كانت الصور التي بدت آتية [مستلة] مباشرة من كتاب قواعد اللعب الخاص بالحرب الباردة هي آخر الحوادث غير المتوقعة في أولمبياد طوكيو. ومع ذلك، فهذا تماماً جوهر ما حصل.
وتمكث الآن عداءة من بيلاروس [روسيا البيضاء]، هي كريستينا تسيمانوسكايا، 24 سنة، في سفارة بولندا في طوكيو، بعدما أمضت بعض الوقت تحت حماية الشرطة اليابانية وسط مخاوف على حياتها. وقالت تسيمانوسكايا إنها قد أُخذت قسراً إلى المطار، بيد أنها رفضت الانصياع إلى أوامر الفريق بالعودة إلى الوطن جواً. وتفيد اللجنة الأولمبية الدولية بأن الرياضية في وضع "آمن وأمين". وتردد أن كلاً من بولونيا وجمهورية التشيك قد عرضتا منحها تأشيرة دخول لأسباب إنسانية. ويبدو أن الحدث بدأ أول الأمر كنوع من الخلاف المهني والشخصي الذي يمكن أن يندلع في الجو المشحون الذي يسود عادة مناسبة رياضية دولية رئيسة، حيث يكون الرهان [التحدي] كبيراً. ويجلب الفوز بميدالية ذهبية، أو أي ميدالية أخرى في مناسبة على هذا المستوى من الأهمية، عادة ثروة للفائز وليس فقط قسطاً من الشهرة الوطنية والعالمية. وقد اعترضت تسيمانوسكايا على قرار قضى بوجوب خوضها سباق التتابع 4/400، وأيضاً سباق الـ200 متر للسيدات الذي اختيرت أساساً ودُربت للمشاركة فيه، كما وجهت انتقادات لمدربيها، ما مهد للتطورات اللاحقة بما فيها انشقاقها.
إن التغييرات من النوع الذي واجهته العداءة البيلاروسية في اللحظة الأخيرة ليست نادرة أو غير مسبوقة. وإذ يُقابل بعضها من دون شك بالاعتراض، فإن بعضها الآخر ينفذ، مهما كانت المآلات اللاحقة.
لكن تطور الخلاف بسرعة في هذه الحالة من رياضي في الظاهر إلى آخر سياسي، واعتُبرت شكوى تسيمانوسكايا دليلاً على ولائها المشكوك فيه لبلادها، وذلك كما كشفت اللاعبة في منشورات لها على وسائط التواصل الاجتماعي.
في هذه الأثناء، قالت اللجنة الأولمبية في بيلاروس إن تسيمانوسكايا قد استُبعدت من الفريق بسبب "وضعها النفسي والعاطفي". واتهمها التلفزيون الحكومي في بلادها بالافتقار إلى "روح الفريق".
من جانبها، ذكرت الرياضية أن مسؤولي الفريق قد أعطوها مهلة ساعة واحدة لحزم أمتعتها قبل أن يرافقوها إلى المطار بقصد وضعها على أول طائرة عائدة إلى بيلاروس. وأفاد أصحابها أن جلّ همها حالياً هو التداعيات التي قد تنطوي على الخطورة بالنسبة إلى عائلتها، جرّاء ما فعلته.
مضى وقت طويل، منذ طلب رياضي بارز اللجوء إلى بلد أجنبي خلال دورة ألعاب أولميبة، والأرجح أن العالم لم يشهد محاولة انشقاق من هذا النوع منذ انهيار الشيوعية في أنحاء أوروبا وسقوط الاتحاد السوفياتي الذي أعقب ذلك. ففي تلك الأيام، كان من الممكن للمناسبات العالمية الكبرى، سواء كانت رياضية أو ثقافية، أن تتمخض عن بعض الانشقاقات. وكان الرياضيون أو الفنانون حينذاك يختفون بصورة غامضة، أو يمتنعون عن الحضور في الموعد المقرر لبدء رحلة العودة إلى الوطن، قبل أن يعاودوا الظهور بعد أيام أو ربما أسابيع وهم تحت الحماية في الدولة المضيفة. وكثيراً ما كان المنشق في حالة كهذه قد قضى سنوات وهو يخطط لانتهاز فرصة تصور أنها الوحيدة التي قد تسمح له بنيل الحرية الشخصية أو الإبداعية أو الاقتصادية.
ودارت غالبية هذه الانشقاقات الدراماتيكية خلف الكواليس. بيد أنها برزت للعيان بصورة مفاجئة وسريعة في مناسبات نادرة. وشهد عام 1961 في ذروة الحرب الباردة إحدى هذه المناسبات القليلة، حين أدت جهود رودولف نورييف للهروب من حراسه السوفيات، في مطار لو بورجيه بعد أول جولة قام بها باليه كيروف في فرنسا، إلى تشابك بالأيدي ومظاهر عنف ومواجهة دولية على مستوى القمة. وقد أعاد ديفيد هير سرد تلك التفاصيل بلغة سينمائية لا تُنسى وذلك في فيلم "الغراب الأبيض" عام 2018. على هذا المنوال كانت الأمور تجري.
لكن في هذه الأيام تتردد أصداء انشقاقات الحرب الباردة تلك من خلال محاولات يكون أبطال معظمها عادة لاعبي البيسبول الكوبيين ممن يرغبون في البقاء في الولايات المتحدة.
لا يوجد ما يوحي أن تسيمانوسكايا قد وصلت إلى اليابان وفي جعبتها خطة للانشقاق، وذلك خلافاً للعديد من المحاولات المماثلة التي جرت أيام الحرب الباردة. لكن بدا أن سير الأحداث والنتيجة التي انتهت إليها جاءتا بسبب الظروف التي مرت بها الرياضية، وهي ظروف حفلت بتذمر مهني وسياسي أيضاً.
وتقود حالياً "مؤسسة التضامن الرياضي البيلاروسي" جهود الدفاع عن قضية تسيمانوسكايا، علماً أن هذه المؤسسة قد أنشئت لحماية الرياضيين الذين شاركوا في الاحتجاجات التي جرت بمناسبة انتخابات العام الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الوقت نفسه، أبرزت هذه الأحداث التي شهدتها طوكيو، على هامش الألعاب الأولمبية التي تجري في جو سوريالي بسبب جائحة كورونا، كم تغير العالم في الـ35 عاماً الماضية، وكذلك كم باتت بيلاروس منبوذة الآن في أوروبا، في الأقل.
لم يكن في ذلك الوقت من الممكن حتى تصور منح بولندا حق اللجوء لمنشق ما، فهي كانت دولة عضواً في حلف وارسو الشرقي، ولو على مضض. أما بيلاروس فكانت حينذاك كذلك واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي الآفل. تنتمي الدولتان حالياً إلى كتلتين متعارضتين، وأصبحت بولندا ومعها ليتوانيا وأوكرانيا ملاذات آمنة بالنسبة إلى ناشطي المعارضة البيلاروسية والمتعاطفين معهم. ويضم هؤلاء زعيمة المعارضة سفيلتانا تيخانوفسكايا التي تعيش في المنفى في فينلنيوس، عاصمة ليتوانيا.
فقدت الاحتحاجات الجماهيرية التي شهدتها بيلاروس في مثل هذا الوقت من العام الماضي بعدما ادعى ألكسندر لوكاشينكو الفوز بولاية رئاسية سادسة، زخمها. لكن ما حدث في طوكيو أخيراً يوحي أن القصة لم تنتهِ حتى الآن.
ولا توفر ثورة تسيمانوسكايا الشخصية ورد فعل السلطات عليها لمئات الناشطين ممن هم في السجن أو المنفى، فقط لمحة خاطفة لمدى اتقاد جمر الثورة تحت الرماد الظاهر على السطح القمعي في تلك البلاد، بل تقدم أيضاً دليلاً على أن الصراع لم يصل بعد إلى خاتمته.
© The Independent