"لمدينة حلب قلعة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، تنزهت حصانة من أن ترام أو تستطاع منحوتة الأجزاء، موضوعة على نسبة اعتدال واستواء، قد طاولت الأيام والأعوام، ووسعت الخواص والأعوام، وبداخلها جبلان ينبع منهما الماء فلا تخاف الظمأ، ويطيف بها سوران وعليها خندق عظيم ينبع منه الماء، وسورها متداني الأبراج"، هكذا وصف ابن بطوطة قلعة حلب التاريخية في رحلته "تحفة النظار في غرائب الأمصار".
التأسيس على تلة
تقع قلعة حلب فوق مرتفع مستدير، أعلى من مستوى المدينة بـ38 متراً، ويحيط بها خندق عظيم. ويقول المؤرخ كامل الغزي في كتابه "نهر الذهب في تاريخ حلب"، "اعلم أن موقع القلعة في الحالة الحاضرة متوسط من البلد، لكنها أقرب إلى الجهة الشرقية كثيراً والشمالية قليلاً".
وكان أول من أقام القلعة في مكانها الحالي، حسب ابن شداد في كتابه "الأعلاق الخطيرة"، هو سلوقس نيكاتور، مؤسس السلالة السورية السلوقية، وربما حلب القديمة كلها كانت مبنية على هذه القلعة. وورد في المراجع أن من مظاهر اهتمام السلاطين والأمراء بالقلعة، تعيينهم والياً على المدينة وآخر على القلعة تحسباً لحدوث عصيان.
قلعة أم مدينة محصنة؟
ذُكر في كتاب "بين تاريخ الآثار الإسلامية في العالم" بأنها واحدة من أجمل وأعظم التحصينات العسكرية التي وصلت إلينا من العصور الوسطى، وهي تنطق بمدى ما بلغه المسلمون في العمارة الحربية من تفوق ومهارة. كما ورد في كتاب "تاريخ الفن في العصور الإسلامية" أن "قلعة حلب تُعد مدينة محصنة داخل سور عال"، وفي هذا دلالة على مدى مناعتها وقوة تحصينها وتعدد عناصرها الدفاعية المعمارية، فقد ظل سورها على ما كان عليه قبل الإسلام، إذ لم يقم خلفاء بني أمية ولا خلفاء العباسيين إلا بالتجديد وترميم ما تلف من أبراجها.
وسجل أول تجديد للقلعة في عهد سيف الدولة الحمداني بعد أن خربها "نقفور" إمبراطور الدولة البيزنطية. كما سجلت على جدران القلعة أسماء كل من قاموا بتجديدها وترميمها، وكان على رأس هذه الأسماء صلاح الدين يوسف الذي قام بأكبر عمارة في سور وأبراج مدينة حلب. أما سعد الدولة بن سيف الدولة الحمداني، فكان أول من اتخذ من القلعة مقراً للحكم والسكن، وأتم بناء ما بدأه والده من أسوار.
خمسة مداخل
ويذكر في كتاب "التحصينات الحربية في العصر الأيوبي بمصر والشام" أن للقلعة خمسة مداخل. الأول (الرئيس) يتكون من فتحة باب مستطيلة الشكل يغلق عليها مصراعان من الخشب المصفح بالحديد، وفي أعلى كتلة المدخل سقاطات لإلقاء المواد السائلة على الأعداء. والثاني مستطيل الشكل يبلغ ارتفاعه 20 متراً تقريباً، تعلوه فتحة لقذف السوائل الحارقة بغية الدفاع، وفي برج الباب كوى عديدة لرمي السهام، وله مصراعان مصنوعان من الجديد المطرق، وفي أعلاه كتابة بارزة تقرأ "أمر بعمله مولانا الملك الظاهر غازي يوسف في سنة 1211م".
أما الباب الثالث، فهو مدخل صغير يقع في الجهة الشرقية وبابه من الخشب الغليظ المصفح بالحديد. والمدخل الرابع تعلوه كوة مستديرة للإنارة ورمي السوائل الحارة، إضافة إلى حجر كبير نحت عليه أسدان متقابلان بينهما شجرة نخيل. ويؤدي هذا الباب إلى دهليز ينعطف يميناً إلى قاعة مستطيلة تقريباً أنشئت بغية الدفاع عن المداخل، وفيها ثلاث مزاغل (كوى ضيقة) لرمي السهام وفي وسطها بئر عميقة.
والمدخل الخامس يدعى باب الأسد الضاحك والأسد الباكي، زينت أعلاه كتابة بارزة نصها "أمر بعمله مولانا الملك الظاهر غازي بن يوسف في سنة ست وستمائة"، وتقابله مصطبة مرتفعة.
عناصر دفاعية
اهتم الأيوبيون في فترة حكمهم لحلب بتقوية أسوارها وأبراجها، إضافة إلى قلعتها. فزود السور الذي يحيط بالقلعة بأبراج بارزة قليلاً نحو الأمام وبلغ عددها 44 برجاً وفي مصادر أخرى 49 برجاً، وهي مختلفة في الحجم والشكل. كما زود السور بعناصر دفاع أخرى، مثل فتحات السهام التي ربط بعضها إلى بعض بواسطة ما يسمى "البدن" (جزء السور الواقع بين برجين)، وخلف هذا السور والأبراج والبدنات كانت توجد ممرات دفاعية لتسهيل الوصول إلى المرمى الموجود في الأبراج وتزويد الرماة بالعتاد والسلاح والمواد التموينية. وقد بني السور بشكل محكم يقاوم رشقات المنجنيقات، حيث يبدو أحياناً كأنه سور مزدوج.
أما أبراج السور فقد أقيمت للدفاع عن القلعة إما مفردة أو مزدوجة، ومنها ما هو مرتبط بالسور الذي يحيط بالقلعة، وهي في أغلبها مربعة أو ذات أضلاع. البرج الأول عبارة عن مدخل متقدم مستطيل الشكل يبلغ ارتفاعه نحو 20 متراً، مزود بفتحات كثيرة لرمي السهام ومحصن بسقاطة ذات ثلاث فتحات لصب الزيت المحروق أو الكلس الحار وفتحة أخرى للسهام، وفي الأعلى توجد سواتر بينها فجوات يمكن استعمالها كمرام للسهام. ولهذا البرج بابان، أحدهما مصنوع من الحديد المطروق السميك وهو ذو مصراعين.
أما البرج الرئيس، فيتألف من برجين تفصل بينهما فجوة يدخل منها إلى القلعة، وقد زود بمدخل دفاعي ملتوٍ يعرف في العمارة الإسلامية باسم المخل المنكسر أو "الباشورة"، وتقوم على هذا البرج "قاعة العرش" التي يدخل إليها عبر باحة سماوية تفتح أمامها، ولها باب مزين بحليات معمارية وقرص نجمي ذو عشرة إشعاعات، وقد بني مدخلها الرئيس على نظام الأبلق، تزينه في أعلاه مقرنصات جميلة منقوش تحتها كتابة. وتتألف كسوتها من 11 سقفاً مزينة بزخارف نباتية، منها أربعة من الطراز العجمي، وثلاثة أخرى نقلت من دور دمشقية صنعت على طراز البطانة العربية المعروفة في القرنين الـ17 والـ18، وتحتوي الرقبة على 24 نافذة جصية محلاة بزخارف نباتية.
أما أرضية القاعة فكُسيت بمشقفات رخامية ذات أشكال مستوحاة من الدور الحلبية الأثرية، وتتوسط القاعة بحيرة ماء على الطراز الأيوبي، والإنارة تؤمن بواسطة ثريات خشبية ذات تقاطيع من الخيط العربي بحشوة على الطراز الفاطمي، أكبرها تتدلى في منتصف القبة.
معالم تاريخية
تضم القلعة، إلى جانب قاعة العرش، معالم تاريخية بارزة، يصفها بدقة شوقي شعث في كتابه "قلعة حلب"، وهي حمام نور الدين الزنكي الذي يقع على جهة اليسار عند الخروج من القلعة، وعلى يمين الزائر الصاعد إلى القلعة مستودعات تتكون من أقبية مبنية بالآجر الأحمر ينزل إليها بدرج، وهناك حفرة عميقة يصعد إلى فوهتها بدرج من داخل المستودعات يعتقد أنها كانت تستخدم سجناً، ومن هنا جاءت تسميتها الشائعة قاعة "حبس الدم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتكون المسجد الصغير أو مسجد "إبراهيم الخليل" من قبلية مستطيلة وباحة خارجية وبعض الغرف المطلة عليها. وإلى شماله، يقع المسجد الكبير الذي يتألف من قبلية وفسحة داخلية سماوية في وسطها بحرة ماء، ويحيط بها رواق تأتي بعده عدة غرف ذات نوافذ صغيرة يمكن أن تستخدم مرام للسهام عند الضرورة، ويعتقد أنه كان يضم مدرسة احترقت وجددت مرات عديدة.
ويوجد أيضاً ما يسمى "المستودعات الشرقية"، وهي عبارة عن قاعة كبيرة تحت الأرض جعلت لها كوى لدخول النور والهواء.
إضافة إلى القصر الملكي الذي يتقدمه باب جميل تعلوه مقرنصات تتوسطها كتابة، وله باحة جميلة تتوسطها بحرة ماء رصفت أرضيتها بالمرمر متعدد الألوان. وفي صدر الباحة الشمالية، يتموضع سلسبيل وفي الجنوب إيوان كبير ومن الشرق إيوان آخر أصغر حجماً. وتتصل هذه الباحة بحمام بواسطة ممر رصفت أرضه بأحجار أخذت أشكالاً هندسية، وهي من اللونين الأسود والأبيض.
وفي النهاية، نحن أمام نموذج فريد من نماذج العمارة العسكرية في سوريا وفي الشام كلها أيضاً، وقد أدت وظيفتها الدفاعية ضد الغزاة، وبفضلها حافظت مدينة حلب على هيبتها وقوتها عبر السنين، فمازالت قلعة حلب تاج المدينة الحية ورمزاً لسلطانها.