على الرغم من "العيال" الذين يركضون في كل ركن من أركان مصر المحروسة، وعلى الرغم من تخمة الحضانات بروادها من الرضع وأعمار ما قبل المدرسة، وامتلاء النوادي الرياضية والمقاهي بفئاتها ونواصي الشوارع بالأكبر سناً من سن العاشرة إلى أوائل الثلاثينيات، وعلى الرغم من استمرار شيوع ظاهرة سائقي الـ"توك توك" وعمال الدليفري و"صبي الأسطى" والمتسولين من الأطفال، واستمرار الزحام الرهيب في عيادات أطباء النساء والتوليد واستمرار الصرخات المعلنة عن خروج مزيد من المواليد عبر "عنبر التوليد"، وعلى الرغم من الساعة السكانية الشهيرة في شارع صلاح سالم في شرق القاهرة، التي تكاد لا تلتقط أنفاسها بسبب تواتر الأعداد، إلا أن الزيادة السكانية في مصر، للمرة الأولى منذ عقود طويلة تراجعت قليلاً.
سرعة ضخ العيال
الدولة تحب أن تسميه "تراجعاً ملحوظاً"، وهذا صحيح، لكنه يبقى طفيفاً بمقاييس الدول التي تود أن تبطل مفعول قنبلتها السكانية. وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن عدد المواليد في مارس (آذار) الماضي بلغ نحو 16 ألف مولود، وهو العدد الذي يقل بنحو 12 ألف مولود عن الشهر نفسه من العام السابق. هذا الإنجاز الكبير مازال قيد البحث والتحليل لمعرفة الأسباب وتفسير العوامل التي خفضت من سرعة ضخ العيال.
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ينسب هذا الانخفاض غير المعهود إلى "جهود الدولة لنشر الوعي لدى المصريين حول مغبة الزيادة السكانية غير المحسوبة وتأثيرها السلبي على مستوى معيشتهم".
العين المجردة تشير إلى أن معيشة المصريين تغيرت من سيئ إلى أسوأ على مدار سنوات تعثر جهود تنظيم النسل في العقد الأخير. صندوق الأمم المتحدة للسكان يقول، إن معدلات الخصوبة في مصر ظلت محافظة على اتجاه تصاعدي منذ عام 2006. وحققت مصر أعلى مستوى لها في عام 2014 حين بلغ متوسط المواليد لكل امرأة في سن الزواج 3.5 مولود، لكنها عادت وانخفضت في عام 2017 محققة متوسط مواليد بنسبة 3.2 مولود، وتحقق الانخفاض الأكبر في عام 2018 بمتوسط 3.1 مولود. ويبدو أن الانخفاض صار وتيرة مبشرة.
ضبط إيقاع الإنجاب
الوتيرة المبشرة تلقي الضوء على "البرنامج القومي لضبط النمو السكاني"، الذي لم يسمع عنه كثيرون وإن طالهم نشاطه بشكل أو بآخر. جهود عاتية تبذلها الحكومة المصرية في السنوات القليلة الماضية لضبط إيقاع الإنجاب مع الموارد المتاحة والتوقعات المستقبلية. الهدف الكبير هو الوصول بمعدل مواليد إلى 2.4 مولود لكل سيدة مع حلول عام 2030، لذلك خرج "البرنامج القومي لضبط النمو السكاني" لتنسيق الجهود بين الوزارات المختلفة والارتقاء بالخصائص السكانية. وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية هالة السعيد قالت وقت تدشين البرنامج نهاية العام الماضي، إنه يركز على الاستثمار في ثلاثة مناح، الصحة والتعليم والشباب. وقالت، إن خطة ضبط النمو السكاني قائمة على التمكين الاقتصادي للمرأة والفتيات في الفئة العمرية من 18 إلى 45 عاماً، وذلك لتوفير مصدر دخل لهن، ومن ثم تحقيق استقلالية وحق اتخاذ القرار. الخطة التنفيذية التي بدأت العام الحالي وتستمر إلى عام 2023، تستهدف ضبط النمو السكاني من طريق، خفض معدلات الإنجاب وتتضافر في تنفيذه وزارات التخطيط والتنمية الاقتصادية والصحة والسكان والتضامن الاجتماعي والتعاون الدولي والدولة للإعلام، إضافة إلى المجلس القومي للسكان والمجلس القومي للطفولة والأمومة، والمركز الديموغرافي في القاهرة.
وحيث أن ضبط إيقاع الزيادة السكانية لن يتحقق لا بالاكتفاء بإعلانات التوعية ولا بإصدار قرارات ترشيد الإنجاب، لكن عبر منظومة متكاملة تجعل أنصار الإنجاب دون هوادة على قناعة بأن طفلين فعلياً يكفيان، فقد حددت السعيد محاور الخطة الخمسية في ما يلي، التمكين الاقتصادي للسيدات في الفئة العمرية من 18 إلى 45 سنة، والتدخل الخدمي الذي يهدف إلى خفض الحاجة غير المُلباة للسيدات من وسائل تنظيم الأسرة وإتاحتها بالمجان. كما تنص الخدمة على التدخل الثقافي والتعليمي والإعلامي. فمثلاً يجري تعيين 1500 طبيبة مُدربة على وسائل تنظيم الأسرة، وتوزيعهن على المنشآت الصحية مع مشاركة وزارة الصحة. كما يجري تدشين حملات لرفع وعي المواطن عبر رسائل ثقافية تبث في وسائل الإعلام ودور العبادة. كما تشتمل الخطة على عاملي التحول الرقمي والتدخل التشريعي، من أجل تيسير تحقيق هدف الضبط السكاني.
كفاية 2
الضبط السكاني يحمل شعار "كفاية 2"! وعلى الرغم من أن رقم اثنين ظل حلماً يراود القائمين على أمر حملات تنظيم الأسرة في مصر منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، إلا أنه ظل عصياً على التحقيق. فعادات وتقاليد اعتبار كثرة العيال عزوة، وأن العيّل يأتي برزقه من السماء، متجذرة منذ قرون. وساعد على تجذر العادات وتحجر التقاليد إضفاء قدسية دينية عليها منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، وذلك بتصاعد حدة خطاب ديني يحرم فكرة التنظيم ويروج للكثرة العددية من دون التفات إلى جودة المحتوى.
المحتوى السكاني حيث الكم على حساب الكيف، وضخ ملايين العيال كل عام إلى سوق العمل من دون هوادة أو تفكر أو تدبر أو حساب بدائل للمستقبل،
وأحياناً إنجابهم خصيصاً لهذا الغرض وكأنهم رؤوس أموال تسير على قدمين، أو قرابين تقدم للسماء للعاملين بمبدأ "العيّل بييجي برزقه" لا يعير اهتماماً كافياً للجودة تاركاً القنبلة تنفجر في وجوه الجميع. وأول المنفجرة في وجوههم، هم الأطراف الممولة لعمليات ضخ العيال، وعلى رأسها الدولة ودافعو الضرائب ممن اكتفوا بطفل أو طفلين. هؤلاء فوجئوا بأموال ضرائبهم تذهب لدعم من اختاروا أن يتخذوا من عيالهم أرقاماً تدر بضعة جنيهات إضافية، لتتفاقم المشكلات وتدق الساعة السكانية في شارع صلاح سالم معلنة قدوم مزيد من السكان.
سكان مصر كسروا حاجز الـ102 مليون نسمة قبل أيام قليلة. كسر الحاجز لا يعني عدم حدوث تراجع في منحنى الزيادة. الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يقول في بيان له، إن هذا الرقم يعني استمرار التراجع في منحنى أعداد الزيادة الطبيعية للمواليد، إذ تزايدت الفترة الزمنية التي تتحقق فيها زيادة سكانية بمليون نسمة خلال 2018-2020، وهو مؤشر جيد على حدوث انخفاض في معدل الزيادة.
وبلغة الأرقام، انخفض إجمالي المواليد بنحو 72 ألف مولود في عام 2020 مقارنة مع عام 2019، وتحققت زيادة سكانية قدرها مليون نسمة خلال 275 يوماً، وهو ما يعني أن المصريين ينتجون حالياً فرداً كل 24 ثانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثواني مصر الثمينة
ثواني مصر الثمينة جاري النظر إليها بشكل مختلف. وبدلاً من التركيز على العداد وساعته السكانية حيث إنتاج فرد كل 24 ثانية فقط، تتحول الدفة إلى بوصلة النمو الاقتصادي. فحتى مع التباطؤ الأخير الطفيف في معدل الزيادة، إلا أنها تتطلب معدلات نمو تصل إلى 8 في المئة تقريباً، حتى يخف الضغط ولو قليلاً على مؤشرات النمو والفقر والبطالة.
البعض ينسب هذا التباطؤ إلى الوباء الذي ربما خفض نسب الزواج، لكن الأرقام لا تشير إلى ذلك. الانخفاض الطفيف في المواليد سببه يرتبط بخطوات إعادة ترتيب منظومة الدعم، ليذهب فقط لمستحقيه مع التلميح إلى قرب تقنين أعداد المستفيدين من الدعم التمويني واقتصاره على ثلاثة أطفال في الأسرة الواحدة. من جهة أخرى، فإن دحض أكذوبة "العيّل بييجي برزقه" ومواجهة منهج "العيّل مسؤولية الحكومة" عبر سياسات حاسمة مفادها أن المواطن العادي لم ولن يشعر بمردود الإصلاح الاقتصادي طالما زيادة المواليد تلتهم أية إصلاحات أولاً بأول بدأ يؤتي ثماره. الرسائل الحكومية الحالية مفادها أن عشوائية الإنجاب انتهى زمانها.
عشوائية التعامل مع منظومة الزيادة السكانية على مدار عقود وصلت أقصاها عقب أحداث عام 2011، والفوضى السياسية والاجتماعية التي سادت بعدها. وزاد عام من صعود تيارات الإسلام السياسي لسدة الحكم من تعقد المسألة في ضوء توجهاتهم الأيديولوجية المشجعة للزيادة والمعارضة لتنظيم الأسرة.
منوال الزيادة الخطرة
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يدق بين الحين والآخر على قنبلة البلاد السكانية. وقبل أيام، تساءل الرئيس مستنكراً "هل سيستمر النمو السكاني بهذه الطريقة؟"، محذراً من أن الزيادة السكانية بالمنوال الحالي أمر "في منتهى الخطورة". وقال إن تعداد المصريين زاد 20 مليون نسمة تقريباً خلال العشر سنوات الماضية. كما ربط بين ظاهرة التعدي على الأراضي الزراعية ببناء العمارات السكنية وبين النمو السكاني، حيث الطلب المتزايد على أماكن السكن، لا سيما في الريف، حيث تفضيل الأسرة لسكن الأبناء معهم بعد الزواج والإنجاب.
بناء مزيد من الطوابق واقتطاع مزيد من الأراضي الزراعية هو استدعاء لمزيد من الخراب الاقتصادي. فاقتطاع الأرض الزراعية يعني إنتاجاً أقل وأسعاراً أعلى ومعاناة أكبر ودعماً أقل، وهو ما ترد عليه ملايين الأسر بإنجاب مزيد من الأطفال باعتبارهم رؤوس أموال في سوق عمالة الأطفال.
لكن الدائرة المفرغة لا يمكن أن تستمر في استحكامها. والزيادة السكانية (كما أشار السيسي)، تعني استنزاف موارد الدولة لتوفير احتياجات السكان، لا سيما في ما يختص بالدعم. واستمرار الزيادة العشوائية يعني أن خطط الدعم لن تجدي نفعاً.
النفع الوحيد الذي يمكن أن يحدث هو استمرار انخفاض معدل الزيادة وتسارعه، حتى لا يقتصر على بضعة آلاف من المواليد، بل بضعة ملايين. وبين جهود الدولة لإعادة بناء برامج تنظيم الأسرة ومحاولات سد العجز الشديد في عيادات التنظيم، ومبادرات مثل "كفاية 2"، وحملات طرق الأبواب، لا سيما في الريف والمناطق الشعبية، إضافة إلى برامج تمكين المرأة اقتصادياً عبر مليون مشروع متناهي الصغر، أملاً في تغيير ثقافتها ووعيها وتوجيه جهدها للعمل، ومزيد من الاهتمام لعدد أقل من الأطفال بديلاً عن الإنجاب المتواتر، تغيرت دفة الدولة في التعامل مع القنبلة. الآمال معقودة حالياً على كثير من تغيير الوعي وقليل من ربط الدعم والخدمات بعدد الأطفال في كل أسرة.