عندما انقضى الموعد النهائي لانسحاب القوات الغربية من أفغانستان، قُضي على آخر نفحة أمل بالنسبة إلى سيما* الأفغانية التي اضطرت إلى الانفصال عن أسرتها كي تتمكن من الاختباء.
وتواجه في الواقع هذه المرأة ثلاثة أخطار يمكن أن تدفع حياتها ثمناً لأي منها. أولاً لأنها تنتمي إلى مجتمع الهزارة الشيعي المضطهد في أفغانستان، وثانياً لأنها صحافية، وثالثاً لأن زوجها كان يعمل في برامج أميركية مؤيدة للديمقراطية في البلاد، وهذه الأسباب تجعلها بالتأكيد على قوائم الاستهداف.
وعلى الرغم من الضغط الذي مارسته مجموعات حقوقية دولية على مدى أسابيع، وقيام هذه الأم لثلاثة أطفال برحلات شاقة إلى مطار العاصمة، ونجاتها بصعوبة من تفجير انتحاري زعم تنظيم "داعش خراسان" Isis-K مسؤوليته عنه، لم تتمكن سيما من تأمين ممر آمن لها لمغادرة كابول في الوقت المناسب.
ولم يكن رحيل آخر طائرة أميركية قبل الموعد النهائي للانسحاب الغربي في الـ 31 من أغسطس (آب) الفائت، بمثابة نهاية لتدخل عسكري دام زهاء 20 عاماً في أفغانستان وحسب، بل كان يوماً قضى على آمال هذه المرأة في الفرار والوصول إلى بر الأمان.
وفي حديث أجري معها عبر تطبيق مراسلة إلكتروني مشفر، تقول سيما، "استرسل أطفالي الصغار اليوم في البكاء وهم ينظرون إلى السماء، مترقبين طائرة لن تأتي أبداً لإنقاذنا". وأشارت إلى أنها تعلم أن صحافيين آخرين من أمثالها ينتمون إلى أقلية الهزارة قد اختفوا بالفعل كما أفيد، على يد حركة "طالبان" بعد محاولتهم الهرب من البلاد.
وتضيف، "أشعر في هذه اللحظة بأن آمالنا كلها قد تبخرت، لأن جميع الدول التي كان لديها وجود في أفغانستان قد غادرت، وتركنا لوحدنا هنا نواجه مصيرنا. قد يكون من الأفضل لنا أن نكم أفواهنا وأن ننتظر أن يأتي الموت ليأخذنا".
في جزء آخر من المدينة، تختبئ حليمة*، وهي الأخرى صحافية أفغانية ومترجمة مخضرمة. وتوضح أن جميع مناشداتها للحصول على تأشيرات سفر طارئة لها ولأسرتها المعرضة للخطر اصطدمت بجدار من الصمت من دول عدة بما فيها المملكة المتحدة، على الرغم من أنها عملت طوال العقدين الأخيرين من الزمن مع السفارة البريطانية في كابول، ومع عدد من مؤسسات إخبارية أميركية بارزة. وقد علق أحد أقاربها الذي لديه تأشيرة إقامة في الولايات المتحدة (البطاقة الخضراء) هو الآخر، عندما تزامنت زيارته للبلاد مع الفترة التي سيطرت فيها حركة "طالبان" على كابول.
وتقول حليمة، "لم يهبّ الغرب إلى نجدتنا على الإطلاق. لقد جعلوا حياتنا جحيماً، ومن ثم قاموا بدفننا وسط هذا الجحيم إلى الأبد". وتصف كيف تعرض شقيقها للضرب على يد حراس "طالبان" في إحدى الرحلات السبع التي قاموا بها إلى المطار، محاولين مغادرة أفغانستان.
وتضيف، "لقد مارس الناس هنا على مدى نحو 20 عاماً ضغوطاً من أجل تحسين وضع المرأة وحقوقها في أفغانستان. طالبوا بالتعليم وبمنح دراسية. لقد طلبوا منا أن نشارك في ذلك طوال الأعوام الـ 20 تلك، والآن نجد أنفسنا فجأة مختبئين في المنزل بعدما تركونا وتخلوا عنا".
"الحياة لم تكن أبداً بلا معنى كما هي عليه الآن"
عدد من النساء اللواتي كن على اتصال مع صحيفة "اندبندنت" وكن يحاولن مغادرة أفغانستان، بعثن بعد نحو 24 ساعة من إغلاق منفذ الخروج من البلاد برسائل يائسة، ومن بين هؤلاء صحافيات ومترجمات وناشطات في مجال حقوق المرأة وطالبات وشخصيات سياسية. ويعتبر بعضهن أنهن معرضات للخطر بشكل خاص، لأنهن إما ينتمين إلى أقلية الهزارة، أو لأنهن من مقاطعة بنجشير، التي كانت آخر جيب للمقاومة المناهضة لحركة "طالبان" في البلاد.
وكان الطابع المشترك المثير للمشاعر بين جميع تلك الرسائل يتمثل في العبارات الآتية، "لقد تركونا وتخلوا عنا. لا تنسونا، ساعدونا. أنقدونا".
وفي هذا الإطار، لا يمكن وصف انسحاب الغرب من أفغانستان إلا بأنه خروج مهين، خصوصاً بعدما كانت البلاد مسرحاً لأطول حرب بالنسبة إلى الولايات المتحدة، حصدت حياة نحو ربع مليون أفغاني، وأكثر من 2900 جندي أميركي وبريطاني، فيما ناهزت كلفتها المادية تريليوني دولار أميركي.
في المقابل، يظل الوضع بالنسبة إلى المواطنين الأفغان الذين تركوا يواجهون وحدهم مصيرهم، ولا سيما النساء منهم، شديد الخطورة على حياتهم.
في الأسابيع القليلة الأخيرة التي اتسمت بحال من الفوضى العارمة، شهدت تفجيراً انتحارياً تبنى المسؤولية عنه تنظيم "داعش خراسان" وأسفر عن مقتل ما لا يقل عن 170 شخصاً، إضافة إلى وقوع هجمات صاروخية وما اعتبره كثيرون أنها ضربة فاشلة بطائرة أميركية بلا طيار تسببت في مقتل مدنيين، تمكنت الولايات المتحدة وحلفاؤها من نقل أكثر من 123 ألف شخص جواً من كابول.
وفيما نجحت المملكة المتحدة في إخراج قرابة 15 ألف شخص من أفغانستان، أشار وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب إلى أن بضع مئات من البريطانيين لم يتمكنوا من الصعود إلى الطائرات.
أما الرئيس الأميركي جو بايدن فوصف جسر الإجلاء الجوي بأنه يعد "نجاحاً منقطع النظير"، إلا أن فرقه اعترفت أيضاً بترك نحو 100 مواطن أميركي هناك، إلى جانب عشرات آلاف الأفغانيين الذين ساعدوا في العمليات الغربية خلال الحرب.
من بين هؤلاء تعد النساء الأفغانيات الفئة الأكثر ضعفاً، ويشكلن نصف عدد السكان البالغ 39 مليون نسمة. وقد وعدت حركة "طالبان" على أثر انتهاء مهمة الإنقاذ الدولية بأن تضمن مروراً آمناً إلى خارج البلاد للأجانب والأفغان الذين لديهم وثائق السفر المطلوبة، إلا أنه حتى وزير الدولة لشؤون المنطقة في وزارة الخارجية البريطانية جيمس كليفرلي، قال لشبكة "بي بي سي" إن لديه "شكوكاً" حيال هذه التأكيدات، نظراً إلى اتساع الفجوة بين الصورة العامة التي تظهرها "طالبان"، والتقارير الواردة عن ارتكاب مجازر بحق أفراد الأقليات الضعيفة كالهزارة، إضافة إلى أعمال الدهم ووقوع حالات اختفاء تصر الحركة على نفيها وإنكار حدوثها.
وتطغى تالياً حال من عدم اليقين وغياب الثقة في وعود حركة "طالبان" لجهة احترام حقوق المرأة بالنسبة إلى النساء اللواتي ما زلن في البلاد. فقد سعت الحركة إلى تصوير نفسها على أنها نموذج أكثر اعتدالاً عما كانت عليه في نظامها للتسعينيات، عندما فرضت شكلاً صارماً من الشريعة الإسلامية، وكانت النساء في تلك الفترة محاصرات إلى حد كبير في منازلهن، ومنعن من التوجه إلى المدارس أو الجامعات.
وبعدما كانت الحياة قد شهدت تحسناً كبيراً بالنسبة إلى المرأة في أفغانستان على امتداد الأعوام الـ 20 الأخيرة، مع زيادة نسبة انخراطها في مختلف مستويات الأنشطة المجتمعية، إلى جانب تمكنها من الحصول على التعليم، دقت أخيراً الأمم المتحدة ناقوس الخطر، فقد حذرت براميلا باتن رئيسة "هيئة الأمم المتحدة للمرأة" UN Women بالوكالة يوم الثلاثاء، من أن المكاسب التي تحققت بشق الأنفس والتي ناضل من أجلها ناشطون في مجال الدفاع عن حقوق المرأة الأفغانية "لا يمكن التراجع عنها أو العودة بعقارب الساعة للوراء".
ورأت المسؤولة الدولية أن "ثمة حاجة ملحة لاتخاذ إجراءات عاجلة الآن لضمان إشراك النساء مشاركة كاملة في الحياة العامة وفي السياسة في أفغانستان"، معتبرة أنه يتعين على حركة "طالبان" تقديم ضمانات بحماية النساء من التهديدات والهجمات القائمة على أساس الوضع الاجتماعي.
وفي الوقت الذي تحاول فيه نساء أفغانيات من الأكثر ضعفاً في البلاد مغادرة أفغانستان مع تزايد المخاوف من مستقبل أكثر قتامة، تظل مسألة إخراجهن محفوفة بالمصاعب، كما تقول منظمات حقوقية ما زالت تبذل جهوداً لإجلائهن.
كيران نازيش مؤسسة "تحالف من أجل النساء في الصحافة" Coalition For Women In Journalism، (شبكة دعم عالمية للصحافيات) التي تحاول مساعدة مئات من النساء الأفغانيات الأكثر عرضة للخطر، قالت لصحيفة "اندبندنت" بنبرة يائسة إن حتى الحصول على تأشيرات سفر لهن مسألة غاية في الصعوبة، ورأت أن "هناك نقصاً في المسؤولية حيالهن من جانب الحكومات الأجنبية".
وتوضح نازيش أن حافلات كثيرة تمكنت مؤسستها من تأمينها تمت إعادتها، لا بل إن بعضاً منها تعرض لإطلاق النار، فيما بقيت ثلاث من الطائرات التي حاولت توفيرها نصف فارغة، لأنهم لم يسمحوا للنساء بعبور نقاط التفتيش.
وتعلق قائلة، "إن السبب في مواجهتنا هذا التحدي المتمثل في عبور الناس بوابات المطار هو مواصلة المسؤولين المطالبة بأن تبرز المغادرات تأشيرات سفر. وفي الأيام الأخيرة كنا قد حاولنا من خلال اتصالاتنا المكثفة مع عناصر في الجيش الأميركي والبيت الأبيض، وعبر ممارسة ضغوط على أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، إدراج النساء الأفغانيات ضمن قائمة المغادرين، لكن الجواب كان أنهم يريدون فقط الأميركيين".
وتعمل منظمة "تحالف من أجل النساء في الصحافة" في الوقت الراهن على نحو 300 حالة تعود إلى نساء لم يكن بمقدورها إجلاؤهن قبل الموعد النهائي في الـ 31 من أغسطس (آب)، 100 منهن مدرجات على قوائم الإعدام أو على قوائم الأفراد ذوي الخطورة العالية، ويجرى الآن نقلهن بين منازل آمنة مختلفة. أما الفرق التابعة للمنظمة فلا تدخر جهداً في إيجاد طرق بديلة لإخراجهن بما فيها إمكان المغادرة عبر باكستان، حيث تحتاج النساء مجدداً إلى تأشيرات دخول لتلك الدولة المجاورة لأفغانستان.
وأضافت نازيش، "أريد أن تتخذ الحكومة خطوات جادة لإخراج هؤلاء الناس، ففي إطار جهود الإخلاء التي بذلت أخيراً لم نجد أحداً يعطي أولوية للنساء، على الرغم من كونهن الأكثر عرضة للخطر. إن هذا لأمر مؤلم بالنسبة إلى المنظمات غير الربحية والمنظمات الأخرى التي تنشط ميدانياً".
المتهمون بـ "التواطؤ" هم في خطر
سونيل فارغيس مدير السياسات في "المشروع الدولي لمساعدة اللاجئين" International Refugee Assistance Project (IRAP)، (يعنى بدعم الأفراد الأكثر اضطاداً في العالم) الذي يتخذ من الولايات المتحدة مقراً له، والذي عمل أيضاً على محاولة إخراج مئات من الرجال والنساء الأفغان من البلاد، يؤكد أن أي شخص حاول المغادرة وأخفق في محاولته بات الآن عرضة لخطر أكبر.
وأضاف فارغيس لصحيفة "اندبندنت" قبيل انقضاء الموعد النهائي في الـ 31 من أغسطس، "إذا لم تكن طالبان تعرف أن الأفراد الذين كانوا ينتظرون خارج المطار ولم يتمكنوا من الفرار، كانوا ينتمون إلى الأميركيين أو إلى الغرب آنذاك، فإنها أصبحت على علم بهم الآن لأنهم كانوا خارج المطار"، وحذر من أنه "في حال لم نتمكن من إخراجهم فإن الإجلاء إلى شيء أسوأ بكثير".
على صعيد آخر، فإن المضاعفات على الأرض تجعل مغادرة البعض أمراً شبه مستحيل. وتقول إحدى الطالبات لصحيفة "اندبندنت" إن أسرتها لم تتمكن حتى من الوصول إلى كابول، وهي الآن عالقة في مقاطعة بعيدة من العاصمة، وهذا يعني أنها ستضطر إلى التنقل عبر نقاط تفتيش غادرة يديرها مقاتلو طالبان وأنصارهم، والمخاطرة بالتعرض لهجمات محتملة من جانب تنظيم داعش قبل حتى الوصول إلى العاصمة من أجل المباشرة في محاولة الخروج من البلاد.
وتقول طالبة أفغانية أخرى وهي من منطقة بنجشير لكنها موجودة في كابول الآن، مما يعني أن حياتها معرضة للخطر، إنه في خضم تلك الفوضى كلها ما زال أفراد أسرتها يحاولون تجديد جوازات سفرهم منتهية الصلاحية، الأمر الذي يمنعهم حتى من البدء في طلب الحصول على تأشيرة. وتضيف، "نحن الآن موضع استهداف بشكل رئيس، والأمل الوحيد المتبقي لنا هو الصلاة والتضرع للخالق".
"كابول بؤرة رعب"
سامية*، وهي أيضاً صحافية في العشرينيات من عمرها، كان مدخولها من عملها في مجال الصحافة يسهم في دعم أفراد عائلتها بأكملها بعد وفاة والدها، تقول إن هجوماً صاروخياً وقع أخيراً في كابول بالقرب من منزلها، أعاد إلى الأذهان الحقيقة المرة التي ينطوي عليها المستقبل.
وتضيف، "إذا ما قررنا البقاء فإننا ندرك أن طالبان لم تتغير، إذ إن النساء لا يسمح لهن بمغادرة منازلهن، أو الذهاب إلى العمل. نرجوكم العمل على إنقاذنا جميعاً".
في سياق متصل، يبدو أن المملكة المتحدة تجري محادثات مع حركة طالبان في شأن تأمين ممر آمن للأشخاص الذين تركوا في أفغانستان. وقال الرئيس الأميركي جو بايدن إنه كلف وزير الخارجية أنطوني بلينكن التنسيق مع شركاء دوليين لإلزام "طالبان" على الوفاء بوعدها إخراج الأميركيين من البلاد، وغيرهم من الذين يرغبون في المغادرة خلال الأيام المقبلة، لكن هذه المعلومات والتصريحات لا يبدو أنها تساعد في تهدئة المخاوف على الأرض، فعائلة سيما المنتشرة في مقاطعات أفغانية مختلفة تزعم أنها تلقت أنباء تفيد باعتقال حركة "طالبان" صحافيين ينتمون إلى أقلية الهزارة الشيعية، واختفاء هؤلاء بعد عقدهم اجتماعاً للبحث في سبل الفرار من البلاد. ولم تتمكن صحيفة "اندبندنت" من التحقق من وقائع هذه الحادثة، إلا أن "منظمة العفو الدولية (أمنيستي إنترناشونال) أبلغت عن وقوع مذبحة ذهب ضحيتها تسعة أفراد من الهزارة على يد حركة طالبان في يوليو (تموز) الفائت.
وتتذكر سيما أنه "في الأيام القليلة الماضية، عندما كانت طائرة تحلق فوق رؤوس أطفال أفغان، كانوا يخبرون بعضهم بأن الولايات المتحدة موجودة هنا وأنهم سينقذوننا، لكنهم الآن استسلموا للبكاء".
وختمت بالقول، "إن العاصمة كابول غارقة في لجة الرعب الآن. لقد تم التخلي عنا ولم يعد لدينا أي أمل".
* تم تغيير الأسماء حرصاً على سلامة الأشخاص الذين تمت مقابلتهم ضمن هذا التقرير
© The Independent