الكبار يعتبرونه أمناً قومياً، والبسطاء يصنفونه أمناً غذائياً، وما بينهما يكتنزونه في الثلاجات لزوم الأزمات، ويحمّصونه في الأفران للطوارئ والإغلاقات. في الأصل كان كامل الاستدارة، ثم ضربته يد الإهمال، فصار متأرجحاً مترنحاً بين البيضاوي والمثلث والسوريالي. إنها حال رغيف العيش في مصر.
يتربّع في القلوب ويهيمن على العقول ومن دون أدنى شك هو عماد البطون. بطون المصريين الذين يباهون بأنها تهضم الزلط برغيف العيش. على وجه الدقة، 270 مليون رغيف خبز، أو بالأحرى رغيف عيش كما هو معروف في مصر، مدعّم تضخها المخابز العاملة ضمن منظومة الدعم يومياً لتطعم 71 مليوناً و497 ألفاً و859 مواطناً يحظون بالدعم، ويحملون 23 مليوناً و179 ألفاً و156 بطاقة تموين مدعّمة، حديث القاصي والداني في مصر حالياً.
كلمة السر "دعم"
منظومة الدعم، وعلى رأسها وفي القلب منها "رغيف العيش". لكن الدعم تحوّل من كونه دواء إلى داء عبر عقود. الدواء الذي وصِف لمن ضربتهم نيران الغلاء في الحرب العالمية الثانية ودول عدة حول العالم بينها مصر، كان يفترض أن يكون مسكّناً مؤقتاً يجري إيقافه عقب علاج الأسباب.
لكن لا الأسباب عولجت، ولا المسكّنات أوقفت. وتحوّل المسكّن المؤقت إلى مكون إضافي يسري في دماء ملايين المصريين من القابعين والقابعات في قاعدة الهرم الاقتصادي إلى أن حان وقت "الفطام".
وفي العقد الأخير، تحديداً منذ أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011، التي ألحقت كثيراً من الضرر بالاقتصاد، أصبح لزاماً أن ينتقل دعم "رغيف العيش" من أسلوب حياة ومسلمات بديهية إلى إجراء للإعانة وطوارئ استثنائية.
رحلة دعم "رغيف العيش" في مصر، ومعه حزمة من السلع الغذائية الأساسية مثل السكر والشاي والزيت، بدأت في أعوام ما بعد الحرب العالمية الثانية العجاف، وامتدت إلى أعوام ثورة 23 يوليو (تموز) العاصفة التي خلطت الوطنية بالدعم بالسياسة بالفقراء بالأغنياء بالاقتصاد.
وانتهج نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مبدأ توسيع قاعدة الدعم، وأصبحت منظومة دعم الغذاء أشبه بعنصر أساسي من عناصر الدولة المصرية في عصر ما بعد الملكية. وشملت التوسعات إدخال عناصر مثل الكيروسين والصابون، بل والملبوسات القطنية ضمن بطاقة التموين التي كانت في حوزة غالبية الأسر المصرية، بغض النظر عن مستواها المادي أو الاجتماعي.
ثقل وسياسة
وأصبحت الغالبية مشمولة بالدعم، وأخذت قيمته تتضاعف، وثقله يتزايد على كاهل موازنة الدولة. وتحوّل أو ربما كان منذ نشأته إلى أداة لكسب وضمان الرضا الشعبي.
وبين هزيمة يونيو (حزيران) 1967 إلى وصول الرئيس الراحل محمد أنور السادات إلى سدّة الحكم عام 1970، وصلت فاتورة الدعم إلى 20 مليون جنيه مصري (كان الدولار الأميركي بـ 40 قرشاً مصرياً وقتها).
وأخذت قاعدة دعم السلع الغذائية، على رأسها رغيف العيش تتوسع، لا سيما بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، حين اضطر نظام الراحل السادات إلى مزيد من توسعة قاعدة الدعم لاستيعاب الغلاء من جهة، وإيجاد توازن مع سياسة الانفتاح الاقتصادي في منتصف سبعينيات القرن الماضي.
إلا أن السادات حين حاول رفع أسعار بعض هذه السلع، ومسّ رغيف العيش، اندلعت "انتفاضة الخبز"، وفي أقوال أخرى "انتفاضة الحرامية" (كما سمّاها السادات). وأدت "الانتفاضة" لا إلى "عدم المساس" برغيف العيش فقط، لكن تحوّل "لا مساس" إلى شعار سياسي.
ويشهد التاريخ بأن كل محاولة للاقتراب من رغيف العيش المدعّم تكون أقرب إلى العمليات الحربية التي تتطلب دهاء وتستوجب تدرجاً وتحتّم تمويهاً.
تمويه الأرقام
لكن تمويه الأرقام وتزيين الأوهام لم يعودا في الإمكان. أوهام استمرار دعم رغيف العيش في المطلق اقتربت من خط النهاية، والأرقام تتحدث عن نفسها. نحو 66.7 مليون مصري ينتظرون استمرار حصول كل منهم على خمسة أرغفة خبز مدعّمة يومياً، يباع الواحد منها بخمسة قروش وتكلفتها 65 قرشاً، و4.3 مليون مصري يعتبرون الاستفادة من دعم الدقيق (الطحين) بواقع عشرة كيلوغرامات لكل منهم شهرياً أمراً مفروغاً منه.
وما إن فرغ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من كلماته "القنبلة" قبل ساعات عن رغيف العيش حتى اشتعلت منصات التواصل الاجتماعي جدلاً، والشارع ترقباً، والأفران تكدساً والقاعدة العريضة من المصريين توجساً وتخوفاً.
الرئيس السيسي قال إن الوقت حان لرفع ثمن رغيف العيش (المدعّم) ذي القروش الخمسة، مذيّلاً "القنبلة" بقوله: "مش معقول أدي (أمنح) 20 رغيفاً بثمن سيجارة"! يشار إلى أن علاقة وطيدة ما متجذرة في مصر بين السيجارة ورغيف العيش. فعلى الرغم من شكاوى مليونية بالغلب والفقر وضيق ذات اليد، فإن نسبة معتبرة من أصحاب الشكاوى مدخنون شرهون.
السيجارة والرغيف
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يقول إن نحو 17.7 في المئة من إجمالي المصريين فوق عم الـ 15 سنة مدخنون، وإن متوسط الإنفاق السنوي على التدخين للأسرة المصرية التي يوجد فيها فرد واحد مدخن يبلغ نحو 6293.5 جنيه مصري (نحو 401 دولار أميركي).
لكن أستاذ الحالات الحرجة في كلية طب القصر العيني حسام موافي يقول إن المدخن الذي يبلغ من العمر 65 سنة يكون قد أنفق على التدخين نحو 180 ألف جنيه مصري (نحو 12 ألف دولار أميركي).
ملايين المصريين الواضعين أياديهم على قلوبهم هذه الساعات بعد ما قاله السيسي حول سعر رغيف العيش المدعوم ينفقون ما لا يقل عن 35 مليار جنيه مصري (نحو 2.2 مليار دولار أميركي) سنوياً على الهواتف المحمولة. كما تؤكد وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات أن الغالبية المطلقة من الأسر المصرية لديها هواتف محمولة. كما يبلغ عدد خطوط الهواتف المحمولة في مصر 96 مليون خط، ما يعني 96 مليون سداد فاتورة أو شحن بطاقات سابقة الدفع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من يستحق الدعم؟
الدفع بأن غالبية المصريين لا تستحق الدعم هو دفع من دون حجة، وتعميم بلا سند. لكن السند الآتي من وزارة المالية يشير إلى حاجتها في العام المالي الحالي 2021 - 2022 لتوفير رغيف العيش وغيره من السلع التموينية المدعّمة لـ 71 مليون مصري بتكلفة 87.2 مليار جنيه (نحو 5.5 مليار دولار أميركي) مقابل 84.4 مليار جنيه (نحو 5.3 مليار دولار) العام الماضي، وذلك لتصنيع 89 مليار رغيف عيش، إضافة إلى 651 ألف طن قمح لتوفير دقيق المستودعات، وذلك بحسب البيان التحليلي للموازنة.
غالبية مستحقي الدعم في مصر هم القابعون حول خط الفقر، وهو الخط المحدد بـ 8827 جنيهاً للفرد سنوياً (نحو 562 دولاراً). أما الفقر المدقع، فهو 5890 جنيهاً سنوياً للفرد (نحو 375 دولاراً). (الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء).
الوصول إلى توازن بين المعقول واللامعقول، والمنطقي واللامنطقي في شأن رغيف العيش أمر بالغ الصعوبة، لا سيما في زمن الاستقطاب والتسييس واستخدام الجميع لفزّاعة الفقر والفقراء والغلب والغلابة من دون تفكّر أو تدبّر.
الرئيس المصري أشار ضمن أسباب الحاجة لزيادة سعر الرغيف ذي القروش الخمسة إلى "تحقيق التوازن في ما يجري تقديمه إلى المواطنين"، لا سيما أن نظام الدعم بهذا الشكل معمول به منذ عقود، وحان وقت التعديل بما يواكب ما تتخذه الدولة من إجراءات وسياسات.
حياة كريمة
سياسة مبادرة "حياة كريمة" التي تهدف إلى تغيير حياة المصريين البسطاء، كما أشار السيسي، تستوجب كذلك التطرق إلى الحديث عن سعر رغيف العيش. ويبدو أن الرئيس المصري يعي تماماً حساسية المسألة، وما يجرّه أي حديث عن مساس الرغيف من التاريخ الحديث والقديم. فبادر إلى القول: "الناس هتقول ماحدش يقرب (ممنوع الاقتراب) من رغيف العيش. لأ هنقرب! لأننا جادون وشرفاء".
واستكمل الرئيس المصري دقّه على الحديد وهو مشتعل، فأردف: "أقولها على الهواء قدام (أمام) كل المصريين: الكلام ده لازم (لا بد) يتوقف، وسنعيد تنظيم هذا الأمر، ومش بقول نغليه قوي زي ما بيكلفنا 65 قرشاً".
وسواء ارتفع سعر رغيف العيش كثيراً أو قليلاً أو لم يرتفع أصلاً، تفجّرت ينابيع الجدال والسجال والاستغلال السياسي للموقف. فبين مؤيد لزيادة سعر الرغيف المدعّم لأنه من غير المعقول أن يستمر ملايين المصريين في استنفاد موازنة الدولة لتطعمهم خبزاً مدعّماً في أفواههم، أو لأنه كلّ وملّ من استنفاد الدعم لمخصصات الضرائب التي يفترض أن تخصص لتحسين الطرقات والتعليم والصحة وليس إطعام الفقراء فقط كثيري الإنجاب، وبين معارض للزيادة من منطلق أن مساس رغيف العيش تعريض للأمن القومي للخطر، أو على أساس أن إحدى مسؤوليات الدولة الرئيسة تأمين الغذاء للمواطنين، يبقى هناك المُستَقطَبون والمُستقطِبين الذين ينتظرون مثل هذه الملفات المهمة للدقّ على أوتار التسييس.
قنوات تلفزيونية ومنصات عنكبوتية وصفحات شخصية لمغردين ومدونين يدقون بكل همة ونشاط على طرفي النقيض. فريق مهلل للزيادة من منطلق تأييد الرئيس، وآخر مندد بها من منطلق معارضته، وفّرا فرصة ذهبية لإعادة تحريك مياه السياسة والجدال والمعارضة الراكدة بفعل حزمة من الأسباب تشمل تغيرات طارئة على خريطة العداوات والصداقات الإقليمية، وانشغال قطاعات عريضة من المصريين بـ"لقمة العيش" بديلاً عن خناقات السياسة اليومية، والوباء الذي قلب الموازين والأولويات ومسببات القلق رأساً على عقب.
لقمة العيش
وعقب كل حدث أو حديث أو حادثة عن "لقمة العيش"، تشتعل الأجواء والأثير والقيل والقال، نظراً إلى اختلاف طرق الاستقبال من شخص إلى آخر، ومجموعة إلى أخرى، وفئة وغيرها، وتوجه سياسي وآخر، ومقدرة اقتصادية وأخرى. هذا ما جرى عليه عرف الأحداث في مصر في عصر "السوشيال ميديا" وصحافة المواطن ومنصات "فيسبوك" و"تويتر" بديلة الأحزاب السياسية الغائبة عن التفاعل الجماهيري.
الرئيس المصري قال تحسباً للقيل والقال: "أرجو أن كلامنا (حديثنا) عن عملية تنظيم الدعم في رغيف العيش يصل للناس صح ولا تتم إساءة استقباله. نريد تحقيق التوازن لنصل إلى ثمانية مليارات جنيه مصري (نحو 509 ملايين دولار أميركي) لزوم التغذية المدرسية"، مضيفاً أنه "سيجري توفير نسبة من موازنة كل وزارة لتوفير المليارات المطلوبة".
"المطلوب الآن هو أن نفهم مصير الرغيف"، حسبما يقول جمعة محمد جمعة (65 سنة) (موظف متقاعد) وواحد من ملايين المصريين الذين يحظون بحق الرغيف المدعّم. لكن ما يطلبه لم يتوافر بعد. فالجميع منشغل بضرب الأخماس في الأسداس في ما قصده الرئيس بحديثه عن رغيف العيش، ونسبة الزيادة المتوقعة، وأثرها في أسعار السلع الغذائية والمواد التموينية والسيجارة التي يعادل ثمنها سعر 20 رغيف عيش.
وستظل الملايين في حيرة من أمرها إلى أن تستيقظ ذات صباح على قرار بتحريك سعر الرغيف. وهذا لا يمنع رواج التوقعات. شعبة المخابز في غرفة القاهرة التجارية تتوقع أن تكون الزيادة إلى عشرة قروش. أصحاب مخابز يرجحون أن لا تفوق الزيادة خمسة قروش إضافية.
الطريف أن كوكبة من المتجادلين حول قرار الرئيس المصري "الاقتراب من رغيف العيش" في إحدى التجمعات الراقية اعترفت بأنها لم تكُن تدري من الأصل أن هناك رغيف عيش في مصر بخمسة قروش، على الرغم من أنها تعيش على مرمى مخبز من ملايين المعتمدين على الرغيف ذي القروش الخمسة.