تزايدت في الآونة الأخيرة ظاهرة الانتشار الكثيف للمتسولين في شوارع وطرقات معظم مدن السودان الكبيرة، بخاصة العاصمة الخرطوم، كأحد إفرازات الوجود الأجنبي غير المنظم، وهجرة معظم البؤساء من الفئات الفقيرة المسحوقة من دول الجوار الأفريقي، الذين قدرت أعدادهم في 2012 بأكثر من ثلاثة ملايين نسمة، فيما تشير تقارير إلى زيادة كبيرة طرأت على هذا العدد منذ ذلك الوقت وحتى الآن، مما يلقي بظلال سلبية على مظهر العاصمة، الذي أصبح مهدداً للأمن والتركيبة السكانية، بل ويلامس حتى عصب الهوية الوطنية.
يتخذ معظم هؤلاء الوافدين، الذين يتقاسمون الخدمات الشحيحة مع المواطن السوداني، التسول مهنة وسوقاً أحكموا قبضتهم عليها، وينتشرون بصورة رئيسة في تقاطعات الطرق، ومداخل دور العبادة والمستشفيات، والمؤسسات العلمية، وتجمعات المواصلات، إلى جانب الأسواق والأماكن العامة، ويطرقون حتى أبواب البيوت.
ويستخدم المتسولون أساليب عدة، منها المباشر وغير المباشر، كالطلب الصريح للمساعدة، أو باستخدام المستندات، أو تلاوة القرآن والمدائح والقصائد النبوية، أو بحجة ظرف طارئ، واستدرار العطف بحمل الأطفال الرضع، واستصحاب آخرين، والتشبث بملابس المارة، فضلاً عن أساليب غير مباشرة كمسح زجاج السيارات، وتسوية الحفر في الشوارع، وطلب مقابل لذلك من أصحاب السيارات.
التسوُّل المنظم
يشير مختصون في مجال الهجرة واللجوء إلى أن الوضع الحالي لظاهرة التسول في الخرطوم أضحى أبعد بكثير من كونه مجرد انحراف سلوكي بدافع الحاجة في صيغته الاجتماعية، لكنه يتعدى ذلك إلى كونه أصبح عملاً منظماً، تقوده مجموعات مشبوهة صارت تغزو الخرطوم بكثافة، أبطالها الظاهرون أطفال ونساء أجانب، يستقدمون بطرق غير شرعية للعمل عبر شبكات منظمة في ممارسة التسول كمهنة تدر دخلاً مقدراً، وتدار بواسطة زعماء، كما لها عالمها الخاص وطرق وأساليب عملها، وأيضاً نظم وقواعد تحكم تحركاتها لتوزيع مواقع أفرادها وأنصبتهم اليومية من التسول.
يُجمِع المختصون والمراقبون على أن الظاهرة هي أحد إفرازات الوجود الأجنبي غير الشرعي بالسودان عموماً، والعاصمة الخرطوم خصوصاً، لدرجة باتت تشكّل هاجساً أمنياً وعبئاً، مضافاً إلى معاناة ومشكلات سكان العاصمة السودانية التي صارت تعج بمزيج من جنسيات دول الجوار ممن دخلوا البلاد بطرق ملتوية عبر الحدود في مخالفة صريحة للقوانين، وعلى رأسها قانون الجوازات والهجرة، ويتجولون داخل البلاد من دون جوازات للسفر أو أي مستندات رسمية للهوية، وبعضهم لا تعرف هويته أو جنسيته إلا من خلال لهجته أو ملامحه أو اعترافه الشخصي بجنسيته، وما يفاقم الأمر وجود سودانيين يساعدون في تقديم تسهيلات لعمليات التهريب أو الاتجار بالبشر بصورة باتت ملفتة في الآونة الأخيرة، بخاصة بمناطق شرق السودان.
العالم الخفي نظم وصفقات
وفي تجربة عايشها الصحافي والباحث في مجال الجريمة، عوض عدلان، بانتحاله صفة متسول والعيش وسطهم ثلاثة أسابيع كواحد منهم، يصف مجتمع المتسولين في الخرطوم بأنه عالم خاص يختلف تماماً عن ذلك الظاهر، ذلك أن المخفي منه واللا مرئي أكثر بكثير مما يراه ويعرفه الناس، فهم يفضلون التعامل مع فئات محددة من المجتمع، ترتبط بمهنتهم مثل سماسرة العربات وصغار التجار الذين يوفرون لهم الفئات الصغيرة من العملات أو ما يعرف بالفكة أو "الفراطة"، وتحويل مدخراتهم إلى فئات عملات كبيرة، كما أنهم يتزوجون فيما بينهم بطرق خاصة وسرية، فضلاً عن أن مصروفاتهم الشخصية قليلة جداً، فهم في الغالب يأكلون ويتنقلون مجاناً، بينما يدخرون حصائل تسولهم، ويرسلها البعض إلى أهاليهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كشف عدلان عن أن هناك عصابات تعمل في مجال التسول المنظم، وتقسم دوائر العمل على أفرادها أو مجموعاتها، لكل منها حدوده الجغرافية التي يعمل فيها، ويمنع على الآخرين الاقتراب منها أو التعدي عليها. مشيراً إلى أن تلك العصابات تستقدم الفئات الفقيرة من دول الجوار، وتتحمل تكلفة ترحيلهم إلى داخل البلاد، وتوفر لهم الملاذ والسكن ووسائل الترحيل الداخلي، وذلك مقابل نسبة متفق عليها من حصيلة التسول، حتى أضحى الاتفاق على الاستقدام للتسول في السودان ضمن صفقات يُتفق عليها مسبقاً خارج الحدود.
يضيف عدلان، "يحدث في بعض الأحيان أن تفقد تلك العصابات سيطرتها على مجموعة من الأفراد المتسولين لصالحها، عليها بعد أن تتوطد معرفتهم بالبلد، فيتمردون ويقررون العمل لمصلحتهم الخاصة، مما يضطر تلك العصابات إلى استجلاب متسولين جدد".
عصابات وأكثر من جريمة
في السياق يقول خالد لورد، عميد معهد دراسات الهجرة واللجوء والتنمية بجامعة المغتربين، المدير العام السابق لمركز دراسات الهجرة التابع لمجلس الوزراء، لـ"اندبندنت عربية"، "ما نشاهده في شوارع الخرطوم ليس مجرد تسول، بل هو ممارسة التسول كمهنة وفقاً لما كشفت عنه أكثر من دراسة، ويمثل جريمة يعاقب عليها القانون، ويمكن تصنيفه ضمن عمليات الاتجار بالبشر".
وأضاف، "كثير مما يجري من ممارسات في هذا الجانب يندرج تحت مفهوم التسول القسري، وهو أحد أنواع الاتجار بالبشر بتوافر عناصره الثلاثة المعروفة، وهي الفعل (المتمثل في النقل)، والوسيلة (التجنيد والخداع والترهيب)، ثم الغاية، وهي الاستغلال"، مبيناً أن البروتوكول المكمل لاتفاقية الجريمة العابرة للوطنية، يوضح أن "الحد الأدنى للاستغلال يتمثل في تجارة الأعضاء والسخرة، ومن ضمنها التسول القسري".
ويضيف المتخصص في شؤون الهجرة أن هناك عصابات منظمة كشفت عنها دراسات تقوم بإدارة شبكات التسول، من خلال السيطرة والتحكم فيمن يقومون بهذا النشاط، بتوزيعهم على الشوارع ونقاط العمل في مناطق معينة، وتقوم في نهاية كل يوم بتجميعهم ونقلهم إلى أماكن السكن، مما يعد دون شك تسولاً قسرياً واضحاً يصنف كجزء أصيل من عملية الاتجار بالبشر.
التسول القسري اتجار بالبشر
وطالب المدير السابق لمركز دراسات الهجرة الحكومة بتفعيل قانون مكافحة الاتجار بالبشر لسنة 2014، الذي يجرم التسول القسري، وإحكام إدارة الحدود، لأن "الفشل فيها هو السبب الرئيس في تدفقات الهجرة العشوائية التي تهدد الاقتصاد والصحة العامة، وتنشر الجريمة المنظمة العابرة للوطنية، ويحوِّل السودان إلى معبر للدول الأخرى". مشيراً إلى أن التقرير السنوي لمكتب الأمم المتحدة للجريمة والمخدرات كشف عن أن أكثر الفئات المعرضة للاستغلال هم النساء والأطفال بنسبة 70 في المئة على مستوى العالم، وتركز التسول في هاتين الفئتين بالخرطوم يؤكد أنها "جريمة ترتبط بالاتجار بالبشر".
ويردف، "على الرغم من فوائد الهجرة الكثيرة، سواء كانت نظامية أو غير نظامية فردية أو جماعية، فإنها ترتبط بعدة آثار سلبية، أبرزها قضايا تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر، بحيث أصبحتا جزءاً من الجريمة المنظمة العابرة للوطنية، مما اضطر الأمم المتحدة نظراً إلى خطورة هاتين الجريمتين إلى إصدار بروتوكولين لمكافحتها، أحدهما لمكافحة تهريب المهاجرين براً وجواً وبحراً، والثاني لمنع وقمع الاتجار بالبشر، بخاصة النساء والأطفال، والبروتوكولان موقع عليهما من جانب السودان، منوهاً بضرورة تفعيل الأدوات القانونية والمؤسسية اللازمة التي تحارب ممارسة التسول القسري باستخدام الفئات الضعيفة، باعتبارهم ضحايا يساء استغلالهم.
غياب السياسة الوطنية وآلية التنسيق
وعبر عميد معهد دراسات الهجرة عن أسفه لعدم وجود سياسة وطنية للهجرة أو المهاجرين، كما لا يمتلك السودان آلية تنسيق وطنية للهجرة التي ابتكرتها منظمة الإيغاد للتنسيق بين المؤسسات الرسمية المتعددة المعنية ومع شركاء الهجرة، أسوة بدول الإقليم الأخرى، على الرغم من أنه يقع في إقليم يعتبر من أنشط مناطق حزام الحراك السكاني الأكبر في العالم (شرق ووسط أفريقيا والقرن الأفريقي) بمعدل عشرة ملايين نسمة ينتظمون في حراك إما داخل حدود الدولة وإما من المهاجرين الدوليين، كما تتوافر فيه كل أسباب الهجرة من ضعف التنمية والحروب والنزاعات وعدم الاستقرار السياسي، علاوة على التغيرات المناخية، وكل الأسباب المحفزة والمعززة للحراك السكاني كمصطلح يشمل كل أنماط الهجرة المنظمة منها وغير المنظمة.
وانتقد المتخصص في شؤون الهجرة واللجوء ضعف عملية تسجيل الأجانب وغياب مفهوم إدارة الهجرة في وقت يتحدث فيه العالم عن حوكمتها، مما جعل بعض الدول تصدر العاطلين إلى السودان مثل البؤساء والعمالة غير الماهرة في ظل غياب إدارة مُثلى للوضع، إذ بلغ عدد الهجرة غير النظامية في ولاية الخرطوم وحدها نحو ثلاثة ملايين شخص حتى عام 2012.
الانتباه للخطر أخيراً
وفي الآونة الأخيرة لفت تمدد الظاهرة انتباه الدولة لهذا الوضع وضرورة مواجهته باتخاذ إجراءات فعّالة لتنظيم الوجود الأجنبي من خلال تعديلات في القوانين والتشريعات المرتبطة بتنظيمه، وبدأت السلطات المختصة في دوائر الرعاية الاجتماعية والهجرة تستشعر خطورة وضع المهاجرين غير الشرعيين، لا سيما بعد ظهور أنواع جديدة من الجريمة ترتبط بهذا النوع من الوجود.
وفي وقت سابق، كوّنت ولاية الخرطوم لجنة عليا، للحد من ظاهرة التسول بالولاية، تضم إدارات الرعاية الاجتماعية وأمن المجتمع وممثلين لجهات مختصة أخرى رسمية وشعبية، وكثيراً ما صدرت تعليمات وتوجيهات تشدد على حسم ظاهرة التسول وعدم المجاملة في إنفاذ القانون الخاص بمكافحة الظاهرة، وضرورة حصر المتسولين، وتصنيفهم وتقديم مقترحات بحلول جذرية وشاملة للظاهرة، لكن لم تكتب لها الاستمرارية، بحيث تتمكّن من مكافحة الظاهرة أو الحد منها والقضاء عليها.
وعلى الرغم من وجود وحدة متخصصة داخل كيان الشرطة السودانية باسم دائرة الأجانب، درجت على تنظيم حملات من وقت إلى آخر، لكن ظل أثرها محدوداً بحجم القوة الصغيرة والإمكانات الضعيفة، بما لا يمكنها من الإحاطة باتساع الظاهرة وتمددها إلى كل الأحياء والحدود.
كما أن عدم وجود فروع لدائرة الأجانب في الولايات، وفق ما ذكره الفريق شرطة كمال موسى الزين، المدير الأسبق لشرطة شمال كردفان، لوسائل إعلام محلية، فإن الإمكانات الشحيحة تحول دون التحكم والسيطرة على الوجود غير المنظم أو الشرعي، ولن تتمكن دائرة الأجانب بوضعها الحالي من السيطرة عليها من خلال الحملات الموسمية، وسيظل الوضع متفاقماً ومهدداً ومشوهاً.
المحاولات لا تزال مستمرة
وخلال الأسابيع الماضية، تمكنت الإدارة العامة للمباحث والتحقيقات الجنائية من توقيف شبكة إجرامية متخصصة في عمليات الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين من إحدى دول الجوار بولاية القضارف شرق السودان، بواسطة استغلالهم عربة من دون لوحات.
وبحسب المكتب الصحافي للشرطة، فإن الشبكة المضبوطة تنشط في عمليات الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين من إحدى دول الجوار، وأنها كانت بصدد ترحيل الضحايا الذين كانوا محجوزين في مخزن بإحدى القرى النائية، إلى ولاية الخرطوم.
وتتزايد الظاهرة بسبب حدود السودان المفتوحة بطول نحو سبعة آلاف كيلومتر، من دون حواجز طبيعية، ومتاخمة لأكثر من سبع دول، فضلاً عن التداخل القبلي الحدودي، مما يسهل التسلل من دول الجوار والدخول بأعداد كبيرة، من دون أن تستفيد الدولة منهم، بل يتسببون في الأزمات، ويمتهنون كل أنواع المهن، كما تحولوا إلى أدوات تستخدم في جرائم السرقات والنهب والاحتيال وغسل الأموال، إضافة إلى الدجل والشعوذة، وأصبحوا يشكلون مهدداً لكثير من القيم التراثية الوطنية والعادات والتقاليد.