تولد الأزمات الكبرى نتائج كبرى، تكون عادة غير متوقعة. هكذا حفز "الكساد الكبير" [في ثلاثينيات القرن العشرين] الانعزالية والقومية والفاشية، ثم الحرب العالمية الثانية. بيد أنه أدى أيضاً إلى "العقد الجديد"، وصعود الولايات المتحدة كقوة عظمى، وبالنتيجة إنهاء الاستعمار. وأدت هجمات 11/9 إلى تدخل أميركا مرتين على نحو فاشل، وصعود إيران، وظهور أشكال جديدة من التطرف الإسلامي. وأفرزت الأزمة المالية في 2008 طفرة في الشعبوية المضادة للمؤسسة [أي المؤسسة السياسية كمفهوم يشمل الدولة والأحزاب وغيرها]، ما أدى إلى تغيير الزعماء في أنحاء العالم. وعلى نحوٍ مشابِه، سيتقصى المؤرخون في المستقبل الآثار الكبيرة لجائحة فيروس كورونا. ويكمن التحدي في اكتشاف تلك التداعيات قبل حصولها.
هكذا، بات واضحاً فعلياً السبب في كون بعض الدول أكثر نجاحاً من غيرها في التعامل مع الأزمة [كورونا] حتى الآن، وثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن تلك الاتجاهات ستستمر. لا يتعلق الأمر بنوع النظام، فقد أبلت بعض الديمقراطيات بلاءً حسناً، خلافاً لبعضها الآخر، وينطبق التباين نفسه على الأنظمة الاستبدادية أيضاً. وتمثلت العناصر المسؤولة عن نجاح الاستجابة للجائحة في قدرة الدولة والثقة الاجتماعية والقيادة. واستطاعت الدول التي تمتعت بعناصر النجاح الثلاثة، فكان لديها أجهزة دولة كفؤة، وحكومة يثق المواطنون بها ويصغون إلى ما تقوله، وقادة فاعلون، أن تؤدي أداءً يستحق الإعجاب، وتقلل الضرر الذي عانت منه [تلك الدول]. في المقابل، ظهر سوء أداء في الدول التي تعاني خللاً وظيفياً، أو استقطاباً في مجتمعاتها، أو ضعفاً في قيادتها، ما ترك مواطنيها واقتصاداتها مكشوفة وضعيفة.
كلما زادت المعلومات المعروفة عن "كوفيد-19"، أي الداء الذي يتسبب به فيروس كورونا المستجد، بدا أن الأزمة ستتمدد لفترة تُقاس بالسنوات وليس بالأشهر. وإذ يبدو الفيروس أقل فتكاً مما كان يُخشى، غير أنه شديد العدوى، وغالباً ما ينتقل بين الأشخاص من دون ظهور أعراض. في المقابل، فإن فيروس "إيبولا" فتاك للغاية، بيد أنه من الصعب أن يصاب المرء به، وسرعان ما تموت ضحاياه قبل أن تنقله إلى آخرين. في المقابل، يبدو "كوفيد-19" على طرف نقيض من "إيبولا"، ما يعني أن الناس يميلون إلى الاستخفاف به وعدم أخذه على محمل الجد بحسب ما ينبغي، ولذلك فقد انتشر على نطاق واسع في أنحاء العالم وسيواصل تفشيه كي يحصد أعداداً هائلة من الأرواح.
واستطراداً، لن تستطيع دول أن تعلن انتصارها على الداء في وقت من الأوقات، وإنما ستعود الاقتصادات إلى العمل بتمهل وبشكل تدريجي، فيما سيتباطأ التقدم بفعل موجات عدوى لاحقة. وتبدو الآمال بتحقيق انتعاش على شكل حرف "في" V [حاسم وسريع يعيد الوضع إلى ما كانه قبل الأزمة] متفائلة بشكل متهور. ويرجح أن يأتي الانتعاش على شكل حرف "أل" L، بمعنى أن يكون طويلاً ومتأخراً مع منحنى يميل إلى الأعلى عبر سلسلة من موجات الصعود والهبوط. ولن يعود اقتصاد العالم قريباً إلى وضع يشبه في أي شيء ما كانه قبل اندلاع الجائحة.
من الناحية الاقتصادية، ستؤدي الأزمة الممتدة إلى مزيد من حالات فشل الأعمال والدمار لقطاعات كالسفر ومراكز التسوق وسلاسل البيع بالتجزئة. ومنذ عقود، استمرت مستويات تركيز السوق في الاقتصاد الأميركي تتزايد بشكل ثابت، وستدفع الجائحة بذلك الاتجاه بعيداً إلى الأمام. وستكون الشركات الكبيرة ذات الموارد المالية الوفيرة وحدها قادرة على تجاوز المحنة، مع استفادة عمالقة قطاع التكنولوجيا من الأزمة بشكل أكبر من الجميع ، ولا سيما أن التواصل الرقمي بين الناس سيصبح أكثر أهمية من أي وقت في الماضي.
ويمكن أن تزيد أهمية التداعيات السياسية عن نظيراتها الاقتصادية. وقد يُدعى الناس إلى أعمال بطولية من قبيل التضحية الجماعية بالنفس طوال فترة من الزمن، لكن ذلك لن يستمر إلى الأبد. وبشكل محتم، سيؤدي الوباء الباقي، وفقدان الوظائف الكبير، والركود الممتد فترة طويلة، مع عبء الدين غير المسبوق؛ إلى توترات ستتحول ردة فعل سياسية، ضد جهة ليس من الواضح حتى الآن من ستكون.
وسيستمر التوزيع العالمي للسلطة في الانتقال شرقاً، ولا سيما أن شرق آسيا بدت أفضل من أوروبا والولايات المتحدة في إدارة الوضع [المتعلق بجائحة كورونا]. وعلى الرغم من أن الجائحة قد ظهرت أصلاً في الصين التي تسترت عليها بادئ الأمر وسمحت لها بالانتشار، فإن بكين ستستفيد من الأزمة، نسبياً على الأقل. في الواقع، جاء أداء الحكومات الأخرى في البداية ضعيفاً وحاولت التستر على الجائحة أيضاً، وبوضوح أشد، ما أدى إلى الفتك بمزيد من مواطنيها. وعلى الأقل، استطاعت بكين، استعادة السيطرة على الوضع وتنتقل حالياً إلى مواجهة التحدي الثاني، أي مساعدة اقتصادها في الوقوف على قدميه من جديد بسرعة وبشكل مستدام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلافاً لذلك، ردت الولايات المتحدة [على الجائحة] بشكل غير متقن وسيئ، الأمر الذي أدى إلى ضياع قدر هائل من هيبتها. إذ تتمتع أميركا بإمكانات هائلة من حيث قدرات الدولة، وقد حققت عبر معالجة الأزمات الوبائية الأخرى سجلاً جديراً بالإعجاب. في المقابل، مُنِعَت الدولة الأميركية من العمل على نحو فاعل بأثر من مجتمعها الشديد الاستقطاب حاضراً ورئيسها [ترمب] غير الكفء. عمق الرئيس الانقسام بدلاً من أن يعزز الوحدة، وعمل على تسييس عملية توزيع المساعدات، كذلك ألقى مسؤولية اتخاذ قرارات مهمة على حكام الولايات، فيما شجع الاحتجاجات ضدهم لأنهم حاولوا حماية الصحة العامة. وهاجم أيضاً المؤسسات العالمية المعنية عوضاً عن أن يسعى إلى تحفيزها. وتمكن العالم من متابعة الحوادث على شاشات التلفزيون أيضاً، وقد وقف مذهولاً، فيما سارعت الصين إلى توضيح المقارنة بينها وبين الآخرين.
إذاً، يمكن للوباء أن يؤدي على امتداد السنوات المقبلة إلى تدهور نسبي للولايات المتحدة، واستمرار تآكل النظام الدولي الليبرالي، وانبعاث الفاشية من جديد حول العالم. واستطراداً، سيكون بمقدوره أيضاً أن يفضي إلى ولادة جديدة للديمقراطية الليبرالية، وهي نظام أربك المشككين مرات عدة، وأظهر قدرات لافتة على المرونة والتجديد. وستبرز عناصر من كلتا الرؤيتين في أماكن مختلفة. لكن لسوء الحظ، ما لم تتغير الاتجاهات الحالية بشكل كبير، فإن التوقعات العامة ستكون قاتمة.
ردت الولايات المتحدة [على الجائحة] بشكل غير متقن وسيئ، الأمر الذي أدى إلى ضياع قدر هائل من هيبتها.
صعود الفاشية؟
من السهل تخيل نتائج تدعو إلى التشاؤم. إذ تتعزز القومية والانعزالية وكراهية الأجانب، فيما تتزايد الهجمات على النظام الليبرالي العالمي منذ سنوات. ولن تؤدي الجائحة إلا إلى تسريع ذلك التوجه. وقد استغلت الحكومات في المجر والفيليبين الأزمة كي تمنح نفسها سلطات الطوارئ ما أدى إلى إمعانها في التخلي عن الديمقراطية أكثر مما مضى. واتخذت دول كالصين وسلفادور وأوغندا إجراءات مماثلة. هكذا، ارتفعت الحواجز في وجه حركة الناس في كل مكان، بما في ذلك قلب أوروبا نفسه. وبدلاً من أن تتعاون الدول بشكل بناء من أجل المنفعة المشتركة، فقد انطوت على نفسها، وتشاجرت مع بعضها بعضاً، واتخذت من خصومها السياسيين أكباش فداء عن أخطاء ارتكبتها بنفسها.
وبالتالي، سيعزز صعود القومية في الداخل احتمالات وقوع صراعات عالمية. وقد يرى قادة أن القتال مع دول أجنبية يفيد سياسياً في تحويل الأنظار محلياً، أو قد يغريهم ضعف أو انشغال خصومهم فينتهزون فرصة تفشي الجائحة من أجل زعزعة استقرار مناطق تعتبر أهدافاً مفضلة لديهم، أو خلق حقائق جديدة على الأرض. ومع ذلك، فنظراً إلى قدرة الأسلحة النووية المستمرة على تثبيت الاستقرار والتهديدات المشتركة التي تواجه اللاعبين الكبار معاً، فإن الاضطرابات العالمية أقل احتمالاً من الاضطرابات المحلية.
ستتضرر كثيراً الدول الفقيرة التي يكون لديها مُدنٌ تغص بالسكان مع أنظمة ضعيفة في الصحة العامة. ومن الصعوبة بمكان تطبيق التباعد الاجتماعي، أو حتى التزام قواعد النظافة البسيطة كغسل اليدين، في دول لا يحصل فيها عديد من المواطنين بانتظام على المياه النظيفة. وبدلاً من تغييرها نحو الأفضل، غالباً ما جعلت الحكومات الأمور أكثر سوءاً، إما بشكل متعمد من خلال تحريض التوترات الاجتماعية وإضعاف التماسك الاجتماعي، وإما ببساطة بسبب عدم كفاءتها. ومثلاً، أمعنت الهند في إضعاف نفسها حينما أعلنت عن إغلاق مفاجئ على مستوى البلاد من دون التفكير في تداعيات ذلك على عشرات الملايين من العمال المهاجرين الذين يتجمعون في كل مدينة كبيرة. وذهب كثيرون إلى منازلهم الريفية فنشروا المرض في أنحاء البلاد. وحين اتخذت الحكومة موقفاً معاكساً وبدأت في فرض قيود على الحركة، سرعان ما وجد عديد من الناس أنفسهم محاصرين في المدن من دون عمل، أو ملجأ أو رعاية.
في ملمح متصل، لقد شكل النزوح الناجم عن التغير المناخي أزمة تتطور ببطء في جنوب الكرة الأرضية. وستفاقم الجائحة من تأثير تلك الأزمة، وتدفع أعداداً كبيرة من السكان في دول نامية إلى شفير العيش على حد الكفاف. وقد نسفت الأزمة أحلام مئات ملايين الناس في دول فقيرة ممن استفادوا أثناء عقدين من النمو الاقتصادي المستدام. وبالتالي، سيتأجج الغضب الشعبي، وتخيب آمال المواطنين المتنامية ما يشكل في النهاية وصفة كلاسيكية للثورة. سيسعى اليائسون إلى الهجرة، فيما سيستغل القادة الغوغائيون الموقف للاستيلاء على مزيد من السلطة، بينما سينتهز السياسيون الفاسدون الفرصة لسرقة ما يستطيعون سرقته، وستعمد حكومات كثيرة إلى تضييق الخناق أو ستنهار. وفي غضون ذلك، ستلقى موجة هجرة جديدة من الجنوب إلى الشمال، تعاطفاً أقل ومقاومة أكبر مما حدث في المرات السابقة، خصوصاً أن المهاجرين يمكن أن يُتهموا وبشكل يتسم بمصداقية أكبر، بأنهم يجلبون المرض والفوضى معهم.
وأخيراً، لا يمكن التنبؤ بظهور ما يسمى "البجعات السود" [يطلق تعبير "البجعة السوداء" على الحدث الذي يقع بشكل يعاكس المنطق والتوقعات المدروسة] بحسب تعريفها، بيد أنها ستغدو مرجحة بشكل متزايد كلما وسع المرء نطاق بحثه. في الماضي، عززت الأوبئة رؤى مروعة، وبِدَعاً وأدياناً جديدة، تتنامى بسبب القلق الشديد الناجم من فترات عُسر متطاولة. في الواقع، يمكن النظر إلى الفاشية على أنها إحدى البدع المنبثقة من أوضاع العنف والتفكك اللذين نجما عن الحرب العالمية الأولى وما تلاها. وقد اعتادت نظريات المؤامرة أن تزدهر في أماكن كالشرق الأوسط، حيث حُرِمَ أناس عاديون من القوة، وشعروا أنهم غير قادرين على التصرف باستقلالية. وحاضراً، انتشرت تلك النظريات على مستوى واسع في أنحاء دول غنية أيضاً. ويرجع السبب في ذلك جزئياً إلى البيئة الإعلامية المتصدعة بفعل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى أن المعاناة المتواصلة توفر مادة خصبة يستغلها الشعبويون الديماغوجيون.
أم أنها ديمقراطية مرنة؟
مع ذلك، فعلى غرار ما أدى "الكساد الكبير" إلى تنشيط الديمقراطية الليبرالية ولم يقتصر تأثيره على خلق الفاشية، فقد تقود الجائحة أيضاً إلى بعض النتائج السياسية الإيجابية. وغالباً ما تطلب الأمر مثل تلك الصدمة الخارجية كي تُحرر الأنظمة السياسية المتصلبة من حالة الجمود التي تعيشها، وتُخلق الظروف المناسبة لتحقيق إصلاح بنيوي طال انتظاره. ومن المرجح أن يتكرر ذلك النمط مرة أخرى ضمن بعض الأمكنة، في الأقل.
تقف الحقائق العملية التي ينطوي عليها التعامل مع الجائحة إلى جانب الاحترافية والخبرة، ويجري فضح الديماغوجية وعدم الكفاءة بسهولة. وذلك من شأنه في نهاية المطاف أن يخلق تأثير اختيار مفيد يُكافئ السياسيين والحكومات التي تبلي بلاءً حسناً ويعاقب أصحاب الأداء الضعيف. لقد حاول خافير بولسانارو الذي عمل بانتظام على إفراغ المؤسسات الديمقراطية في بلاده من محتواها، أن يشق طريقه بالخداع على امتداد الأزمة، لكنه يتخبط حالياً ويحمل على عاتقه مسؤولية كارثة صحية. وكذلك سعى فلاديمير بوتين إلى التقليل من أهمية الجائحة بادئ الأمر، ثم ادعى أن روسيا قد سيطرت عليه، ويتوجب عليه أن يغير نبرته مجدداً مع انتشار "كوفيد-19" في أنحاء البلاد. وقبل الأزمة، بدأ الضعف يدب في شرعية بوتين فعلياً، وربما تسارعت وتيرة ذلك الضعف.
لقد سلطت الجائحة الضوء على المؤسسات السائدة أينما كانت، كاشفة عن ضعفها وعدم كفاءتها. وعمقت الأزمة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، شعوباً ودولاً، وستزداد تلك الفجوة اتساعاً خلال فترة الركود الاقتصادي الممتدة. وإلى جانب تلك المشكلات، أزاحت الأزمة الستار أيضاً عن قدرة الحكومة على توفير حلول، والاتكاء على الموارد الجماعية في سياق تلك العملية. ويمكن للشعور الباقي في دولة ما بأننا "معاً وحدنا" أن يعطي مزيداً من الزخم للتضامن الاجتماعي، ويقود عملية تطوير حمايات اجتماعية أكثر سخاءً في المستقبل، تماماً مثلما تعاونت المعاناة الوطنية المشتركة الناجمة عن الحرب العالمية الأولى، وكذلك "الكساد الكبير"، على حفز نمو دولة الضمان الاجتماعي في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته.
واستطراداً، قد يؤدي ذلك إلى إثبات عدم صحة الأشكال المتطرفة من النيوليبرالية التي تمثل أيديولوجية اقتصاد السوق التي ابتكرها اقتصاديو جامعة شيكاغو من أمثال غاري بيكر وميلتون فريدمان وجورج ستيغلر. قدمت مدرسة شيكاغو في ثمانينيات القرن العشرين تبريراً فكرياً لسياسات الرئيس الأميركي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، اللذين اعتبرا أن الحكومة الكبيرة المتطفلة تشكل عقبة في وجه النمو الاقتصادي والتقدم البشري. في ذلك الوقت، توفرت أسباب وجيهة في تقليص عدد من أشكال الملكية والتنظيم الحكوميين. في المقابل، باتت تلك الحجج أشد تزمتاً فكأنها تحولت إلى ديانة ليبرالية، وغرست العداء حيال عمل الدولة في جيل من المثقفين المحافظين، خصوصاً في الولايات المتحدة.
ونظراً إلى أهمية الإجراءات القوية التي تتخذها الدولة من أجل إبطاء انتشار الوباء، سيكون من الصعب أن تجادل، على غرار ما فعل ريغان في خطاب تنصيبه الأول، أن "الحكومة ليست الحل لمشكلتنا، الحكومة هي المشكلة". كذلك لا يستطيع أحد طرح حجة مقبولة يكون مفادها أن القطاع الخاص والعمل الخيري يستطيعان الحلول محل دولة كفؤة أثناء حالة طوارئ وطنية. لقد أعلن جاك دورسي، الرئيس التنفيذي لموقع "تويتر" أنه سيتبرع بمليار دولار لمصلحة جهود الإغاثة من "كوفيد-19"، وذلك عمل خيري استثنائي. وخصص الكونغرس في الشهر نفسه 2.3 تريليون دولار (1.66 تريليون جنيه استرليني) لدعم الشركات والأفراد المتضررين من الجائحة. قد تبقى نزعة العداء للسامية حاضرة في أوساط أولئك الذين يحتجون على الإغلاق، إلا أن استطلاعات الرأي توحي بأن الغالبية الساحقة من الأميركيين تثق بنصيحة خبراء الحكومة الطبيين في التعامل مع الأزمة. ويمكن أن يرفع ذلك مستوى دعم تدخل الحكومة من أجل معالجة المشكلات الاجتماعية الرئيسة.
وقد تدفع الأزمة في نهاية المطاف باتجاه تجديد جهود التعاون الدولي. وفيما يمارس القادة الوطنيون لعبة إلقاء اللوم، يعزز العلماء ومسؤولو الصحة العامة عالمياً شبكاتهم واتصالاتهم. وإذا أدى انهيار التعاون الدولي إلى كارثة ونُظرَ إليه [الانهيار] بوصفه فشلاً، فقد تشهد الحقبة التي تلي ذلك التزاماً متجدداً بالعمل المتعدد الأطراف بغية تحقيق المصالح المشتركة.
باتت العلاقة بين الخبرة التكنوقراطية والسياسة العامة أشد ضعفاً اليوم مما كانت عليه في الماضي، حين تمتعت النخب بسلطة أكبر.
لا تحلم أحلاماً كبيرة
جاء الوباء أشبه باختبار إجهاد سياسي عالمي. ولسوف تجتازه بنجاح نسبي دول تتمتع بحكومات شرعية وقادرة، ربما تتبنى إصلاحات ستجعلها أقوى وأكثر مرونة، وبالتالي ستتيح لها أن تتفوق في أدائها مستقبلاً. في المقابل، ستحدث مصاعب في البلدان التي تكون الدولة ضعيفة فيها أو قياداتها غير كفؤة، وستكون عرضة للركود الاقتصادي، إذا لم تواجه الإفقار وعدم الاستقرار. وتكمن المشكلة في أن عدد الدول الأعضاء في المجموعة الثانية أكبر بكثير من الأولى.
واستطراداً، لقد جاء اختبار الإجهاد [الذي مثلته الجائحة] قاسياً للغاية للأسف، ما يعني أن عدداً صغيراً من الدول ستجتازه، على الأرجح. لم تكن البلدان بحاجة إلى مجرد دول قادرة وموارد كافية من أجل التعامل بنجاح مع المراحل الأولى في الأزمة، بل افتقدت أيضاً مقداراً كبيراً من التوافق الاجتماعي والقادة الأكفاء ممن يبعثون على الثقة. وربما لبت كوريا الجنوبية تلك الحاجة بوصفها البلد الذي فوض إدارة الجائحة إلى البيروقراطية الصحية الاحترافية، وكذلك اعتمدت ألمانيا بقيادة أنغيلا ميركل، مساراً مشابهاً. في المقابل، شكل إخفاق الحكومات بطريقة أو بأخرى، الأمر الأكثر شيوعاً. وستتواصل تلك الاتجاهات باعتبار أن إدارة ما تبقى من الأزمة ستكون صعبة، الأمر الذي يجعل التفاؤل على نطاق واسع صعباً أيضاً.
ثمة سبب آخر للتشاؤم يتجسد في أن السيناريوهات الإيجابية تفترض نوعاً من الخطاب العام العقلاني، والتعلم الاجتماعي. وعلى خلاف ذلك، باتت العلاقة بين الخبرة التكنوقراطية والسياسة العامة، أشد ضعفاً اليوم مما كانت عليه في الماضي، حين تمتعت النخب بسلطة أكبر.
أدت دمقرطة السلطة التي حفزتها الثورة الرقمية إلى هدم التسلسل الهرمي المعرفي إلى جانب التسلسلات الهرمية الأخرى، وصارت صناعة القرار السياسي غالباً مدفوعة بالثرثرة التي تستعمل سلاحاً. ويعتبر ذلك بالكاد مناخاً مثالياً لإجراء اختبار ذاتي بناء وجماعي، وقد تظل بعض الأنظمة السياسية غير عقلانية طيلة فترة أطول من المدة التي تكون فيها قادرة على الوفاء بالتزاماتها.
واستكمالاً، تشكل الولايات المتحدة العامل المتغير الأكبر. ولقد امتلكت البلاد حظاً عاثراً فعلاً بسبب تولي أقل القادة كفاءة وأكثرهم قدرة على بث الفرقة في التاريخ الحديث مقاليد السلطة في البلاد حين اندلعت الجائحة، ولم يتغير أسلوبه في الحكم تحت وطأتها. وبعدما أمضى ولايته في حرب مع الدولة التي يرأسها، لم يكن قادراً على نشر قدرات الدولة بشكل فاعل حين استدعى الوضع ذلك. وبعدما قرر أن أفضل سبيل لخدمة حظوظه السياسية يتألف من الصراع والضغينة بدلاً من الوحدة الوطنية، استعمل الأزمة في إثارة نزاعات مع آخرين وتعميق الانقسامات الاجتماعية. ويعود ضعف الأداء الأميركي خلال الوباء إلى أسباب عدة، لكن أهمها على الإطلاق تمثل في القائد الوطني الذي فشل في القيادة.
وإذا انتُخِبَ الرئيس لولاية ثانية في نوفمبر (تشرين الثاني)، فستتراجع فرص انبعاث الديمقراطية أو النظام الدولي الليبرالي. لكن سيستمر الاستقطاب العميق في الولايات المتحدة على الأرجح، أياً كانت نتيجة الانتخابات.
سيكون إجراء انتخابات خلال الجائحة أمراً صعباً، وثمة حوافز تدفع الخاسرين الساخطين إلى الطعن بشرعيتها. وحتى إذا فاز الديمقراطيون بالبيت الأبيض ومعه مجلسي الشيوخ والنواب، فإنهم سيرثون بلاداً راكعة على ركبتيها. ستواجه المطالب لاتخاذ إجراءات عملية جبالاً من الديون فضلاً عن المقاومة العنيفة من جانب المعارضة. كذلك ستكون المؤسسات الوطنية والدولية ضعيفة ومترنحة جراء سنوات من الانتهاكات، وستستغرق إعادة بناء تلك المؤسسات سنوات طويلة، إن أمكن إعادة بنائها على الإطلاق.
كخلاصة، يتجه العالم نحو طريق طويل ومؤلم، بعد انقضاء أكثر المراحل إلحاحاً ومأساوية. وسيجتاز العالم ذلك الطريق في النهاية، وستكون بعض أرجائه أسرع في تخطيه من غيرها. ليس من المرجح حصول اضطرابات عالمية عنيفة، وقد أثبتت الديمقراطية والرأسمالية والولايات المتحدة أنها قادرة على التحول والتكيف. في المقابل، سيتعين عليهم مرة أخرى أن يسحبوا أرنباً من القبعة.
مترجم من فورين أفيرز، أغسطس (آب)/ سبتمبر (أيلول)2021