Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بطلة رلى الجردي ترمم ذاتها المنقسمة بين فقدان واستعادة

الموسيقى في رواية "مئة رعشة" حافز على اكتشاف الباطن وتحقيق شغف العبور

الروائية والأكاديمية رلى الجردي (دار الآداب)

في عام 2018 أصدرت رلى الجردي، الشاعرة والباحثة والكاتبة اللبنانية المقيمة في كندا، روايتها الأولى "في علبة الضوء". وضعت فيها عينها على عدسة الكاميرا لتقرأ وترى وتصور المشهد بعمق، كاشفة عن كل تجليات الطائفية والعنصرية. وقد وظفت الكاتبة في ذلك خبرتها العميقة بالتاريخ وعلم الأنثروبولوجي. تحولت العدسة إلى علبة ضوء تكشف عن الباطن الذي يحجبه الظاهر. وفي عام 2021 وفي روايتها الثانية "مئة رعشة" الصادرة عن دار الآداب اللبنانية تواصل الجردي المسعى نفسه في الكشف عن الباطن عبر تقنية الصوت وبالتحديد صوت الموسيقى. تتخذ الجردي من الموسيقى مؤشراً يحمل دلالات عدة، منها النفسي الذي يدل على الشغف، والفكري الذي يعبر عن قدرة عبور حدود الأديان والقوميات، والديني الذي يعبر عن التصوف أو التطرف، وأخيراً الاجتماعي الذي يُشكل نفسه عبر رؤيته قيمة الموسيقى.

تحتل الموسيقى دوراً رئيساً في حياة لمى -الراوية- وهو دور معقد يمتزج فيه دور الأم والذاكرة الشخصية والصراع بين ما يجب فعله وما ترغب الذات فيه. في هذا التشابك العميق، تخلو حياة لمى من الشغف والرغبة حتى تكاد تصل إلى نقطة توقف وكأنها موات. وبذلك لا تكون افتتاحية النص إلا مفارقة كبرى، فنقرأ وصفاً تفصيلياً لحفلة موسيقية تُبث على شاشة التلفزيون. يدرك القارئ مباشرة أن لمى تجلس في مدينة هارتفورد في أميركا لتجري مقابلة عمل ستحول حياتها بالكامل. إلا أن تأثير الموسيقى التي استمعت إليها بالصدفة كان كزلزال لم يقوض حياتها فحسب، بل أعادها إلى المسار الصحيح، أو بدايته. وتشعر لمى أنها "دخلت في حالة من الانفصال والتخدير" (12). انفصلت لمى عن المسار الذي دفعتها إليه الأم، ولنقل إن صوت الموسيقى ساعد لمى على الدخول في مرحلة الفطام، إذ أدركت أن اليوم الذي خرج فيه البيانو من البيت "محمولاً كالنعش" تسبب لها في حالة من الصدمة المقاربة للفقدان، ومع تكرار حالات الفقدان لم تعد لمى تتذكر نقطة البداية في فقدان الشغف.

تاريخ شخصي

تستعيد لمى تاريخها الشخصي كأن الموسيقى أيقظت الذاكرة من سباتها العميق، لنقرأ تاريخ طرابلس الجد وطرابلس الأم، ومع انتقال السرد إلى حاضر النص نقرأ طرابلس جلال. وبهذا يتحول فضاء المدينة مرآة تعكس الأفكار والأحداث والقناعات الفردية. وإذا كانت اللغة- الموسيقى هي تعبير عن الفكر، فإن غيابها هو تعبير عن فكر آخر. هكذا تعمل الموسيقى في حضورها البهي أو غيابها القسري كمؤشر يمكن من خلاله قراءة التاريخ العام والتاريخ الشخصي، كما أنه مؤشر يسهم في تقسيم فضاء المدينة. تشكلت طرابلس في ذاكرة لمى عبر التاريخ الشفوي الذي قدمه لها جدها عن أبيه -أبو سعادات- صاحب الزاوية الوجدية التي انضم إليها مارديروس الأرميني صاحب الموهبة الفنية الفريدة في الغناء والعزف. تذوب الأديان في علاقة مارديروس وأبو سعادات، ويتوحد إيقاع الترانيم مع التراتيل مع الشعر الصوفي، حتى تتجلى وحدة الوجود في شكل مؤنسن ويتحقق الشغف في مئة رعشة. لكن التطرف الضيق الأحادي النظرة لا يتحمل هذا التجاور، فهو يقوم على الانفصال، والوصم، والانغلاق. أما طرابلس الأم فهي أشد وطأة وأكثر قسوة، لأنها تتحول إلى العامل الرئيس في تشكيل المصائر قبل امتلاك الشغف.

تتشكل طرابلس الأم من وجهة نظر العادي والمقبول والمألوف حيث لا مكان للشغف. بعد أن تبرع لمى في دروس البيانو بتشجيع من الجد، تستغني الأم عن البيانو ويخرج محمولاً كالنعش، وبذهابه تفقد لمى الشغف -كما فقدت جلال- وتدخل قسراً في المسار الذي قررته لها الأم، وهو أن تكون "دكتورة" لتتفاخر بها في المدينة، ولأن الموسيقى لا توفر عملاً محترماً (من وجهة نظر المجتمع). تبقى لمى حبيسة رغبة الأم، فهي من ناحية لا تود أن تخيب أمل أمها، ومن ناحية أخرى هي غير قادرة على أن تكتب كلمة واحدة في رسالة الدكتوراه. وفي سياق آخر، تكتشف لمى أن جلال -من أشعرها بمئة رعشة من الشغف- قد تقدم لخطبتها ورفضته الأم لأن ابنتها ستكون "دكتورة". هكذا تؤدي طرابلس الأم إلى فقدان لمى قدرة تحقيق الذات عبر الفاعلية الخاصة بها، وكأن وجود الأم لم يكن إلا سجناً كبيراً ظلت لمى قابعة داخل حدود رغباته وأهوائه.

الموسيقى تاييداً وتحريماً

أما طرابلس الجد، فهي المساحة البينية التي تقع بين أبو سعادات ومارديروس من ناحية، والأم من ناحية أخرى. يبقى الجد على شغفه بالموسيقى والغناء، ويستعيد ذكرى حبيبة قُتلت غدراً بفعل سلطة ذكورية تافهة، ويغني ويشاكس وهو على وعي كامل أنه لا يستطيع شيئاً حيال انقسام المدينة بين مؤيد للموسيقى ومُحرّم لها. حتى أنه لا يتمكن من إنقاذ البيانو من أجل لمى. تبقى لمى مثل مدينتها، منقسمة على ذاتها، فاقدة فاعليتها، محبوسة داخل الماضي والشعور بالفقدان الذي يدفعها إلى نبش الماضي، في حين أن الحياة "تسير قدماً". تدرك لمى أنها تعاني "فقدان الدهشة والقدرة على الحلم، على معانقة كون ساحر تتلاشى فيه صراعاتي القديمة والجديدة مع الحياة" (81). يبقى عالم لمى بارداً إلى أن توقظه موسيقى يوسكا في مدينة باردة في شرق أميركا. وعلى إيقاعات يوسكا السردية والموسيقية تتمكن لمى من الإمساك بأول خيوط الالتئام.

في تمكن لمى من إدراك أوجه الشبه بين يوسكا، الذي يظهر في حاضر السرد في أميركا، ومارديروس الأرميني الذي نقرأه من خلال التاريخ الشفوي للجد، يبدأ الالتئام وتستعيد الذات قدرتها على الفعل والرغبة، "أراهما صورتين لنداء روحي واحد، لشوق واحد إلى معانقة الوجود، إلى التوحد مع العالم والطبيعة، إلى تخطي كل أنواع الانقسامات" (83). التوحد مع العالم والطبيعة (فلسفة بدايات القرن التاسع عشر) هو الطريق الأوحد للحصول على مئة رعشة شغف، وهو أيضاً الطريق المتاح في سعي لمى لإعادة تأهيل ذاتها المنقسمة بين الماضي (مارديروس) والحاضر (يوسكا)، بين جلال وزياد، بين أميركا وطرابلس، بين جبل محسن وباب التبانة، بين المفروض والمرغوب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في محاولة لمى الأخيرة لاستعادة إحساس المئة رعشة تبحث عن جلال، تبحث عن البدايات التي يستحيل إعادتها إلى صورتها الأولى، لتجد أن جلال قد تحول إلى معسكر الرافضين كل رحلات عبور حدود الأديان والقوميات والأفكار، والأهم أنه تحول إلى معسكر تحريم الموسيقى. ربما كان هذا اللقاء ضرورياً ليس فقط لتدرك لمى أن الماضي لا يمكن استعادته، بل أيضاً للبنية الفكرية للنص. من دون هذا اللقاء كان النص سيتحول إلى وثيقة مثالية في عالم ليس فيه أدنى حدود التسامح والقبول. وبالتالي يقدم الجزء الأخير في النص الرؤية الواضحة للنص ولصاحبته: هناك دائماً طريقان في سعي الذات المنقسمة إلى القدرة على الفعل واستعادة الرغبة -في الأقل في الحياة- هناك الطريق الذي بذلت فيه لمى مجهوداً نفسياً مضنياً حتى تتخلص من صدمة فقدان البيانو -الرغبة- على يد الأم، وتوصلت إلى الكيفية الفكرية والنفسية التي يمكن بها عبور الحدود الصارمة بين الكليات الفكرية والدينية والمعرفية، والرؤى المتعددة التي تعمل كمحمول للوجود الإنساني. ومن أجل الوصول إلى هذه الغاية كان لا بد أن تكون لمى قادرة على عبور الحدود فعلياً ما بين لبنان وأميركا. أما الطريق الثاني فهو ذاك الذي اختاره جلال ليكون أميراً إسلامياً في طرابلس، وهو الطريق السهل الذي لا يحتاج إلى أي مجهود سوى الإعلان عن تحريم الموسيقى ورمي كل من هو مختلف بالكفر.

في وعيها الكامل بالطريقين، تختار رلى الجردي أن تنهي الرواية بوضع الأمل في المستقبل، ربما أصبح الحاضر معطوباً بدرجة لا تسمح برفاهية الأمل. ينتزع ابن لمى البيانو الصغير منها "يجلس على الأرض، ويضرب بأصابعه على المفاتيح دفعة واحدة" (165).

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة