الليالي التي أمضاها الملايين في محاولات يائسة لفض تشابكاته وحل عقده، والأموال التي أنفقها المحبون لشراء الأحدث وقت طرحه وقطع المسافات لشراء ما أحيل منه إلى تقاعد مبكر، أو فقد أصحابه الأمل في استعادة صفاء صوته والاستمتاع بعذوبة ما يحمل من معان وأمان، والمشاعر التي جُرحت، فناله ما ناله من تكسير وتهشيم لمجرد إنه يحوي ذكرى الحبيب أو أمل صار بعيداً، والخطب الحماسية والمواعظ الروحانية وحتى الرسائل الأسرية التي كان لها يوماً ما أثر ومعنى كلها تبخرت في الهواء، مرة أمام هجمة الاسطوانات المدمجة، وأخرى بسبب أجهزة أكثر تعقيداً وأصغر وأذكى من "آي باد" وغيره.
الآن يرقد شريط الكاسيت في سلام في كل تل "كراكيب" في ملايين البيوت حول الكوكب، ولدى باعة الأدوات المستعملة في دول عالم الثالث وفي متاحف ومجموعات المقتنيات الثمينة في دول العالم الأول، لكن هناك أفراداً ممن يمسكون بتلابيب شريط الكاسيت مبقين على غلافه البلاستيكي الرقيق في أفضل حال ممكن، بعيداً من عبث العابثين والغبار العالق في الجو والتكنولوجيا التي تحاصر هذا الشريط الأصيل العتيق من كل صوب وحدب.
شيء غريب
حين خرج الجد أحمد محمود (80 عاماً) عن صوابه للمرة الأولى وصرخ في أحفاده كان السبب شريط كاسيت. الأحفاد، وجميعهم في سن المراهقة، وجدوا "شيئاً غريباً" في "درج جدو". علب بلاستيكية فيها خروم ومنسقة كل منها في غطاء بلاستيكي إما شفاف ومكتوب عليه أسماء أغنيات أو عناوين محتوى، أو مطبوع عليه صورة مطرب أو مطربة "من العصر الحجري".
العصر الحجري المشار إليه يعني أواخر ستينيات وسبعينيات وثمانينيات وجانب من تسعينيات القرن الماضي. أم كلثوم "يا طول عذابي"، محمد عبد المطلب "اسأل مرة علي"، ليلى مراد "باسم الله وباسم الوحدة"، وغيرها كثير مرتبة أبجدياً. وفي صف آخر مجموعة مغلفة مع بعضها البعض وعليها ملصق مكتوب بخط اليد "خطب الزعيم". إلى جوارها صف منسق مكتوب على جميعها اسم الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وكل منها باسم سورة من القرآن الكريم.
وعلى الرغم من أن الأحفاد لم يعبثوا بهذه "الأشياء الغريبة" كما أشاروا إليها، إلا أن الجد خشي على مجموعته النادرة القيمة التي تمثل ذكرياته من حب وطرب وسياسة ودين وأشياء أخرى، فقد طُرحت في الأسواق أشياء أخرى كثيرة تحل محل شريط الكاسيت، لكن الجد يأبى أن يسلم أو يهادن أو حتى ينقل محتوياته الثمينة إلى أسطوانات مدمجة أو ملفات صوتية.
الاختراع الصوتي العزيز
الاختراع الصوتي الأكثر أثراً في حياة وتكوين ووعي مليارات البشر يحتفي اليوم 30 أغسطس (آب) ببلوغه سن الـ 58 عاماً، وعلى الرغم من عدم بلوغه سن التقاعد بعد، إلا أنه أحال نفسه إليه أمام تواتر الابتكارات الصوتية على مدى نصف القرن الماضي.
الاسم المرتبط بشريط الكاسيت العزيز على قلب ووجدان كل إنسان في العقد الخامس من العمر وما فوق هو الهولندي لو أوتنز، الذي عمل على رأس فريق هولندي - بلجيكي ابتكاري في شركة "فيليبس" في مدينة أيندهوفن الهولندية لتطوير شرائط التسجيل الصوتي التي كانت سائدة أوائل الستينيات حتى خرج بالشكل المعروف لشريط الكاسيت.
أوتنز طور الشرائط الضخمة التي كانت مستخدمة حينئذ، فقد كانت التقنية السمعية المستخدمة تعتمد على شرائط مغناطيسية وعرفت بالاسم ذاته، وكانت مصنوعة من الورقة ثم تم تطويرها فباتت تصنع من الـ "بوليستر" والـ "أسيتات" لتقاوم الغبار.
لم يأت الابتكار كمفاجأة غير متوقعة في حياة الهولندي أوتنز، فأثناء الحرب العالمية الثانية واحتلال ألمانيا النازية لهولندا، صنع أوتنز الصغير جهاز راديو لعائلته مزوداً بجهاز هوائي أطلق عليه اسم "الفلتر الألماني"، الذي تغلب على التشويش الألماني على الأثير، وأصبحت العائلة قادرة على الاستماع إلى "إذاعة هولندا أورانج" طوال سنوات الحرب.
وعلى الرغم من أن أوتنز لم يبتكر شريط الكاسيت من العدم بل طوره، إلا أن التطوير الذي أحدثه كان الأكبر والأكثر عملية والأبسط في الاستخدام، وفي مثل هذا اليوم من عام 1963 تم تقديم شريط الكاسيت الجديد في معرض برلين الإذاعي، وفي العام التالي تم عرض الشريط المعجزة في الولايات المتحدة الأميركية. أما اسمه "الشريط المدمج" فقد اكتُسب في العام التالي، وتمكنت شركة "فيليبس" من ابتكار جهاز مشغل للشريط الجديد في وقت قصير وباعت منه نحو 250 ألف جهاز في أميركا وحدها بقدوم عام 1966، وفي خلال أشهر معدودة أصبحت اليابان هي مركز صناعة أجهزة تشغيل الشرائط المدمجة لسنوات طويلة.
الترفيه المحدود
سنوات طويلة ظل فيها شريط الكاسيت مصدراً رئيساً للترفيه في زمن يمكن وصفه اليوم بـ "الترفيه المحدود"، فأن تمتلك "شيئاً غريباً" يمكنك من سماع أغنياتك المفضلة، أو يطلعك على أحدث أغنية صدرت لمطربك المفضل، أو يمنحك ذكرى موثقة لخطبة سياسية تعتبرها رمزاً لأيقونة أيديولوجية أو دينية، أو حتى تسجل عليها صوتك وترسله بالبريد للأهل والأحباب، أو تحتفظ بها برسالة صوتية مرسلة إليه مع الشكر لساعي البريد، فهذا كان غاية المنى وكل الأمل.
كان ذلك في زمن ما قبل الشبكة العنكبوتية التي قربت البعيد وأتاحت المستحيل وجعلت كل ما سبق متاحاً بضغطة زر، لكن شريط الكاسيت أو المدمج نعم بحقبة شباب ذهبية، وعاش حياته بالطول والعرض، وتلقى معاملة الملوك أينما حل لدرجة منعته من الشكوى أو التبرم حين أصدرت الأسطوانات المدمجة قرارها بإحالته إلى معاش مبكر.
سقطات الـ "سف"
لكن يظل الكمال لله وحده، فشريط الكاسيت كانت له سقطاته وهفواته، وكم من قلم رصاص أو جاف بقطر محدد تم دسه في إحدى فتحتي الشريط أو كليهما بالتناوب على أمل إنقاذ الشريط الذي "سف" داخل جهاز التشغيل. وإذا كان الطائر حين يسف فهو يمر على وجه الأرض أثناء الطيران، فإن الشريط الذي "يسف" كان يتمرد ويثور أثناء الدوران فيلتصق ببكرة السحب وتخرج أحشاؤه، مسبباً ما يعرف بهذا الوصف.
"سف" الشريط ظلت مشكلة تؤرق ملايين المستخدمين له على مدى سنوات عزه وسطوته، وكان حلها شبه الوحيد هو محاولة تخليصه من البكرة من دون قطعه، وهنا تبدأ مهمة أخرى تبتكر قوة ملاحظة ومقدار صبر المستخدم، إذ يتوجب عليه فك تعقيدات الشريط الرفيع وربما التصاقه ببعضه، وإذا نجح في الاختبار الصعب فيأتي دور الإصلاح حيث العثور على قلم ذي قطر يسمح بتوسط إحدى فتحتي الشريط، ويبدأ تدويره ليعود الشريط الضال إلى مكانه. صحيح أن نتائج العملية قد تسفر عن رداءة الصوت جراء حدوث خدوش، إلا أن عودة الشريط إلى مكانه كان يعد إنجازاً في حد ذاته.
أما الشريط المقطوع فكان يخضع لجراحات دقيقة تتطلب أنامل ثابتة وقوة إبصار مدهشة، حيث يتم لصق الطرفين المقطوعين بقطعة شريط لاصق يتم قصها بحنكة شديدة ولصقها بحذر بالغ.
الحب والثأر والكاسيت
لكن الحذر لا ينجي من القدر، وقدر العديد من شرائط الكاسيت كثيراً ما ارتبط رغماً عنها بقصص الحب الفاشلة والعشق المجهضة.
في هذه الآونة يتبادل المحبون الأغنيات التي تحمل ذكرى أو رسالة أو حتى عتاب عبر "أبل ميوزيك" أو "شير" من خلال "يوتيوب" و"سبوتيفاي" أو كتابة "لينك" الأغنية على "واتساب" أو عمل "منشن" (ذكر اسم) المحبوب في تدوينة أو ما شابه، وهذا النمط من تبادل الموسيقى والأغنيات يحرم الأحبة والعشاق من متعة الثأر عند انتهاء العلاقة عبر تهشيم شريط الكاسيت بكعب الحذاء أو بالشاكوش وإرساله للمحبوب، ولسان حال الشريط المهشم "إلى الجحيم أنت وشريطك"!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الشريط وجحيمه يقابلهما الشريط وفرصه الكامنة، فقد كان نبعاً متجدداً لا ينضب إلا بالعطب. شرائط الكاسيت الفارغة، أي من دون محتوى صوتي كان يمكن استخدامها عشرات المرات، مرة تسجل عليها أغنية من الإذاعة، وأخرى جزء من حوار مهم مذاع على التلفزيون، وثالثة لتنقل رسالة صوتية إلى الأهل والأصدقاء.
مهمات شريط الكاسيت توسعت وتمددت وخدمت الإنسانية طوال سنوات ازدهاره أو أضرتها، فمع تزايد حركة الهجرة الاقتصادية والتنقل في أرجاء الأرض من قبل ملايين البشر، وفي ظل ارتفاع أسعار المكالمات الهاتفية الدولية في زمن ما قبل الاتصالات العنكبوتية، نما استخدامه كوسيلة للتواصل الإنساني الدافئ بين الأقارب والأصدقاء الذين فرقتهم البلدان والحدود.
الكاسيت الإسلامي
وبدا أن استخدامات شرائط الكاسيت لا حدود لها بعدما تفننت تيارات الإسلام السياسي في استخدامها بشكل مكثف في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حتى بات هناك ما يعرف بـ "الكاسيت الإسلامي"، فمن إيران إلى مصر ومنها إلى أرجاء العالم العربي ثم إلى أوروبا والأميركتين وكذلك آسيا الوسطى والصغرى وما بينهما، غزت شرائط الكاسيت عقول وقلوب الملايين، ومهدت أراضي عدة لهيمنة تيارات الإسلام السياسي سياسياً واجتماعياً وفكرياً إلى يومنا هذا.
قائد الثورة الإيرانية آية الله الخميني غزا أدمغة الشعب الإيراني من منفاه الفرنسي لمدة 14 عاماً، وصنع لنفسه قاعدة شعبية هادرة عبر شرائط الكاسيت التي كان يسجلها، حاملة الخطب والرسائل التحميسية والمهربة إلى إيران، وهو ما نجم عنه سقوط نظام شاه إيران محمد رضا بهلوي واعتبار الإيرانيين أنه المخلص والمنقذ، وهو "إنقاذ" مشابه دارت رحاه في مصر في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي من طريق نفاذ شرائط كاسيت دعاة غارقين في التطرف والتشدد، وإتاحتها بقروش قليلة للبسطاء لتنفذ إلى عقولهم بأفكار وتفسيرات دينية يعاني المجتمع المصري برمته آثارها المتوارثة منذ ذلك الوقت.
كشك والخميني
الباحث الفرنسي المتخصص في العالم الإسلامي جيل كيبل أشار في كتاباته إلى أثر شرائط الكاسيت التي كانت توزع بالمجان أو تباع بقروش زهيدة على الأرصفة للشيخ عبدالحميد كشك، أحد أبرز الدعاة المنعوتين بالتطرف الشديد وبدايات عصر النسخة بالغة التشدد لتفسير الدين وتأثيره في الحياة اليومية والمشهد السياسي العربي، وقد شهدت سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي بزوغاً واضحاً لما بات يعرف بـ"دعاة الكاسيت"، إذ اعتمد رجال يعتنقون رؤى دينية مختلفة على شريط الكاسيت لنشر أفكارهم ودخولها كل بيت من دون الحاجة إلى المرور من بوابة الإذاعة أو التلفزيون الرسمي، فكان عصر مجد الشرائط الدينية في العالم العربي.
وبلغ شريط الكاسيت في العالم قمة مجده حين تفتق ذهن شركة "سوني" عن جهاز كاسيت صغير (بمعايير أواخر السبعينيات)، مزود بسماعات للأذنين تتيح للشخص الاستماع لموسيقاه المفضلة أثناء السير أو المشي. "ووكمان" أو "الرجل السائر أو الماشي" نقلت شريط الكاسيت إلى آفاق غير مسبوقة من الترفيه غير المقيد بالمكان في ثمانينيات القرن الماضي.
الشريط المضروب
ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته وأوائل الألفية شهدت كذلك عصراً ذهبياً لـ "الشريط المضروب"، الذي غزا العديد من الأسواق، حيث احترف البعض "ضرب" شرائط المطربين والمطربات الجديدة حال طرحها في الأسواق.
شريط "أكتر واحد بيحبك" للنجم عمرو دياب تم ضربه وإتاحته في الأسواق بتسجيل غير قانوني لأغنيات الألبوم، مما تسبب في خسائر جمة للشركة المنتجة وأرباح كبرى للضاربين، وكذلك شريط "الحلم الجميل" لهاني شاكر عام 1998، فضرب الشرائط وإلحاق الأضرار بالشركات المنتجة لم ينته إلا بنهاية وأفول عصره مع طرح الأسطوانات المدمجة.
القرص المدمج
لكن الأفول حدث بعدما بيع نحو مليار شريط كاسيت، محققة أرباحاً خيالية ومخلفة تاريخاً حافلاً من الترفيه وكثيراً من التثقيف وبعض من إظلام وتدمير العقول، والمفارقة الغريبة والطريفة التي تحمل 1000 رسالة هي أن العقل المبتكر لشريط الكاسيت المهندس الهولندي لو أوتنز لم يحزن أو يتألم أو يقف في وجه تيار التطوير والابتكار المطيح بهيمنة شريط الكاسيت من على عرشه، بل أصبح هو نفسه أحد أكبر وأنشط المطورين للنجم القادم، القرص المدمج، ومن معمله في شركة "فيليبس" أيضاً كمدير لقسم الصوت، دخلت شركته في شراكة مع شركة "سوني" المنافسة حتى خرجا بالقرص المدمج أو الـ "سي دي" عام 1980.
وحين سئل إن كان نادماً على شيء قال من دون تفكير، "خروج شركة سوني بال (ووكمان) قبلنا في فيليبس". ولم يتوقف أوتنز عن الإدهاش، فقد كان معارضاً شرساً لمحاولات إعادة شريط الكاسيت للحياة مجدداً رغم أنف الـ "سي دي"، وقال في مقابلة صحافية "ألا شيء يضاهي جودة صوت الـ (سي دي)".
اليوم 30 أغسطس (آب) 2021 يحتفي العالم بمرور 58 عاماً على ابتكار شريط الكاسيت القابع في درج "جدو" والمخفي في تلال الكراكيب والمتعلقات المنسية في ملايين البيوت، وبينما يحتفي العالم بالشريط الذي أحدث ثورة في عالم الترفيه والتثقيف وربما الإظلام والتشويه، بحسب اختيارات صاحب الشريط، يحتفي كذلك بحياة مبتكره ومبتكر خلفه الـ "سي دي" الذي رحل في شهر مارس (آذار) الماضي عن 94 عاماً وابتكارات صوتية عدة وكلمات تحولت لفرط بساطتها وتواضعها المدهشة إلى عبقرية فكرية خالصة.
في عام 2016 ظهر أوتنز في فيلم "الكاسيت: وثائقي شريط مختلط"، الذي عرض في "مهرجان سينما الطرف الشرقي" في لندن، وعلى الرغم من عبقرية شريط الكاسيت وأثره الكبير لدى مليارات البشر سواء كمستمعين أو منتجي محتوى، فإن أوتنز وصف مبتكره بقوله، "كنا أولاداً صغاراً نمضي وقتاً لطيفاً في اللعب، ولم نشعر أننا ننجز شيئاً كبيراً".