الجدل في الولايات المتحدة، المشكلة في أفغانستان، والانعكاسات تتجاوز الشرق الأقصى إلى الشرق الأوسط. الغزو قبل عشرين عاماً كان بالنسبة إلى الأكثرية في أميركا "حرب ضرورة". وقرار الانسحاب اليوم "خيار" سيأخذ كثيراً من النقاش. الرئيس جو بايدن يعلن بصراحة أنه "ليس نادماً" على الانسحاب. والبنتاغون يقول للمسؤولين والمواطنين الأفغان الخائفين من عودة طالبان، "هذه أرضكم ومواقعكم وعليكم القتال من أجلها". لكن مجلة "فورين أفيرز" التي سألت عدداً كبيراً من الخبراء إن كانوا موافقين أو غير موافقين على الانسحاب الكامل، أبرزت رأيين مختلفين طبعاً. أولهما للجنرال ديفيد بيتريوس، الذي تولى في مرحلة قيادة قوات التحالف في أفغانستان والعراق. وثانيهما لمديرة التخطيط السياسي في الخارجية الأميركية سابقاً ومديرة "أميركا الجديدة" اليوم آن- ماري سلوتر. بيتريوس غير موافق، ويرى "أننا سنندم على هذا القرار، وكان علينا المحافظة على التزام ثابت لمساعدة شركائنا الأفغان على تجنب حرب أهلية والتأكد من أن (القاعدة) و(داعش) ليسا قادرين على ترسيخ ملجأ في أفغانستان أو البلدان المجاورة لها. وكل ذلك ممكن بإبقاء 3500 جندي أميركي". سلوتر موافقة وتقول "انسحاب قواتنا سيكون حصيلة بائسة للنساء الأفغانيات والمجتمع والاقتصاد، لكن الرئيس بايدن امتلك الشجاعة لأن يدرك أن عشرين سنة من زيادة القوات والتغيرات الاستراتيجية كافية. الولايات المتحدة أنجزت مهمتها الأولية في تدمير قاعدة للقاعدة، ولا تستطيع إنجاز مهمة أوسع في محاولة لإعادة صنع مجتمع أفغاني".
لكن المسألة هي أن أميركا لم تنسحب بعد القضاء على آخر طالباني بل بعدما صار عدد أفراد الحركة أكبر. وهي تبدو قادرة على التقدم في الولايات التي تتساقط أمامها مثل أوراق الخريف بأسرع كثيراً مما فعلت في حرب الوصول إلى السلطة. ومن الوهم التصور أن "طالبان" تغيرت، وإن صارت تمارس الدبلوماسية مع أميركا وتتحدث عن تسوية سياسية مع حكومة كابول. حتى قائدها العسكري حالياً، فإنه محمد يعقوب ابن زعيمها الراحل الملا محمد عمر. ومن السذاجة أن تتكل واشنطن على التزام الحركة بنود الاتفاق الذي عقدته معها في مفاوضات قطر، وأبرزها ألا تسمح بعودة "القاعدة" وممارسة الإرهاب العالمي انطلاقاً من أفغانستان. حتى تهديد المفاوض الأميركي، زلماي خليل زاد، بأن المجتمع الدولي "لن يعترف" بحكومة طالبان إذا وصلت إلى كابول بالقوة بدل التسوية مع الرئيس أشرف غني وحكومته، فإنه لم يوقف الحركة عن الاندفاع العسكري في إسقاط عواصم الولايات وتطويق قندهار ومزار الشريف وكابول وسواها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذلك أن واشنطن التي لعبت دور "الشريف" الأميركي في أفغانستان انتقلت من الانفراد بالدور إلى المجيء بشركاء أطلسيين ثم إلى التقاعد. وهي توحي أنها "تتمتع" اليوم برؤية جيران أفغانستان ولا سيما باكستان وإيران في ارتباك وصراع على النفوذ، ورؤية الصين والهند في تنافس على ملء الفراغ الأميركي، ورؤية روسيا تتخوف على أمنها وأمن طاجيكستان وأخواتها من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، بعدما كانت موسكو تدفع الأموال لمتمردي طالبان وسواهم للقيام بعمليات ضد القوات الأميركية. لكن من الصعب الهرب من واقع يفرض نفسه: عودة "القاعدة" وفوقها الفيروس "المتحور" منها وهو "داعش". والسؤال هو: أين يمكن أن تتركز العمليات الإرهابية المنطلقة من أفغانستان؟ ومن أين سيأتي المقاتلون الجدد للانضمام إلى التنظيمين الإرهابيين؟ معظم العمليات الإرهابية مرشحة للوقوع في الشرق الأوسط. وأكثر المقاتلين المتحمسين سيأتون من البلدان العربية. بعد هزيمة طالبان ضرب العالمَ العربيَّ وباءٌ اسمه "الأفغان العرب". وهم الإرهابيون الذين غادروا البلدان العربية للالتحاق بـ"القاعدة"، فعادوا إلى بلدانهم لممارسة الإرهاب الذي صاروا خبراء فيه. ومع عودة طالبان سنجد أمامنا ظاهرة "العرب الأفغان". ولا شيء في حركات الإسلام السياسي اسمه قوة وطنية تعمل داخل حدودها.
والمفارقة أن أميركا المنسحبة هي أميركا التي "يجب أن تشكل النظام الدولي في عالم متغير". كما جاء في وثيقة "التوجه الاستراتيجي المؤقت" لإدارة بايدن. ألم يقل صموئيل هنتنغتون إن "أميركا يمكن أن تكون خيبة أمل لأنها أمل"؟