ملخص
ستبقى قضايا عديدة في قصة الميلاد في المنطقة الوسطى ما بين العقل والقلب، ما بين النقل والعقل، مما يعني أن الحديث موصول هذا الكريسماس وفي كل كريسماس، بل إنه في ظل تقدم العلوم الحديثة، سيجد الدينيون من أتباع الأديان السماوية، أنفسهم في مواجهة التيارات الخاضعة للذكاء الاصطناعي، وما بعده، والمنتمين للتفسيرات المادية للتاريخ وبعيداً من أي نهج إيماني أو روحي.
إنه الكريسماس، أو زمن ميلاد السيد المسيح، ذاك الذي أفرغته العلمانية الأممية من معناه ومغزاه الروحي، وحولته إلى مواسم للبيع والشراء وتبادل الهدايا، مما ذهب بنا بعيداً جداً عن حالة "الفقر الإنجيلي" والزهد الروحي التي دعا إليها المسيح نفسه طوال سنوات حياته القصيرة على الأرض.
لا بأس من أن يكون هناك الشق المادي، في أحاديث الميلاد، غير أن واقع الأمر يقطع بوجود جانب روحي لا يمكن نسيانه، وربما هذا بالنسبة إلى العوام.
أما النخبة الباحثة، المحققة والمدققة، فربما تشغلهم وبعد ألفي عام ونيف من ميلاد المسيح، عديد من التساؤلات التاريخية، لا من باب التشكيك في الحدث نفسه، حاشا لله، فقد أقرت به الكتب السماوية، بل من جانب بعض القضايا التاريخية المختلف من حولها.
على سبيل المثال لا الحصر: متى ولد المسيح على وجه الدقة من الناحية التاريخية، لا سيما في ظل الخلاف حول موعد الكريسماس بين الشرق والغرب؟ هذه مسألة تخضع دوماً للبحث والدرس، ولم يخلص أحد إلى وجهة نظر قاطعة أو إجابات شافية وافية في شأن الأمر.
هل ولد المسيح صيفاً أم شتاءً؟ هذه أيضاً جزئية مثيرة للشقاق الفكري، بين فريقين، أحدهما يرى أن ميلاده كان في الشتاء، فيما آخرون يقطعون بأن الأمر جرى في الصيف.
هناك جزئية أخرى، تتعلق بالتاريخ، وهل ولد بالضبط قبل 2024 عام بحسب التوقيت الميلادي الحالي، أم أن هذا التاريخ مشوب بأخطاء بعينها في حسابات السنين والأزمنة.
من بين التساؤلات مكان الميلاد، وهل هو بالفعل بيت لحم، أم مدينة الناصرة، وهما من المدن اليهودية القديمة في ذلك الوقت.
وعلى هامش الميلاد هناك عديد من الأمور البحثية المهمة، من نوعية البحث عن المسيح التاريخي، وهل هو شخصية حقيقية تكلم عنها المؤرخون من الرومان واليهود، أم أنه شخصية وهمية كما يزعم كثير من الملاحدة بنوع خاص؟
وإلى جانب هذا وذاك تبقى هناك بعض القصص الأكثر إثارة، لا سيما ما يختص بالنجم الذي ظهر في بلاد فارس "ميزوري"، وهل كان بالفعل نجماً معروفاً، أم أن الأمر هو انفجار كوكبي بعيد ظهر ضوؤه على سطح كوكب الأرض؟
ثم خذ إليك قصة المجوس، أولئك الحكماء الذين جاءوا من بعيد، من بلاد فارس، وديالكتيك الأحداث بينهم وبين هيرودس الحاكم اليهودي الموالي للرومان.
من أين لنا أن نبدأ هذه القراءة البحثية التاريخية؟
متى ولد المسيح تحديداً وتدقيقاً؟
الثابت أنه لم يُذكر تاريخ ميلاد المسيح في الأناجيل على وجه الدقة التاريخية، ومع ذلك يعتقد علماء الكتاب المقدس والمؤرخون القدماء أن حدث الميلاد قد جرى في الفترة ما بين 6 و4 قبل الميلاد، وذلك عبر استخدام طريقتين رئيستين لتقدير عام ميلاد المسيح، إحداهما تعتمد على الروايات في الأناجيل عن ولادته مع الإشارة إلى حكم هيرودس، والأخرى من خلال طرح عمره المذكور "نحو 30 عاماً"، عندما بدأ رسالته العلنية.
وفي غياب أي إشارات كتابية إلى اليوم الذي ولد فيه المسيح تاريخياً، اقترح المعلمون المسيحيون الأوائل تواريخ مختلفة غير التي نعرفها في حاضرات أيامنا.
على سبيل المثال اختار البابا كليمنت أحد الأحبار الرومانيين الأوائل تاريخ الـ18 من نوفمبر (تشرين الثاني)، بينما اعتقد أسقف روما الشهير هيبوليتوس أن المسيح لا بد أن يكون قد ولد الأربعاء، وذلك عبر وثيقة مجهولة المصدر، يعتقد أنها كتبت في شمال أفريقيا نحو عام 243م، وهناك في واقع الأمر عديد من الروايات المشابهة.
غير أن بعضاً من التحقيق والتدقيق لما ورد في الأناجيل، يخبرنا بوضوح أن الـ25 من ديسمبر (كانون الأول) ذاك الذي يجري فيه الاحتفال بالكريسماس رسمياً، لا يمكن أن يكون تاريخ مولد المسيح لسببين رئيسين:
** نعلم أن الرعاة كانوا في الحقول يحرسون قطعانهم في وقت ميلاد المسيح بحسب النص الإنجيلي كما كتبه لوقا البشير في الإصحاح الثاني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هنا لا يمكن أن يكون المولد في الشتاء، لأن جبال فلسطين تاريخياً في هذا التوقيت تكون عرضة لهطول الثلوج، ولم يكن للرعاة أن يرعوا قطيعهم في الليل البارد، وعليه فإنه غالب الأمر أن الميلاد كان في أواخر الصيف أو أوائل الخريف، حيث الأجواء المناخية تسمح للرعيان بذلك.
** جرى الميلاد على هامش ما عرف بالتعداد الروماني، الذي أمر أوغسطس قيصر بإجرائه ليعرف تعداد سكان الإمبراطورية الرومانية حول العالم.
هنا المؤكد تاريخياً أن مثل هذا التعداد كان يجري في فصل الصيف لا الشتاء، أي في ظل أجواء مناخية دافئة تسمح بالحركة في طريق فلسطين القديمة غير المهيأة للسفر الطويل، فما بالنا إذا كانت هناك أمطار أو ثلوج.
وفي وقت لاحق من القرن الرابع الميلادي، أقر بعض الكتاب المسيحيين، بأن عيد الميلاد يتزامن مع الانقلاب الشتوي، ورأوا أن الأيام الطويلة بعدها، ترمز إلى دخول السيد المسيح إلى العالم بأنوار محبته ورجائه وأمله في تغيير حال الخليقة البشرية القديمة وخلاصها من الخطيئة الأصلية، بحسب المفهوم الإيماني للمسيحية، وهذا ما قاله القديس أوغسطينوس، "لقد ولد المسيح في اليوم الأقصر في حساباتنا الأرضية، والذي تبدأ منه الأيام التالية في الازدياد طولاً، لذا فإن من رفعنا اختار أقصر يوم (25 ديسمبر)، ومع ذلك فهو اليوم الذي يبدأ مه النور في الازدياد".
هل تعني تلك الآراء المختلفة أن قضية تاريخ الميلاد غير مؤكدة حتى الساعة، وأنها تحتمل في ظل عالم الذكاء الاصطناعي أن تحسب عما قريب بطرق وحسابات رياضية متقدمة؟
مؤكد أن هناك كثيرين يعدون أن تحديد الـ25 من ديسمبر، لم يكن سوى وسيلة جديدة لاجتذاب كثير من الوثنيين الذين كانوا يعيدون لإله الشمس في ذلك النهار، وعليه جرى تحويله ليتوافق مع الفكر المسيحي عن مولد "شمس البر".
ولعله من نافلة القول إنه كما أن الزمان غير متفق عليه، فإن المكان نفسه ربما يثير بعض الخلافات عند مفكرين ومؤرخين مختلفين... ماذا عن ذلك؟
المولد في بيت لحم أم الناصرة؟
حملت التوراة، لا سيما السفر المعروف باسم سفر ملاخي النبي، تنبؤات عن مولد السيد المسيح في مدينة بيت لحم، تلك المدينة الفلسطينية التي تبرز عادة في الضفة الغربية في دائرة الضوء في هذه الأيام من كل عام.
نقرأ في الإنجيل بحسب القديس متى في الفصل الثاني قصة المولد في مدينة بيت لحم، تحقيقاً للنبوءات القديمة عند أنبياء اليهود.
غير أن هناك في واقع الحال أصواتاً تشكك في أن الميلاد قد جرى فعلاً هناك، ومن بين تلك الأصوات يأتي رودلف جلالفان أسترادا الأستاذ المساعد للعهد الجديد في كلية فولر اللاهوتية في باسادينا بولاية كاليفورنيا، وعنده أن القول بميلاد المسيح في بيت لحم لا ينبغي أن ينظر إليه باعتباره حقيقة تاريخية، بل باعتباره "تأكيداً لاهوتياً في شكل رواية تاريخية ظاهرياً". ويضيف، "أدى الاعتقاد أن يسوع كان من نسل داوود إلى تطوير قصة عن ميلاد يسوع في بيت لحم".
غير أن هذا الطرح يجد ردوداً عليه، لا سيما أن هناك كثيراً من الباحثين المعروفين بإلحادهم حاولوا مراراً تأكيد تهافت قصة بيت لحم، ومن بينهم جوناثان أم أس بيرس، الذي أصدر سلسلة متشككة بعنوان "فضح المهد"، وكذلك فعل جون دبليو لوفتوس المعروف بإنكاره للألوهية من الأصل.
توضح الردود أن هناك لبساً متعمداً عن هؤلاء، يجعل من قصة نشأة الطفل يسوع في الناصرة، هو السبب الرئيس في محاولة إنكار مولده في بيت لحم.
يقدم المفسرون رؤى مفادها أن المسيح كان بالفعل على وشك أن يولد في مدينة الناصرة، إذ عاش وعمل خطيب والدته القديس يوسف، ومع ذلك فقد جاء مرسوم أوغسطس قيصر، في زمن كرينيليوس الذي كان حاكماً على سوريا، ليجبر يوسف ومريم على الانتقال إلى بيت لحم وقت ولادة المسيح، وهذا ما يذكره لوقا البشير في إنجيله الإصحاح الثاني "فصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داوود التي تدعى بيت لحم لأنه كان من بيت داوود ومن عشيرته ليكتتب مع مريم خطيبته وهي حبلى، وفيما هما هناك تمت أيامها لتلد".
هل الدافع إلى إنكار مولد المسيح في مدينة بيت لحم أمر وراءه خلافات مع الفكر اليهودي الذي كان سائداً في ذلك الوقت؟
غالب الظن هذا ما يميل عدد كبير من الشراح إليه، إذ نقرأ في الموسوعة اللاهوتية "CATHOLIC ANSWERS" أن الدافع وراء إنكار نبوءة ميخا النبي عن ميلاد المسيح الحتمي في بيت لحم، هو الجدل اليهودي المضاد للمسيحية، بمعنى أن رفضهم قبول دعوة المسيح، هو السبب في التشكيك في ميلاده بهذه المدينة التي تقر التوراة بأنه سيولد فيها، ولهذا فإنهم يستخدمون الليبراليين اللاهوتيين، وكذا الملحدين من أجل التشكيك في مكان الميلاد، والذي هو بيت لحم، ذاك الذي صار معلماً عالمياً وأممياً للمسيحية منذ القرون الأولى، هناك حيث بنت الملكة هيلانة أم الملك الروماني والإمبراطور قسطنطين أول كنيسة للمهد في المدينة المقدسة بيت لحم.
على أن إنكار فكرة المولد في بيت لحم يستدعي ربما ما هو أكثر خطورة في التفكير المعاصر، إذ كل الأشياء قابلة للتشكيك وللنقد بمنظور تاريخي.
هنا سيكون التساؤل الأصعب هو هل وجد المسيح بالفعل في التاريخ الإنساني، هل كان شخصية حقيقية مرت في حياة البشرية قبل ألفي سنة تزيد قليلاً أو تنقص؟
هذه التساؤلات تفتح الباب واسعاً للتشكيك في "المسيح التاريخي"، بمعنى أن يكون هناك غير الزمن الماضي شخصية حقيقية اسمها المسيح عيسى بن مريم، وهذا فكر رائج لدى الكثيرين من مفكري الإلحاد المعاصر.
من هنا ربما ينبغي العودة إلى مشاغبة الرؤى التاريخية للمؤرخين المعاصرين في القرن الأول الميلادي، وسواء كانوا من الرومان أصحاب السلطة هناك أو من اليهود المعاصرين.
المسيح شخصية تاريخية أم وهمية؟
هناك في واقع الأمر اثنان من كبار المؤرخين، واحد يهودي وآخر روماني، هما من يأتيان على ذكر المسيح كشخص تاريخي عاش بالفعل في الزمان والمكان.
الأول هو المؤرخ اليهودي الكبير فلافيوس يوسيفوس المولود عام 37 بعد الميلاد.
يقدم فلافيوس معلومات عن بعض الأشخاص والأحداث الموجودة في العهد الجديد، وتحوي المخطوطات الباقية من كتاب يوسيفوس الشهير "آثار اليهود"، الذي كتب نحو 39 ميلادية، على إشارات ليسوع الناصري وليوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا).
يكتب يوسيفوس عن أن يسوع أو المسيح، هو المعلم الحكيم الذي صلبه بيلاطس البنطي، ويعد هذا النص نواة أصيلة تشير إلى حياة المسيح والطريقة التي انتهت بها.
أما النص الذي كتبه فلافيوس فهو كالتالي: "في ذلك الوقت عاش يسوع، رجل حكيم، إن كان من الواجب أن نسميه إنساناً، فقد كان رجلاً يقوم بأعمال مدهشة، وكان معلماً لأشخاص يقبلون الحقيقة بسرور. وقد ربح قلوب كثيرين من اليهود، وكثير من اليونانيين. لقد كان هو المسيح".
و"عندما حكم عليه بيلاطس بالصلب بناءً على اتهامات كبار رجالنا، لم يتوقف أولئك الذين أحبوه أولاً. فقد ظهر لهم بعدما قضى يوماً ثالثاً وعاد إلى الحياة، لأن أنبياء الله تنبأوا بهذه الأمور وبآلاف العجائب الأخرى عنه. وما زالت قبيلة المسيحيين التي سميت باسمه، لم تختفِ إلى يومنا هذا".
هذا عن يوسيفوس المؤرخ اليهودي ماذا عن نظيره الروماني؟
الحديث هنا يأخذنا إلى المؤرخ الروماني وعضو مجلس الشيوخ تاسيتوس المولود عام 56 ميلادية، والذي يشير في حولياته الصادرة عام 116 ميلادية إلى وجود أتباع المسيح في روما أثناء الحريق الهائل الذي استمر ستة أيام وأحرق جزءاً كبيراً من المدينة عام 64 ميلادية أثناء حكم الإمبراطور الروماني نيرون.
يتفق العلماء على أن إشارة تاسيتوس إلى إعدام المسيح على يد بيلاطس البنطي، هي إشارة موثوقة، ولها قيمة تاريخية كمصدر روماني مستقل، ومع ذلك لا يكشف تاسيتوس عن مصدر معلوماته.
يقدم تاسيتوس تأكيداً غير مسيحي لصلب المسيح، ويرى العلماء أنه يثبت ثلاث حقائق منفصلة عن روما نحو عام 60 ميلادية:
** كان هناك عدد كبير من المسيحيين في روما في ذلك الوقت.
** كان من الممكن التمييز بين المسيحيين واليهود في روما.
** إن الوثنيين في ذلك الوقت أقاموا صلة بين المسيحية في روما وأصلها في يهودا الرومانية، أو في فلسطين التاريخية.
وفي كل الأحوال، فإن تاسيتوس يعد أحد الكتاب غير المسيحيين في ذلك الوقت الذين ذكروا المسيح والمسيحية المبكرة إلى جانب فلافيوس وبلينيوس وسويتو نيوس.
على أن هذه الشهادات التاريخية، تقابل من ناحية أخرى بتساؤل مثير طرحه البعض عن اختراع الرومان للمسيحية، وما إذا كان علم الآثار يثبت الحقيقة التاريخية ليسوع المسيح أم لا؟
المسيح والتاريخ ما بين الحقيقة والخيال
تعطي وسائل التواصل الاجتماعي لأي فرد يمتلك المقدرة على الوصول إليها، فرصة قوية وكافية لكي يشيع ويذيع ما يريد، مما يفتح الباب واسعاً أمام مختلف النظريات والأفكار، ومنها هذه القصة المثيرة التي يقدمها الملحد الصريح، والذي يقدم نفسه على أنه مفكر حر، إذ يشارك بما يعده علوم الكتاب والأديان أكثر النظريات جنوناً حول أصول المسيحية.
يقول امتياز، "نحن نعلم أن يسوع المسيح كان شخصية خيالية تم إنشاؤها بواسطة مجمع نيقية عام 325 ميلادية على غرار يوليوس قيصر لتهدئة الفقراء في الإمبراطورية الرومانية". ويضيف، "إن أوغسطينوس أدرج بكل تأكيد قصة الميلاد العذري للمسيح، وفكرة البنوة الإلهية أو الأقنوم الثاني، والثالوث والخطيئة الأصلية، والتحول القسري والحروب المقدسة، وكلها أمور تم تبنيها في مجمع نيقية. وكل هذا مستحيل تماماً لأن أوغسطينوس ولد في الـ13 من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 354 بعد مجمع نيقية بفترة طويلة، بل أكثر من ذلك فإن (امتياز) عينه يعتبر أن الأناجيل كتبها الرومان، ولهذا السبب تتسم برائحة طيبة من الرومان".
على أن هذا الطرح اعتبره باحثون مزيفاً للغاية، ذلك أن الرومان كان لديهم بالفعل دين رسمي، إذ كان الإمبراطور يكرم باعتباره إلهاً، وعليه يبقى التساؤل كيف يمكن إرضاء الفقراء بالتخلي عن هذا الدين لمصلحة دين يذكر المواطنين بأنه "يجب أن نطيع الله أكثر من الناس"، كما يقول سفر أعمال الرسل من العهد الجديد.
ولعله من المثير أن أمر إنكار شخص المسيح التاريخي يتجاوز بعض غير الدينيين، ذلك أنه حين يعتقد مليارات البشر أن يسوع الناصري كان أحد أهم الشخصيات في تاريخ العالم، يرفض كثر آخرون فكرة وجوده على الإطلاق. على سبيل المثال، وجد استطلاع أجرته كنيسة إنجلترا عام 2015 أن 22 في المئة من البالغين في إنجلترا لا يعتقدون أن يسوع كان شخصاً حقيقياً.
من بين هؤلاء كذلك بارت د. إيرمان أستاذ الدراسات الدينية بجامعة نورث كارولاينا، ومؤلف كتاب "هل كان يسوع موجوداً؟".
عنده أن الحجة التاريخية لمصلحة يسوع الناصري غير قوية، انطلاقاً من عدم امتلاك سجلات أثرية لأي شخص تقريباً عاش في زمن ومكان يسوع.
لكن هل هذه حجة قوية تنفي وجود يسوع التاريخي؟
الشاهد أنه من بين علماء العهد الجديد من الكتاب المقدس المسيحي، لا يوجد خلاف يذكر حول حقيقة أنه عاش بالفعل، ومن بين هؤلاء البروفيسور لورانس ميكتيوك، الأستاذ المشارك في علوم المكتبات بجامعة "بيردو"، والذي يشير في مؤلفاته إلى أنه لم يكن هناك أي نقاش حول هذه القضية في العصور القديمة أيضاً، ويقول "إن الحاخامات اليهود الذين لم يحبوا يسوع أو أتباعه، اتهموه بأنه ساحر، ويضل الناس، لكنهم لم يقولوا قط إنه غير موجود".
والخلاصة في هذه الجزئية تتمحور حول فكرة أن "افتقار الأدلة التاريخية لا يعني أن الشخص في ذلك الوقت لم يكن موجوداً، بل يعني أنه مثل 99.99 في المئة من بقية العالم في ذلك الوقت لم يكن له أي أثر في السجلات التاريخية لدى الأمم والشعوب القديمة".
نجم الميلاد أم انفجار كوكبي؟
من بين القضايا الجدلية التي يخرج علينا العلماء من وقت إلى آخر بقراءات محدثة من حولها، قصة النجم "ميزوري"، والكلمة تعني "مولد أمير"، ذاك الذي ظهر في وقت الميلاد، وكان لامعاً بصورة غير طبيعية.
هل كان الأمر بالفعل نجماً مثيراً أم انفجار كوكبي على مسافة كبيرة من الكرة الأرضية، ومعه بدا من على بعد آلاف أو ملايين السنين الضوئية أنه نجم لامع؟
تقول القصة المعروفة في إنجيل متى البشير، إن نجمة بيت لحم أرشدت ثلاثة مجوس أو حكماء إلى القدس قبل نحو ألفي عام. وبعد التشاور مع هيرودس ملك اليهودية، عثر الرجال على الطفل يسوع حديث الولادة في بلدة بيت لحم الصغيرة.
السؤال حول ماهية نجم بيت لحم طالما فكر فيه العلماء، ليس فقط من منظور ديني أو تاريخي، بل ومن منظور علمي أيضاً. وقد طُرح عديد من النظريات بدءاً من الأحداث الفلكية إلى الأبراج، غير أنه وبفضل علم الفلك الحديث، أصبح العلماء أقرب إلى الإجابة.
في حديثه إلى مجلة ALL About Space يقطع أستاذ الفيزياء ديفيد وينتروب بأنه "إذا كان ما ورد في العهد الجديد هو رواية تاريخية لشيء ما، فإن هذه الرواية التاريخية تتطلب تفسيراً". ماذا عن ذلك التفسير؟
يرفض وينتروب أن يكون هذا النجم هو المذنب هالي، والذي كان مرئياً في السماء عام 11 قبل الميلاد، والدليل أن المجوس كانوا يتبعونه من بلادهم في الشرق، من عند بلاد فارس، ويسير أمامهم نحو بيت لحم، وهذا ضد حركة المذنب والذي كان موقعه يتسم بالتغير مع تغير دوران الأرض، بالتالي فإن المذنب لم يكن ليقودهم في اتجاه واحد. علاوة على ذلك، فإن المذنبات في العالم القديم، غالباً ما كانت تعد فألاً سيئاً.
هنا تشير نظريات أخرى إلى ما يعرف بظاهرة "السوبرنوفا" أو المستعر الأعظم، وهو نجم يتألق فجأة بصورة هائلة، وقد كان هذا في مجرة أندروميدا، كما هو موضح في دراسة أجريت عام 2005 ونشرت في مجلة The Observatoty، على رغم أنه من الممكن رؤية المجرة بالعين المجردة، فإنه لم يكن من الممكن رؤية نجم يتحول إلى مستعر أعظم وينفجر داخلها حتى بالتليسكوب.
هذا التفسير العلمي يقودنا إلى احتمالين، الأول هو أن المجوس كانوا يقومون بتفسير فلكي للسماء. وحقيقة أنهم كانوا في حاجة إلى سؤال هيرودس عن الاتجاهات عندما وصلوا تشير إلى أنهم لم يكونوا يوجهون إلى وجهتهم النهائية بواسطة جسم مضيء واحد.
فريق آخر يؤمن بأن نجم بيت لحم ربما كان نتيجة اقتران، إذ يبدو أن اثنين أو أكثر من الأجرام السماوية قد التقت في السماء في الأعلى بحيث ظهر على الأرض في هذه الصورة المضيئة بالشكل المثير والكبير الذي تجلى للأعين البشرية وفي المقدمة ما رآه المجوس في دول الشرق.
في كتابه "نجم بيت لحم"، يقترح عالم الفلك مايكل مولنار أن نظرية الاقتران قد تكون صحيحة، "وهو حدث تاريخي قد جرت به المقادير بالفعل، مما يجعل ظهور أنوار محاذية شديدة اللمعان حول كوكب الأرض أمراً وارداً بقوة".
وعلى رغم أن العلماء استبعدوا احتمالات عدة، فإننا قد لا نعرف على وجه اليقين ما كانت عليه نجمة بيت لحم أو ما إذا كانت قد حدثت بالفعل، ما لم يتم التوصل إلى بعض الاكتشافات الأثرية المذهلة، لكن هذا السؤال يظل مطروحاً عاماً بعد آخر، وسيستمر في إثارة اهتمام العلماء والمؤرخين على حد سواء لسنوات عديدة قادمة.
وتبقى الحقيقة المؤكدة في شأن نجم بيت لحم تدور في فلك أنه "لا شيء في العلم يثبت صحة أي نظرية، ولا في التاريخ ما يؤكد أو ينفي".
من هنا يقول غلاة علماء الفلك العلمانيين أننا قد لا نعرف أبداً ما إذا كان نجم بيت لحم اقتراناً أو حدثاً فلكياً أو أسطورة تهدف إلى تعزيز الفكر المسيحي، فيما يقطع نفر آخر من العلماء المؤمنين، بأن الأمر برمته يؤكد وبما لا يترك مجال للشك أنه حدث معجزي، غير قابل للتحقيق العلمي، بالضبط كما بقية أحداث الميلاد، بدءاً من أن مريم تلد ابناً من غير زرع بشري، فقط ارتكاناً إلى طلاقة القدرة الإلهية.
وفي كل الأحوال ستبقى قضايا عديدة في قصة الميلاد في المنطقة الوسطى ما بين العقل والقلب، ما بين النقل والعقل، مما يعني أن الحديث موصول هذا الكريسماس وفي كل كريسماس، بل إنه في ظل تقدم العلوم الحديثة، سيجد الدينيون من أتباع الأديان السماوية، أنفسهم في مواجهة التيارات الخاضعة للذكاء الاصطناعي، وما بعده، والمنتمين للتفسيرات المادية للتاريخ، وبعيداً من أي نهج إيماني أو روحي.
وفي كل الأحوال ومهما يكن من أمر "ميري كريسماس".