أخيراً، يتضح أن بوريس جونسون كان قد رغب سراً بتبني نهج خايير بولسونارو، الرئيس البرازيلي الذي أعرب علناً أنه يفضل ترك الفيروس ينتشر كما يشاء في أوساط البرازيليين، حيث قال مخاطباً البرازيليين الذين فتك الفيروس بنحو 543 ألف واحد منهم: "كفوا عن هذه الشكوى والأنين... كم ستطول مدة بكائكم؟".
من جانبه، علق جونسون على الإصابة بالفيروس بشكل لا يقل قسوة عن بولسونارو. فقد نقل عنه كبير مستشاريه السابق دومينيك كامينغز قوله على سبيل المزاح، "إذاً، تعرضوا للإصابة بـ(كوفيد) كي تعيشوا مدة أطول". وجاءت هذه الكلمات حين رفض تطبيق إغلاق ثانٍ في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بعد أن عرف أن متوسط عمر ضحايا "كوفيد" يزيد على متوسط العمر المتوقع.
وكان جونسون قد انتخب في 23 يوليو (تموز) 2019، زعيماً لحزب المحافظين في انتخابات نافسه فيها جيرمي هانت، وزير الصحة الأسبق. ولو فاز هانت، أو ربما أي شخص آخر تقريباً، بدلاً منه، لكان عشرات الآلاف من الناس في بريطانيا اليوم يعيشون بيننا ولم يموتوا، ولكان مئات الآلاف قد استطاعوا أن يتجنبوا آلاماً لا تطاق بسبب "كوفيد"، ويتفادوا تداعيات الإصابة الطويلة بالفيروس التي ستنكد حياتهم لسنوات عديدة.
كانت بريطانيا محظوظة بوجه العموم على مر القرون بالقادة الأكفاء الذين تحملوا مسؤولياتهم في أيام الأزمات. قد لا يكون من المهم كثيراً تسليط الضوء على قائد البلاد في أوقات الهدوء، ولكن تسلم مقاليد الحكم في بريطانيا، خلال السنتين الأخيرتين اللتين شهدتا اندلاع أزمتي "بريكست" الدائمة، إضافة إلى "كوفيد-19"، جونسون الذي يتسم بقدرته الضعيفة والمترددة في اتخاذ القرارات، الأمر الذي يجعله الزعيم الأقل كفاءة في التاريخ البريطاني كله.
وتجد القادة الأكثر شبهاً بجونسون في عالم الأوبرا الهزلية، وليس في ماضي البلاد. وأنا أرى أن أقرب الشخصيات إلى رئيس وزرائنا الحالي هو الدوق بلازا - تورو، الصاخب والمدعي، ابن الطبقة العليا الذي نلتقيه في أوبرا "ذي غوندوليرز" لغيلبرت وسوليفان. وتصفه أغاني الأوبرا بأنه "قاد كتيبته من الخلف، ووجدها أقل إثارة". ومع هذا كان الدوق المريب يسارع كلما حققت الكتيبة انتصاراً، إلى الادعاء أن ذلك كان بفضله، الأمر الذي يذكر المرء مثلاً بنجاح برنامج التلقيح ضد "كوفيد-19" الذي تباهى جونسون بأنه هو الذي حققه.
وإذا عدنا بالذاكرة إلى الأشهر الـ18 الأخيرة، سيبدو واضحاً أن جونسون كان سيحرز نتائج أفضل لجهة اتخاذ قرارات تعني الموت والحياة للكثيرين في أنحاء البلاد، لو أنه لجأ إلى لعب "الطرة والنقش" كي يقرر ماذا يفعل بدلاً من اللجوء إلى قدرته في اتخاذ القرارات التي تعاني الضعف والفوضوية. فقد ارتكب أخطاءً لا حصر لها، اشتملت على التأخير في عمليات الإغلاق في العام الماضي، الأمر الذي تسبب بشكل مباشر في موت كثيرين، وتطبيق "خدمة الصحة الوطنية" المعروف باسم "الاختبار والتتبع" الفاشل ذي التكلفة الباهظة جداً، ووفاة 39 ألف شخص في بيوت رعاية المسنين، ووصول متحور "دلتا" بشكل سهل إلى بريطانيا بسبب الفشل في إغلاق باب السفر إلى البلاد من الهند.
لقد ذهبت سدى تلك الدروس التي كان بالإمكان استخلاصها من الأخطاء، دون أن يستفيد منها المعنيون، بصرف النظر عن أعداد الضحايا الذين تمخضت عن تلك الأخطاء. وكان هذا واضحاً من جديد في الأسبوع الحالي، حين استطاعت الحكومة أن تحقق أسوأ النتائج الممكنة عندما قررت أن تنهي بشكل مفاجئ الإجراءات الرامية إلى الحد من انتشار الإصابة بـ"كوفيد-19"، وذلك في الوقت الذي كانت تصر فيه على ضرورة قيام 1.4 مليون شخص بعزل أنفسهم من أجل إيقاف تفشي العدوى. إن بريطانيا تتحول إلى دولة منبوذة صارت وزارة الخارجية الأميركية تصدر تحذيرات من أعلى المستويات بشأنها قائلة ببساطة لمواطنيها، "لا تسافروا إلى المملكة المتحدة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم تكن عيوب جونسون سراً قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، أو بعد أن وصل إلى هذا المنصب، لكن لم نكن نعرف كم هو سيئ ومُؤذٍ حتى اتضح ذلك بفضل التفاصيل الكثيرة التي كشف عنها في الأيام القليلة الماضية دومينيك كامينغز، وأيضاً السير جيرمي فارار مدير "ويلكوم تراست" والعالم المتخصص في الأمراض المعدية، والاثنان كانا في صميم استجابة بريطانيا للجائحة. ولئن كانت القصص التي رواها كامينغز عن تخبطات رئيس الوزراء مروعة على الرغم من الجانب الهزلي الذي اشتملت عليه، فإن وصف فارار لجونسون ببساطة بأنه كان "رئيس الوزراء الغائب" هو أمر جدي يشكل دليلاً دامغاً ضده.
كيف انتهى الأمر ببريطانيا في وضع كهذا تخول فيه شخصاً تافهاً إلى هذا الحد باتخاذ قرارات تعني الموت والحياة لآلاف الناس؟ لطالما اعتقدت منذ عام 2016 أن أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كانوا يمثلون خطراً أكبر على بريطانيا من هذا الخروج نفسه. لم يكن هناك شيء غير عقلاني في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في سبيل التمتع بحرية أكبر في تقرير مصيرها. فهذه المحاولات لتأكيد السيطرة على مقدرات البلاد شائعة في أنحاء العالم، ولو تم ذلك على نطاق واسع أو بشكل يخلو من الحكمة.
لكن الخطر الأكبر يكمن في حقيقة أن "بريكست" قد صار بمثابة القاطرة التي ركبتها زمرة من الانتهازيين ومنظري اليمين المتطرف للوصول إلى السلطة التي سيستغلونها بشكل تعسفي تنقصه الكفاءة.
كنت آمل أيضاً أن هذا الحكم السيئ لن يهم كثيراً باعتبار أن "هناك قدراً كبيراً من الخراب في الأمة"، على حد تعبير آدم سميث. وبدا لي قبل 18 شهراً أن من الممكن ألا تلحق هذه الحكومة المنتخبة عام 2019، قدراً كبيراً من الضرر، طالما استطاعت تجنب الوقوع في أزمة خطيرة، كحرب مثلاً، فالجائحة لم تخطر في بالي، لكن شخصاً يتمتع بحاسة شم قوية إلى درجة تسمح بالتمييز المفرط بين الروائح، لن يرغب بالوقوف في مجرى الهواء القادم من جهة مجلس الوزراء الحالي، بيد أن عدم كفاءة هؤلاء الوزراء في حد ذاتها قد تعرقل مخططاتهم الأكثر غرابة وسلطوية وتمنع تنفيذها.
لكن جونسون وكبار مساعديه ليسوا مجرد نتاج لأحداث تقتصر على ببريطانيا مثل "بريكست". فهم جميعاً ينتسبون إلى نادٍ بغيض للقادة الوطنيين الشعبويين الذين فشلوا جميعاً في التعامل مع الجائحة في بلدانهم. إن بعض الدول مثل الولايات المتحدة أثناء حكم دونالد ترمب كانت تضم قطاعات صحية متطورة للغاية، إلا أنها مع ذلك تكبدت خسائر بالأرواح تقدر بـ604 آلاف ضحية. كما أن دولا أخرى مثل الهند بقيادة ناريندرا مودي لم يكن لديها موارد طبية كافية، ولكنها أساءت الأداء بشكل مفجع ما جعلها تحقق نتائج أقل بكثير مما كان ممكناً، ووصل عدد الوفيات في الهند إلى 414 ألف ضحية، علماً بأن دراسة أجراها مركز التنمية العالمية بالتعاون مع جامعة هارفرد تفيد بأن عدد الوفيات الحقيقي هناك يتجاوز 4 ملايين وفاة.
تعود أسباب هذا الفشل الشائع في هذه الدول إلى مصدر واضح بما فيه الكفاية. يدعي جميع القادة الوطنيين الشعبويين أنهم يكافحون أخطاراً متخيلة أو مبالغاً في تقديرها، بيد أنهم يكونون في حيرة من أمرهم عندما يواجهون خطراً حقيقياً مثل فيروس كورونا. إنهم يبيعون أحلاماً كاذبة، ويطلقون وعوداً متناقضة بخفض الضرائب لأنصارهم الأثرياء من جهة، وبمساعدات أكبر من الدولة في الوقت نفسه للمناطق المحرومة، من جهة أخرى. وتمثلت الاستجابة الساخرة من كل من مودي وترمب، اللذين يلتحق بركبهما الآن بوريس جونسون، بإنكار وقوع أي كارثة أو بالقول إنه إذا كانت هناك كارثة فعلاً فإن حجمها مبالغ فيه إلى حد بعيد.
يتمتع جونسون بخليط فتاك من الغطرسة والجهل وعدم الكفاءة لا يتجلى فقط في إساءة التعامل مع الجائحة. لا، بل كانت مواصفاته هذه بادية للعيان هذا الأسبوع في مجال آخر، حيث طالبت بريطانيا الاتحاد الأوروبي بإعادة التفاوض في شأن بروتوكل إيرلندا الشمالية بشكل جذري، ما أدى إلى الرفض الحتمي للطلب من قبل الاتحاد الأوروبي. فالحكومة تعتبر على الأرجح أن الخلافات المستمرة مع الاتحاد الأوروبي لن تؤدي إلى تراجع أسهمها بين الناخبين.
في الواقع، إن اعتراضات الحكومة على قلة احترام البروتوكول للسيادة البريطانية، موجهة أيضاً لاتفاقية الجمعة العظيمة لعام 1998. فجونسون يفكك هو ووزراؤه، عن قصد أو من دون قصد، هذه الاتفاقية، كما يتسببون باختلال التوازن بين المجتمعات الكاثوليكية والبروتستانتية في إيرلندا الشمالية. هكذا تعيد الحكومة، تدريجياً، تسليط الضوء على "القضية الإيرلندية"، وهي المسألة السياسية التي أدت تقليدياً إلى القدر الأكبر من الدمار في السياسة البريطانية، والتي بدا أن اتفاقية الجمعة العظيمة قد أبعدتها عن دائرة الضوء.
وعند تأمل أداء جونسون خلال العامين الماضيين كرئيس للحكومة، قد يخلص المرء إلى أن أفضل نظير له على الإطلاق هو المفتش كلوزو كما أدى شخصيته (النجم الكوميدي الراحل) بيتر سيلرز، إذ يمضي المفتش دائماً قدماً إلى الأمام بخطوات واثقة، نحو الكارثة، غير عابئ بالفوضى والخراب اللذين يخلفهما وراءه.
© The Independent