فيما يبقى الوضع في أفغانستان هشاً، بالتزامن مع استمرار عمليات الإجلاء المعقدة، لا بد من دراسة الأثر الذي يتركه ذلك على بريطانيا وسياستها الخارجية على المدى البعيد. هل كان من المجدي أننا كنا في أفغانستان؟ هل كنا على حق في قرارنا الانسحاب؟ هذه الأسئلة ستكون مادة خلافية حامية، كما أنها ستؤجج الاستقطاب في الحوار لفترة من الزمن، لكن ذلك يكشف بشكل فاضح غياب أي أهداف لسياسة خارجية طويلة الأمد من جانب المملكة المتحدة.
هل نحن أخذنا على حين غرة، وكنا غير محتاطين نتكل على نزوات الرئيس الأميركي، حيث يكشف ذلك غياب أي تعبير صريح عما تريد بريطانيا تحقيقه في العالم. نحن واعون إلى أن عملية بريكست هدفت إلى إعادة بعض أشكال السيادة إلى المملكة المتحدة، واقترح (في حينه) المؤيدون لعملية الخروج من أوروبا أن بريكست لا تهدف لانتهاج العزلة بل إلى شكل جديد من العالمية، مع تجديد عامل الثقة بالنفس، وتأسيس موقع متقدم "للعلامة التجارية البريطانية" brand Britain في الخارج. لكن وحتى الآن يبدو أن كل ذلك كان مجرد شعارات فارغة من دون أي إشارة إلى وجود سياسة موضوعية لتحقيق ذلك في أي اتجاه.
تحتل المملكة المتحدة موقعها بين الدول العشر الأول على صعيد الاقتصادات العالمية ولديها قوة عسكرية مهمة أيضاً. مواردنا وتاريخنا يظهران أنه، في الوقت الراهن، سيبقى لنا الحق في الجلوس على طاولة الدول المؤثرة الكبرى. لكن يبدو أننا نفشل (حالياً) في تقديراتنا المتعلقة بحاجتنا إلى سبب أو هدف تخدمه كل تلك القوة والخبرة الطويلة (التي راكمناها). فنحن اليوم أيضاً نقلق من المجهول ومن اختيار الجهة التي نود التعامل معها. علاقتنا مع الصين غير قويمة، فيما علاقتنا مع الولايات المتحدة الأميركية تزداد تصدعاً، وفي جوانب متعددة، تصل علاقاتنا مع الاتحاد الأوروبي إلى حد أشبه بالعدوانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن الوضع الحالي يبدو جاهزاً على ما يبدو لعملية تعيد توجيه سياستنا العالمية، فركائز الأرضية السياسية العالمية تهتز، وإذا كنا نريد أن يكون لنا تأثير في العقود القليلة المقبلة، يتوجب علينا أن ننتهج موقفاً حازماً ينبع من قيمنا الديمقراطية الليبرالية.
رياح التغيير ما فتئت تعصف بالعالم منذ بعض الوقت، ونشهد تحولات حثيثة في ديناميكية القوى العالمية إلى حد لم تعد فيه مواقفنا الحالية قادرة على خدمة تلك التوجهات... يجب أن يشكل الانسحاب من أفغانستان نقطة تحول، حيث يمكننا الاعتراف أن الأحداث التي سمحت في الماضي بتسيد الغرب، والأفكار التي كان يطرحها التي كانت تترجم نجاحه، لم تعد كافية لاستمرار دورنا. ففترة ما بعد الحرب العالمية التي سمحت بتشكل عالم ما بعد عصر الشيوعية بحاجة إلى إعادة تقييم لتحديد موقعنا في عالم ما بعد عصر الإرهاب.
صعود الصين، الذي يطرح إشكالية وجودية عميقة للولايات المتحدة الأميركية يهدد أبسط الأسس التي قام عليها بناء رؤيتنا لعالم اليوم. فلم يعد الأمر بمثابة معطى أن طريق النجاح والنمو يتم فقط عن طريق اعتماد الحرية والرأسمالية الديمقراطية. فعندما هزمت الرأسمالية الشيوعية في الثمانينيات، توقعنا ذلك أن يكون انتصاراً نهائياً. ويبدو واضحاً اليوم أن ذلك لم يعد قائماً. فالمعركة والنزاع من أجل الفوز بالفكرة التي تؤَمن التفوق الاقتصادي، باتت بمثابة حدود جديدة تنظم العلاقات الدولية.
علاقاتنا الطويلة الأمد بحلفائنا التقليديين تحتاج إلى تحليل عميق أيضاً. قد يكون مأساوياً للغاية اعتبار أن تداعيات أفغانستان من شأنها ترك شرخ عميق (في العلاقات) بيننا، (المملكة المتحدة) والولايات المتحدة، لكنه لا يمكننا سوى ملاحظة نمط من الانكفاء والتراجع الدولي للقوة القابعة ما وراء المحيط الأطلسي (أميركا)، وهو ما سيترك أثراً حول كيفية تعامل المملكة المتحدة مع بقية دول العالم، من دون الاعتماد على حتمية تدخل الولايات المتحدة أو على فهمنا أننا نتشارك بشكل عام أهدافاً متشابهة. فخطر الانهيار يهدد ما كان يعد في يوم من الأيام المجموعة القوية للتحالف الغربي الليبرالي.
ما زال للمملكة المتحدة دور مهم في العالم، في ما يتعلق بإيجاد مخرج للتغيرات المناخية، وإرساء العدالة الاقتصادية وإبراز نظام ديمقراطي يحتذى به. هذه قضايا يمكن لبريطانيا أن تسهم فيها عبر العالم، لكن ذلك يحتاج منا أن نتخذ موقفاً قوياً، وأن نبدأ بإعادة طرح أولويات سياستنا الخارجية كنقطة أساسية من شأنها أن تكون مدخلاً لفك الاشتباك في أعقد مشكلاتنا. فنحن نحتاج وضوحاً يحدد موقفنا في هذا العالم، وإلا سيمضي العالم ويتركنا خلفه.
© The Independent