إذا استثنيا لوحات الفرنسي إنغر "التركية" الاستشراقية ومن بينها بشكل خاص لوحته الأشهر حول "الحمام التركي"، يمكننا أن نعتبر لوحته "موت ليوناردو"، التي رسمها عام 1818، على الرغم من حجمها الصغير المتنافي مع "موضوعها" التاريخي الكبير، واحدة من لوحاته الأكثر شهرة، بل اللوحة الوحيدة التي رسمها لتضاهي لوحة زميله ومواطنه دافيد "موت سقراط". وللمضاهاة هنا عدة وجوه بالنظر إلى أن لوحة إنغر تتحدث بدورها عن موت قد لا يقل أهمية عن موت فيلسوف الإغريق الأول. ومع ذلك لا شك أن موت سقراط سيبدو أكثر أهمية وواقعية ولكن أقل احتفالية من موت ليوناردو. ثم، الأهم من ذلك، أننا فيما يمكننا الافتراض بأن المشهد الذي رسمه دافيد في لوحته الشهيرة كان أقرب إلى نسخ لمشهد واقعي صوّره أفلاطون في واحدة من أشهر محاوراته السقراطية، حتى وإن أقر دائماً بأنه لم يكن بين حضور لحظة وداع أستاذه الكبير وهو يجرع السمّ في زنزانته، ما يعني إمكان أن يكون المشهد المصوّر أقرب إلى ما حدث فعلاً في الواقع، وينم عن فضائل سقراط وشجاعته في لحظاته الأخيرة، فإن مشهد موت ليوناردو كما رسمه إنغر أتى كله من وحي الخيال، بل تحديداً من وحي مخيلتين هما بالطبع مخيلة الرسام نفسه ومخيلة مؤرخ الفن الإيطالي الشهير جورجيو فازاري، الذي من المؤكد أنه وصف في كتابه العمدة عن "حياة أشهر الفنانين" مشهداً لا وجود له.
في رعاية الملك
وطبعاً لا نعني بهذا أن ليوناردو لم يمت وربما ضمن بيئة يمكن تصورها على النحو الذي تصوّره الفنان الفرنسي، ولكن نعني أن الشخصية الرئيسة في المشهد وهي شخصية الملك الفرنسي فرانسوا الأول أُقحمت على اللوحة إقحاماً، لأنه لم يكن في حقيقة الأمر موجوداً إلى جانب ليوناردو حين لفظ هذا الأخير أنفاسه كما تقول اللوحة. صحيح أن ليوناردو مات في فرنسا، حيث كان من المفترض أن ينضم إلى قصر الملك ويضع ريشه وألوانه في خدمته، لكنه مات بعيداً من القصر الملكي، وبالتالي كان من المستحيل على الملك أن يزوره وهو يحتضر ويعانقه ويواسيه في لحظاته الأخيرة. فكان المشهد "التاريخي" متخيَّلاً من نوع "الديستوبيا" ركّبه إنغر تركيباً، وبالتحديد بناء على طلب السفير العامل في خدمة الملك الفرنسي المعاصر لإنغر، لويس الثامن عشر، الكونت دي بلاكاس، الذي كان من مهماته أن يعطي شرعية متجددة للنظام الملكي الفرنسي، وقد استعيد بعد هزيمة نابليون بونابرت ورحيله والعودة الفرنسية إلى النظام الملكي.
مقاييس هزيلة لحدث ضخم
تلكم كانت الأجواء التاريخية التي أحاطت بتنفيذ إنغر هذه اللوحة، التي يلفت فيها حقاً كون عرضها لا يزيد على 50 سم إلا قليلاً، فيما يصل ارتفاعها إلى 40 سم، مع أن "ضخامة المشهد التاريخي" المرسوم نفسه كانت تستدعي حجماً يزيد على ذلك كثيراً. ومن هنا يبقى ثمة لغز يحيط بهذا الجانب من المشروع. لغز لا يمكن أن يفسره ما يُروى من أن الرسام إنغر كان في المرحلة التي رسم فيها اللوحة محبطاً من جراء هزيمة نابليون ورحيله، وهو الذي كان من المؤيدين له والخائفين من عودة الثورة وإرهابها. ومن هنا ما يروى من أن إنغر بقي لسنوات من دون عمل، إذ كان قد قرر ألا يعود إلى رسم البورتريهات بتوصية من رجال السلطة أو كبار القوم. وهكذا حين وجد الكونت السفير يوصيه برسم تلك اللوحة آثر أن تكون صغيرة الحجم وعاجزة عن لفت الأنظار فيمررها بتكتم، وكأنه لا يبتغي من رسمها سوى الحصول على مكافأته. صحيح أن هذا التفسير يبدو غير منطقي، لكن المشكلة أن أحداً لم يأت حتى الآن بما هو أفضل منه وأكثر منطقية. وبالتالي فإن اهتمام الباحثين تركز على اللوحة نفسها، شكلاً وموضوعاً.
اختراع بصري
وكان من أهم ما تركز عليه البحث التساؤل حول منبع الفكرة التي جعلت إنغر "يخترع" بصرياً معادلاً للاختراع التاريخي الذي كان فازاري قد صوره كتابة والمتعلق بوجود فرانسوا الأول في غرفة موت ليوناردو: هل كانت فكرة الكونت أم فكرة الرسام نفسه؟ وما الذي كانت الغاية منها: ترسيخ شرعية تاريخية ما للملك الراهن أم مجرد تذكير بالدور الحنون الذي كان الملوك يلعبونه في رعاية الفنون والحنو على الفنانين؟ أو استعادة أجواء التقارب بين الإيطاليين والفرنسيين بشكل أو بآخر؟ مهما كان الجواب من المؤكد أنه كان ثمة غاية سياسية معينة تقف خلف ذلك الاختيار، بالنسبة إلى الموضوع. أما بالنسبة إلى الشكل فإن اللافت هنا هو أن الملك بقامته المهيبة وجلسته "المتواضعة" في حضرة الفنان وبروز ألوان ثيابه وتصدّره وسط اللوحة، هو الذي يتصدر مركز اللوحة لا المحتضر الكبير الذي لا يظهر إلا من خلال معانقة الملك له وإحاطته به، وبالتالي لا وجود له إلا من خلال لونه الشاحب ولحيته الكثة واسترخاء يده في حضن الملك. ولعل ما يجدر ذكره هنا هو أن بقية الشخصيات المصورة في اللوحة تبدو جميعاً وكأنها تتجه بأنظارها، تقديراً وتفسيراً وإشارة، إلى ما يقوم به الملك لا إلى ما يعانيه المحتضر. وكأننا هنا أمام ما سوف يسمى في عالم السينما لاحقاً "سرقة الكاميرا"، حين يحدث في مشهد جماعي أن يتمكن واحد من الحضور من لفت النظر إليه أكثر من الباقين. ولئن كان من الطبيعي في مثل هذه اللوحة أن يكون الملك هو من "يسرق الكاميرا" من اللافت حقاً أن يختفي واحد من أعظم فناني الأزمنة جميعاً في ثنايا حضور الملك في مشهد نهايته. وحسبنا لإدراك هذا أن نقارن مرة أخرى هنا بين سقراط "يجرع السم" ليموت في لوحة دافيد وليوناردو يحتضر في لوحة إنغر!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"استعارة" من تيسيانو
ولعل علينا أن نضيف هنا أمراً كثيراً ما حيّر الدارسين، وهو أن إنغر إنما نسخ رسمه للملك فرانسوا الأول، "نقطة نقطة" من لوحة للرسام البندقي الكبير تيسيانو كان هذا قد صوّر فيها قبل مئات السنين ملامح وأناقة الملك فرانسوا الأول نفسه. فالتطابق بين ما صوّره تيسيانو وما رسمه إنغر من بعده يلفت النظر حقاً ويثير المزيد من أسئلة حائرة حول لوحة أرادت أصلاً أن تخلد لحظة رحيل فنان كبير. ومها يكن من أمر هنا، تبقى لهذه اللوحة قيمتها الكبرى ليس من الناحية التاريخية بل من الناحية الفنية والمتعلقة بالمسار المهني للرسام جان - أوغست - دومنيك إنغر (1780 - 1867) الذي كان من الكلاسيكيين الفرنسيين الجدد الكبار، والذي بعد حماس أولي للثورة الفرنسية في شبابه المبكر هاله الإرهاب الذي تحولت إليه الثورة وانتظر وصول بونابرت إلى السلطة ليناصره، ويحقق لوحات تتراوح بين الفن الاستشراقي المتبع خطى بونابرت في غزواته الشرقية واهتمامه بفنون تلك المناطق من العالم، واللوحات التاريخية. ولقد ازدهر فن إنغر في تلك الحقبة وذلك قبل أن تصدمه هزائم نابليون المتتالية ونهايته المأساوية، ليفيق بعد حين مع عودة الملكية، وهي عودة أنقذته من توجس انتهائها تلك الطلبيات التي راحت تنهال عليه لتحقيق لوحات تمجد زمن عودة الملكية، وهو ما اندفع فيه بحماس بعد تردد أول، وكانت لوحة "موت ليوناردو" هذه خطوة أولى على ذلك الدرب، خطوة أعادت إليه إيمانه بفنه وقدرته على التأقلم مع العصر الجديد. ولقد بات إنغر في المرحلة التالية واحداً من أكبر رسامي تلك المرحلة، بخاصة أنه في تلك اللوحة كما في عدة لوحات أخرى صور فيها مشاهد نهضوية، مثل لوحة "رافائيل وحبيبته" ولوحة "تطويب هوميروس" أعلن انتماءه الفني المزدوج من ناحية إلى عصر النهضة ومن ناحية أخرى إلى المرحلة الإغريقية العقلانية.