي تقطّعت به السبل في حي مهدم في وادي البقاع حيث يحاصره الجوع ويشلّه العجز، معاناة عائلات اللاجئين كعائلته تقف في صدارة ضحايا الانهيار الاقتصادي غير المسبوق في لبنان. ويقول إن الوضع صار قاسياً للغاية، ما يجبرهم على اتخاذ قرارات لم يكن من الممكن تصورها ولاسيما أنها ستشتمل على إعادة أطفالهم إلى ميدان الحرب.
وأبلغ مسؤولو الأمم المتحدة "اندبندنت" أن اللاجئين السوريين في لبنان الذين يقدر عددهم بمليون نسمة، "جميعهم تقريباً"، يعيشون حالياً تحت خط الفقر المدقع، ما يعني العيش على الفتات الذي يمكن شراؤه بدولار واحد وبضعة بنسات في اليوم الواحد. ويتضور 99 في المئة من اللاجئين السوريين حالياً جوعاً من دون طعام وبلا نقود يشترون بها ما يسدّ الرمق.
لم يستطع سلطان أن يحصل على أي مساعدات، أو مال، أو مأوى، أو طعام لعائلته المؤلفة من زوجة وأربعة أطفال، ولذا وجد نفسه مضطراً لإرسالهم للمكوث مع والديه في ريف دمشق، وذلك عبر طرق التهريب نفسها التي كانوا قد سلكوها للفرار بعيداً عن سوريا.
عجز سلطان عن العثور على عمل، فلم يكن هناك بد من الاكتفاء يومياً هو وعائلته ببعض حبات البطاطا التي يعطيه إياها أصدقاء يبيعون الخضار بدلاً من رميها بعيداً. ويعتقد أن الحياة في سوريا قد تكون أقل فظاعة بشكل هامشي في الأقل منها في لبنان، بالنسبة له ولعائلته.
هكذا، راح اللاجئ يخطط للعودة مع عائلته إلى بلاده على الرغم من أنها تنطوي على المخاطرة بسوقه إلى الخدمة العسكرية، أو بتطورات أخرى أسوأ في سوريا التي تعصف بها أزمة اقتصادية علاوة على الحرب الدائرة فيها أيضاً.
ويقول لاجئ آخر يعمل نجاراً، 44 عاماً، وهو يصف كيف يعيش في غرفة صغيرة مع ثلاثة سوريين يمرون بظروفه نفسها: "أعرف أن العودة يمكن أن تكون انتحاراً، لكنني لا أعرف ماذا يمكن أن يحصل لي هنا. أقسم أنني لن أستطيع العثور على الطعام نهائياً في غضون أسبوعين آخرين."
هناك عائلات لاجئة عديدة قد خططت للعودة الى سوريا. ويشرح سلطان أنه قد دفع 800 ألف ليرة، أي ما يعادل 385 جنيه استرليني ( 530.72 دولار) بالسعر الرسمي وحوالي 30 جنيه استرليني (41.34 دولار) بسعر السوق السوداء، للمهربين كي يأخذوا زوجته وأولادهما إلى سورية. الجدير بالذكر أن هذا المبلغ أقل بكثير من التكلفة التي يطلبها المهربون لنقل أحد عن طريق البحر الى قبرص وتبلغ 1000 دولار (725 جنيه استرليني)، علماً أن الخروج عن طريق قبرص هو الاخر آخذ بالرواج.
ويتابع بابتسامة باهتة: "أنا اختار الموت المحتمل في سوريا على الجوع هنا، لأن الموت أرحم من الجوع."
ويردف سلطان: "إن الوضع ليس آمناً، بيد أننا نعيش هنا في جحيم والحياة في هناك جحيم ايضاً. قد يكون من الأفضل لي أن أموت في جحيمي السوري."
يصعب حالياً معرفة عدد اللاجئين السوريين العائدين. وقالت "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين" (يو إن إتش سي أر) في لبنان لـ"اندبندنت" إنه وثقت منذ 2016 عودة ما يزيد على 68 ألف لاجئ إلى سوريا، مع أن من المتوقع أن يكون العدد الحقيقي أعلى من ذلك بكثير، ولاسيما أن الكثيرين يعودون بطرق غير قانونية وبالتالي يصعب إحصاء عدد العائدين جميعا بشكل دقيق.
كان لبنان ذات يوم ملاذا آمناً ومزدهراً نسبياً بالنسبة لمئات الآلاف من اللاجئين الذي قصدوه، ولايزال العديد منهم يعيشون في مخيمات أقيمت بشكل عشوائي وفي بيوت مؤجرة في مناطق مثل وادي البقاع وعرسال الواقعة بعيداً في الشمال.
إلا أن الحياة أصبحت جحيماً منذ باتت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي تجد جذورها في عقود عديدة من سوء الإدارة والفساد، راسخة في لبنان. فقدت العملة اللبنانية ما يزيد على 95 في المئة من قيمتها ، وتضاعفت أسعار بعض المواد الغذائية خمس مرات في الأشهر القليلة الماضية، كما أن البلاد مفلسة وتعاني من نقص حاد في الوقود وشح في الكهرباء.
وساهم تفشي جائحة فيروس كورونا العام الماضي في تسريع التدهور، الذي زادت وتيرته بفعل تفجير هائل في مرفأ بيروت في أغسطس (آب ) الماضي أسفر عن مقتل 200 شخصاً وتدمير مساحات شاسعة من العاصمة بيروت.
ومنذئذ تلقى لبنان وعوداً بمساعدات خارجية تبلغ قيمتها ملايين الدولارات وقرض من صندوق النقد الدولي، بيد أن تنفيذ تلك التعهدات مشروط (باتخاذ البلاد خطوات معينة).
في هذا السياق يرى البنك الدولي أن لبنان يشهد حالياً واحداً من أسوأ ثلاثة انهيارات اقتصادية في العالم منذ 150 عام. ويجد الناس أنفسهم مباشرة تحت وطأة أزمة حادة من هذا النوع.
وتفيد مصادر الأمم المتحدة بأن ما يزيد على ثلاثة أرباع سكان لبنان الذين يقدر عددهم بـ6 ملايين نسمة، هم حالياً بلا طعام أو نقود ليشتروا بها طعاماً.
وارتفع سعر ربطة الخبز خمس مرات في الأشهر القليلة الماضية حتى وصل إلى 4000 ليرة لبنانية أو 2 جنيه استرليني ( 2.75 دولار) حسب السعر الرسمي، وهو مبلغ يعجز كثيرون عن دفعه. أما ثمن السكر، فقد ارتفع 8 أضعاف في سنة واحدة، كما يقول اللاجئون.
ولهذا ليس من الخارق للعادة أن ترى لاجئين يبحثون في سلال القمامة عن بقايا طعام.
تحدثت "اندبندنت" لعائلات سورية لاجئة أوضحت أنها قد باعت كل ما لديها من البطانيات لشراء طعام باعتبار أن الجو حار في فصل الصيف، وهي تخشى البرد القارس في الشتاء المقبل.
وأشار آخرون إلى أنهم قايضوا الملابس والأثاث بحليب الأطفال وحفاظاتهم والدواء.
يُذكر أن تزويج الأطفال وتشغيلهم عمالاً بات أشبه بالعادة التي تنتشر على نطاق واسع. مثلاً، اعترفت إحدى ساكنات مخيم اللاجئين السوريين في عرسال الواقعة على بعد 120 كيلومتراً (74.5 ميلاً) إلى الشمال من بيروت، أنها اضطرت إلى تزويج اثنتين من بناتها في سن الـ 15 و الـ 16 عاماً، لأنها لم تعد تستطيع توفير الطعام لهما.
و قال أياكي إيتو، وهو ممثل الـ"يو إن إتش سي أر " لـ"اندبندنت" إن "حوالي نصف اللاجئين السوريين في لبنان كانوا يعيشون في العام 2019 تحت خط الفقر المدقع. وارتفعت تلك النسبة في نهاية العام 2020 إلى 90 في المئة، لكن يعيش اللاجئون السوريون جميعاً تقريباً في الوقت الحالي في فقر مدقع".
وأضاف إيتو " بالطبع يواجه سكان لبنان أنفسهم الآن هذا الانهيار الاقتصادي، بيد أن اللاجئين هم الأكثر تضرراً".
بطبيعة الحال، يصبح توفير المساعدات للاجئين حين يعانون هم وشعب البلاد المضيفة من العوز والفاقة، أكثر صعوبة. وتدفع حالياً المفوضية للعائلة اللاجئة راتبا 400 الف ليرة لبنانية شهرياً كمساعدة نقدية لإعانتها على البقاء على قيد الحياة.
ويعادل هذا المبلغ حسب سعر السوق السوداء 12 جنيه استرليني (16.53دولار) في الشهر، ويساوي ثلث تكلفة "سلال الإنفاق الدنيا للبقاء على قيد الحياة" التي تغطي الحاجات الأساسية للعائلة، فقد حسبت الـ"يو إن إتش سي أر" في شهر يونيو (حزيران) الماضي أن هذه التكلفة تزيد على مليون ليرة لبنانية.
بيد أن إعطاء اللاجئين المزيد من المال أو صرف المساعدات لهم بالدولار مباشرة، من شأنه أن يهدد بإشعال فتيل العنف الاجتماعي الخطير، لأنه سيجعل اللاجئين أفضل حالا بكثير من اللبنانيين أنفسهم.
تجدر الإشارة هنا إلى الحد الأدنى للأجور في لبنان لايزال 675 الف ليرة لبنانية شهرياً، ما يعادل حوالي 20 جنيه استرليني (27.49 دولار) بسعر السوق السوداء الحالي.
وأشار السيد ايتو إلى أنه "فيما ترتفع مستويات الفقر بين اللبنانيين، تتفاقم التوترات أيضاً بسبب التنافس على الموارد الشحيحة. وهذا يشكل مصدر قلق للجميع."
والتقت "اندبندنت" حوالي عشرين لاجئاً أفادوا جميعاً بأنهم واجهوا عداءً متزايداً من أبناء البلد المضيف، وهو يتحول بسرعة إلى عامل إضافي يدفعهم إلى التفكير بالعودة إلى الوطن.
وقال إمام جامع سوري لاجئ لـ"اندبندنت" إن ابنته وزوجها قد تعرضا لهجوم شرس في ديسمبر (كانون الأول) الماضي فقط لأنهما سوريان، وكان ذلك بالنسبة له بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فراح يبحث الآن عن طريقة للعودة إلى سوريا على الرغم من المخاطر التي تنطوي عليها هذه العودة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف عالم الدين هذا الذي طلب عدم ذكر اسمه أن "الشعور السائد بين الناس هو الرغبة بالعودة، والشي الوحيد الذي يمنعهم من ذلك هو الخوف مما يمكن أن يحصل لهم على الجانب الآخر."
وقال أبو عبدو، 65 عاماً، وهو أحد اللاجئين السوريين في عرسال التي تقع إلى الشمال من وادي البقاع إنه مصمم على العودة الى سوريا، وقد حزم سلفاً خيمته بحيث صار بوسعه أن يأخذها معه لإعادة نصبها في قريته لأن بيته هناك قد تهدم جرّاء القتال.
وكانت هناك عائلتان أخريان في الأقل بين من قابلتهم "اندبندنت"، تقومان بالشيء نفسه.
وأوضح أبو عبدو أن شح المال والغذاء والوقود والعداء المتنامي الذي يواجهه اللاجئون، ليست الأسباب الوحيدة التي تحمل السوريون على محاولة العودة الى بلادهم، بل إن هناك حالياً مخاوف من أن يتفكك لبنان نفسه.
وحذّر الرجل، وهو والد عشرة أولاد، فيما كان يقف على قاعدة من الخرسانة كانت تقوم عليها خيمته بجانب كومة من العوارض الخشبية والقماش المشمع التي بنى بها معاً المسكن الذي كان يؤويه، من أن "الوضع سينفجر في لبنان".
وأضاف: "عندما تشحن أي شعب عن طريق مشاكل وضغوط من هذه النوع، فإنه سينفجر حتماً. كانت بلادي يوماً مثل لبنان الحالي."
وتعتبر الأزمة الإنسانية التي تعيشها سوريا أسوأ من نواح عدة من تلك التي يمر بها لبنان. ويحذر الخبراء ومسؤولو الأمم المتحدة من أن التضخم في سورية وصل إلى 150 في المئة فيما فقدت عملتها 99 في المئة من قيمتها منذ بداية الحرب.
على هذا الصعيد، أوضحت إليزابيث تسوركوف أن أبناء البلاد لا يمكنهم تكلفة منتجات الألبان واللحوم وزيت الزيتون في سوريا، وأنهم يعتمدون بشكل شبه كامل على الخبز المدعوم الذي يكاد لا يصلح للأكل.
في غضون ذلك، لاتزال أجزاء كاملة من سوريا عبارة عن أنقاض وخرائب بسبب القتال، فيما لاتصل الكهرباء بتاتاً إلى بعض المناطق وثمة شح حاد في الوقود. وتضيف تسوركوف أن الكثير من السوريين يتقاضون رواتب لاتزيد على 15 دولاراً (11 جنيه استرليني) في الشهر.
وتقول تسوركوف لـ"اندبندنت" محذرة: "أعتقد أننا سنواجه مجاعة في البلدين."
يضاف إلى كل الصعوبات المعيشية الآنفة الذكر الخطر المحدق بالعائدين من قمع النظام التعسفي، إذ غالباً ما يشتبه رجال الأسد بالمواطنين الذين التجأوا الى مناطق تسيطر عليها المعارضة.
وتنبّه ناديا هاردمان، وهي باحثة متخصصة بقضايا اللاجئين لدى منظمة "هيومان رايتس ووتش" إلى أن "الأسباب التي دفعت اللاجئين للفرار من سوريا لاتزال قائمة.. لايزال النظام متحصناً بشدة، ولاتزال تكتيكاته تقوم على الاعتقال التعسفي واستهداف الأشخاص وإخفاء المعارضين، أو من يُنظر إليهم على أنهم معارضين."
واعتبرت هاردمان أن الفقر والجوع باتا يتربصان بالسوريين على جانبي الحدود. وذكرت أن "هناك لاجئين عادوا إلى بلادهم واستطاعوا النجاة هناك ومن ثم عادوا أدراجهم إلى لبنان من جديد، كما سمعنا."
ولا يردع ذلك سلطان الذي يعرف حق المعرفة أنه إذا عاد فسيكون في خطر حقيقي من الاعتقال على يد النظام، وذلك لأنه اشتغل قبل فراره من سوريا بواباً لمستشفى في منطقة كانت تحت سيطرة المتمردين، وتعرض بعض زملائه في ذلك المستشفى للتعذيب والاحتجاز.
وهو يسأل بيأس: "ماذا يمكنني أن أفعل؟ لم أعد أستطيع الحصول هنا على اللقمة أو على المأوى؟"
يتفق أبو عبدو، في عرسال، مع سلطان، ويصل إلى النتيجة الكئيبة ذاتها هو الآخر، لكنه يقول إنه لا يملك في لبنان حتى "أبسط سبل البقاء على قيد الحياة".
ويضيف، وهو يداعب حبات مسبحته وكأنه يتلو صلاته وينظر صوب بلاده التي تحجبها الجبال، "إذا جعت فسأكون جائعاً في بلادي، سأعمل في أرضي، وسأعمل في بيتي".
© The Independent