بعد فترة من الصمت الاضطراري والاحتجاب عن صدارة نشرات الأخبار والصحف المحلية والعالمية، عادت سفيتلانا تيخانوفسكايا لتعلن من واشنطن عن زيارتها التي قالت إنها تستهدف إجراء عدد من اللقاءات في البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية بحثاً عن "وساطة" مع النظام الحاكم في بيلاروس. وعلى الرغم من إعلانها السابق عن لقائها المرتقب مع الرئيس الأميركي جو بايدن منذ توليه السلطة مع بداية العام الجاري، فلم يصدر عن البيت الأبيض ما يؤكد ذلك بعد. وقد عادت تيخانوفسكايا واعترفت بأن مثل هذا اللقاء يظل في إطار "المأمول"، وإن كانت لا تستطيع أن تؤكد ذلك على وجه اليقين. ومن هذا المنظار ثمة ما يشير إلى أن ما وضعته زعيمة المعارضة في بيلاروس من أهداف، وبعد انقضاء قرابة العام على بدء "انتفاضتها" وزملائها من ممثلي المعارضة البيلاروسية ضد الرئيس ألكسندر لوكاشينكو في أغسطس (آب) من العام الماضي يظل في إطار "الأحلام" التي لا أحد يقول إنها كلها قابلة للتطبيق.
ففي الوقت الذي تتناقل فيه المصادر داخل بيلاروس وخارجها الأخبار حول "تشرذم" فصائل المعارضة، وتبدد كثيراً مما كانت أعلنته من أهداف، تتصدرها إطاحة الرئيس لوكاشينكو من منصبه وإجراء انتخابات جديدة، يواصل رئيس بيلاروس دعم مواقعه، إلى جانب ما يبذله من جهود وخطوات للتقارب مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين الذي التقاه خلال الشهرين الماضيين مرتين، الأولى في سوتشي والثانية في سان بطرسبورغ، ليبلغ مجمل عدد لقاءاتهما منذ بداية العام أربعة.
البحث عن وسيط
وكانت تيخانوفسكايا وصلت إلى الولايات المتحدة يوم الأحد الماضي، من دون برنامج واضح المعالم. وهو ما اعترفت به في معرض ردها على مراسل وكالة أنباء "تاس" الروسية في العاصمة الأميركية واشنطن، بقولها إن "ما تتحدث عنه من لقاءات مع الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، يظل في إطار التخطيط"، لكنها لا تستطيع تأكيد ذلك بعد. حتى ما قالته عن أنها "تستهدف إقناع الجانب الأميركي بالقيام بدور الوساطة في المباحثات بين المعارضة والسلطات في بيلاروس"، يعني في طياته محاولة ما هو أقرب إلى "تسول" المساعدة من جانب البيت الأبيض بعد قرابة العام من "الثورة الملونة" في بيلاروس، التي لم تحقق أي إنجازات يمكن اعتبارها محورية على طريق بلوغ النجاح المأمول "للثورة"، على الرغم من كل ما حظيت وتحظى به من دعم إقليمي وعالمي. ولعل ما تستخدمه تيخانوفسكايا من مفردات ومصطلحات يكشف هشاشة تدريبها وخبراتها، وضآلة إمكاناتها وقدراتها كزعيم سياسي، في مواجهة لوكاشينكو السياسي المتمرس في إدارة الدولة والحكم عبر تاريخ يمتد إلى نحو ثلاثين عاماً، متكئاً على دعم ومساندة رفيقه وحليفه الرئيس بوتين.
من هنا، يمكن استبيان برنامج الحد الأقصى للمعارضة البيلاروسية الذي يظل متمثلاً في البحث عن آليات غربية للوساطة مع النظام الحاكم في بيلاروس، من دون الكشف عن أبعاد القدرات الذاتية للمعارضة التي تظل هلامية الشكل والمضمون.
ومن هذا المنظار، يمكن القول إن كل ما تريده تيخانوفسكايا من الدوائر الغربية يظل في إطار البحث عن وسيط، أي وسيط يمكن يضطلع بمسؤولية الإشراف على مباحثات المعارضة مع السلطات الحاكمة في بيلاروس، وإن قالت إنها تريد من الولايات المتحدة التي ينظر إليها العالم كله بوصفها "البطل" على حد تعبيرها، أن تقوم بهذا الدور إلى جانب ما يمكن أن تقدمه من دعم لمنظمات المجتمع المدني. ولم تغفل تيخانوفسكايا الكشف عما تريده وترجوه المعارضة من شركاء الخارج، وفي مقدمته فرض أكبر قدر ممكن من العقوبات ضد النظام الحاكم في بيلاروس، ومنها العقوبات الاقتصادية التي تشمل مختلف قطاعات الإنتاج هناك. وأضافت أنها تأمل من الولايات المتحدة الانضمام إلى ما أعلنه الاتحاد الأوروبي من عقوبات، إضافة إلى ما يقرره ويراه من عقوبات خاصة.
التكامل الروسي البيلاروسي
ومن اللافت أن ذلك يجري في وقت استبق فيه الرئيس لوكاشينكو زيارة تيخانوفسكايا إلى الولايات المتحدة، وما أعلنته هناك من "خطط" و"برنامج مباحثات"، بالكشف عن هذه المخططات في لقائه المفاجئ الذي باغت به الأوساط المحلية والعالمية في نهاية الأسبوع الماضي، مع بوتين في سان بطرسبورغ. وبينما استهل بوتين ذلك اللقاء باستعراض العلاقات الاقتصادية بين بلاده وبيلاروس، فضل لوكاشينكو التركيز على القضايا السياسية وما تبذله مؤسسات الدولة من جهد في مواجهة تحركات المعارضة في الداخل. وقال إنه على علم بكل ما يدور في بلاده من نشاط تقوم به منظمات المجتمع المدني، التي أشار إلى أن عددها يتجاوز الألف ونصف الألف منظمة، كان سمح بتسجيلها كنوع من أنواع الدعم للحركات الديمقراطية. واعترف رئيس بيلاروس بأنه على علم كافٍ بكل ما تقوم به هذه المنظمات من نشاط وفعاليات، لا تغيب تفاصيلها عن أعين ومتابعة أجهزة الدولة المعنية في بيلاروس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل ما قاله لوكاشينكو في معرض مباحثاته مع بوتين، يكشف بعضاً من سيناريوهات خصومه الغربيين، ولا سيما ما يتعلق منها باستخدام فصائل المعارضة في بلدان الفضاء السوفياتي السابق، سلاحاً لتصفية حساباتهم ليس مع بيلاروس فحسب، بل مع روسيا أيضاً، لإحكام الحصار على ما تبقى من "أركان" الاتحاد السوفياتي الذي يحتفل في نهاية العام الحالي بالذكرى الثلاثين لانهياره. ومن المضحك المبكي أن يتذكر الملايين من أبناء ذلك الاتحاد السوفياتي أن روسيا وبيلاروس كانتا مع أوكرانيا في صدارة الفريق الضارب الذي أخذ على عاتقه مهمة تنفيذ مخطط إنهاء وجود الاتحاد السوفياتي السابق. وذلك ما تطرق إليه الزعيمان بوتين ولوكاشينكو في لقائهما الأخير في سان بطرسبورغ، من منظور ضرورة تعويض ما لحق ببلديهما من خسائر، وما تكبداه من هوان وآلام بسبب انفراط عقد الاتحاد السوفياتي السابق. وكشف الزعيمان عن "جدية نياتهما" إزاء دعم إجراءات التكامل بين البلدين، على طريق تنفيذ ما وقعاه من اتفاقات تقضي بالانتهاء من بناء الدولة الاتحادية الجديدة، وإن لم يعلنا ذلك صراحة. وكنا أشرنا في أكثر من تقرير سابق من موسكو إلى أن قيام "هذه الدولة الاتحادية" سيكون طوق النجاة للزعيمين اللذين كان ولا يزال ينتظرهما الحكم بالرحيل بعد انقضاء فترات حكمهما التي تمتد بالنسبة إلى الرئيس الروسي قرابة ربع القرن، تزيد قليلاً بالنسبة إلى رئيس بيلاروس لتبلغ زهاء الثلاثين عاماً، وإن يظل الحكم مع وقف التنفيذ.
وبينما تطرّقت مباحثات الزعيمين في سان بطرسبورغ إلى مختلف أنواع التعاون بين البلدين وما يمكن أن تقدمه روسيا إلى بيلاروس من دعم اقتصادي، يعينها في مواجهة العقوبات الحالية والمستقبلية، تعمل المعارضة لحشد الجهود اللازمة مضاعفتها وتنويعها لتشمل شتى مناحي الحياة ومختلف الشخصيات الفاعلة في منظومة الإدارة والحكم في بيلاروس.
جلسة استماع
وفي الوقت الذي كان رئيس بيلاروس يطلع شريكه الروسي على ما تقوم به أجهزة الأمن والاستخبارات في بلاده لمواجهة ما وصفه بـ"الإرهاب" الفردي الذي تقوم به فصائل المعارضة ضد رموز السلطة، بدعم من منظمات المجتمع المدني التي يرصد تمويلها من جانب الدوائر الغربية في الخارج، كانت تيخانوفسكايا زعيمة المعارضة في سبيلها إلى بدء جولتها في الولايات المتحدة.
وقالت مصادر المعارضة إن تيخانوفسكايا استهلت جولتها في العاصمة واشنطن بلقاء عدد من رموز الجالية البيلاروسية هناك، ممن طالبوها بضرورة بحث المسائل المتعلقة بتسهيل نظام منحهم التأشيرات الأميركية وإقامتهم في الولايات المتحدة. وأجرت تيخانوفسكايا عدداً من اللقاءات مع ممثلي لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي، ومنها "جلسة استماع" تناولت قضية "الحركة الديمقراطية في بيلاروس والقيادة النسائية". وفي تلك الجلسة التي أدارها بيل كيتنغ رئيس اللجنة الفرعية لأوروبا والطاقة والبيئة والأمن السيبراني، وتحدث فيها كريس سميث عضو اللجنة الذي وضع قانون الديمقراطية وحقوق الإنسان والسيادة في بيلاروس، استعرضت تيخانوفسكايا الأوضاع في بلادها، ولا سيما ما يتعلق بما وصفته بحملات القمع والاضطهاد التي يتعرض لها شعب بيلاروس، ومنظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام المستقلة. وتوقفت زعيمة المعارضة عند أسماء عدد من ضحايا التظاهر "السلمي"، ومنهم ألكسندر تارايكوفسكي ورومان بوندارينكو وآخرون. وناشدت الحاضرين تقديم مزيد من المساعدة للمجتمع المدني البيلاروسي، والمدافعين عن حقوق الإنسان، ووسائل الإعلام المستقلة، والأعمال التجارية، وكذلك تعزيز الوساطة الدولية للتغلب على الأزمة في بيلاروس من خلال وساطة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وزيادة الضغوط والعقوبات ضد النظام الحاكم ورموزه في بيلاروس. وذلك ما حاول أعضاء الكونغرس استبيان كثير من تفاصيله خلال لقائهم مع تيخانوفسكايا بما في ذلك تفاصيل ما تريده بشأن أوجه الدعم المطلوب لمساعدة "وسائل الإعلام المستقلة" في بيلاروس، والموقف من تعامل أبناء بيلاروس مع كورونا في ظل ما وصفوه بـ"ديكتاتورية نظام لوكاشينكو".
وكانت تيخانوفسكايا عادت لتخاطب مضيفيها من خلال "الفيديو كونفرانس" لتحثهم على فرض العقوبات ضد مؤسسات صناعية بعينها وهي "بيلاروس كالي" للأسمدة، ومصفاة موزير للنفط، فضلاً عن تحديد مصادر التمويل الأجنبي للنظام وشركائه في الداخل والخارج ممن تطالب زعيمة المعارضة البيلاروسية بإدراجهم ضمن قائمة من يمكن أن تشملهم العقوبات، وبما يمكن أن يكون خطوة على طريق تيسير الوصول إلى المرحلة الانتقالية للسلطة في بيلاروس.