في أغسطس (آب) 1941، التقى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل على متن السفينة الحربية الأميركية "يو أس أس أوغوستا"USS Augusta في المياه قبالة ساحل "نيوفاوندلاند" الكندي، كي يتناقشا في أمور الحرب العالمية الثانية التي استعرت آنداك في أوروبا وآسيا. بينما تباحثا في المستقبل، عرج الزعيمان على الماضي أيضاً. لقد أدركا أن أوجه الحرمان والانقسامات التي تأججت نتيجة الحرب العالمية الأولى و"الكساد العظيم" [الأزمة الاقتصادية التي سبقت الحرب العالمية الثانية وتميزت بركود وبطالة وتضخم] قادت في نهاية المطاف إلى الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية.
لم يعقد الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء البريطاني العزم على كسب الحرب فحسب، بل أيضاً على إرساء الأساس في بناء سلام أكثر ديمومة واستدامة. وبات ذائعاً أن "ميثاق الأطلسي" Atlantic Charter الذي أصدره روزفلت وتشرشل خلال ذلك الاجتماع، حدد الرؤية العظيمة للزعيمين عن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي المقابل، غالباً ما يجري تجاهل أحد المجالات الرئيسة التي ركز عليها "ميثاق الأطلسي". إذ شجع ذلك الميثاق الاتجاه نحو انتعاش اقتصادي عالمي مصمم لإطلاق تقارب في الاقتصاد بين الدول الغنية ونظيرتها الفقيرة، يسير بتؤدة واستمرارية، ما يمهد الطريق أمام كوكب يكون خالياً من "الخوف والعوز".
في يونيو (حزيران) الماضي، التقى الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون على ساحل "كورنيش" في المملكة المتحدة كي يوقعا على "ميثاق الأطلسي الجديد" New Atlantic Charter. شكل ذلك الإعلان المشترك واحداً من بيانات والتزامات عدة قدمها الزعيمان الوطنيان منذ اندلاع جائحة "كوفيد- 19"، علماً أنها الأزمة الأخطر التي يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. في المقابل، وبغية الحيلولة دون نشوء أزمة في المستقبل، حري بالمجتمع الدولي أن يذهب أبعد مما أشارت إليه تلك البيانات، وكذلك التصريحات التي أطلقها قادة "مجموعة السبع"، أخيراً، بوصفها أموراً ممكنة التحقيق.
وعلى غرار مخاض أربعينيات القرن العشرين، يتوجب على العالم صياغة نموذج جديد تماماً في التنمية العالمية. إذ قسم كورونا المعمورة بين بلدان قادرة على تحمل وطأة الجائحة وأخرى ما زالت تنوء تحت رحمتها، ما كشف بوضوح صارخ إخفاقات النظام الحالي. وما لم تتخذ الولايات المتحدة ودول أخرى خطوات جديدة شجاعة نحو تعزيز الأمن الإنساني للجميع، سيترك ذلك التباين الجلي أجزاء كثيرة من الكوكب غارقة في خوف وعوز. في نهاية المطاف، سيتفشى انعدام الأمن إلى جميع الدول، فيمسي العالم أكثر هشاشة أمام تغير المناخ، وظهور جوائح في المستقبل، والتهقهر الديمقراطي.
في الواقع، في مقدور العالم أن ينأى بنفسه عن مصير كهذا. أمام زعماء العالم اليوم فرصة في الاتفاق على "ميثاق كوفيد" COVID charter يلزم البلاد باتخاذ الخطوات اللازمة في إيصال اللقاحات المضادة لفيروس كورونا إلى العالم بأسره، ودحر الآثار المترتبة على تغير المناخ. سبق أن شرع القادة في البلاد الأكثر ثراء في تطبيق تدابير من ذلك القبيل في بلدانهم، بيد أن لجم أي أزمة مقبلة، يستلزم من حكومات تلك البلاد ونظيراتها في البلاد المنخفضة الدخل أن تحذو الحذو عينه بالنسبة إلى العالم النامي. للوفاء بذلك، على الولايات المتحدة وسائر العالم التزام ميثاق عالمي جديد وتنفيذه، حرصاً على أن تكون البشرية مهيأة في مواجهة التحديات الجسيمة المقبلة.
التزام في زمن الحرب
في الأشهر التي أعقبت اجتماع روزفلت وتشرشل على متن السفينة "يو أس أس أوغوستا"، شرع صانعو السياسة الاقتصادية في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في وضع خطط عن نظام ما بعد الحرب الذي يضمن أن جيوش البلدين لن تضطر أبداً إلى خوض حرب عالمية ثالثة. في يوليو (تموز) 1944، فيما القتال مشتعل في منطقة النورماندي بعد إنزال "يوم النصر" [دي داي] D-Day، استقبل المسؤولون الأميركيون والبريطانيون ممثلين عن 42 دولة أخرى في "بريتون وودز" في ولاية "نيو هامبشاير" الأميركية، بغرض وضع نظام عالمي متعدد الأطراف يرمي إلى البدء مجدداً في عملية الإنماء، وإعادة فتح باب التجارة الدولية، فضلاً عن الاستجابة إلى الأزمات.
وقد تمثل إحدى نتائج ذلك اللقاء في "مؤسسات بريتون وودز"Bretton Woods institutions، التي أُعدت بغرض توجيه الاقتصادات نحو التصنيع وربطها ببعضها بعضاً تجنباً للتباين في ما بينها الذي ثبت قبل الحرب العالمية الثانية، أن تكلفته كبيرة جداً. وبالتالي، سيقرض "البنك الدولي" موارد مالية إلى الدول ذات السيادة من أجل إعادة البناء ثم إرساء الأسس لإنماء واسع النطاق، وسيعمل "صندوق النقد الدولي" ("آي أم أف" IMF) على إخماد نيران الحرائق الاقتصادية قبل أن تزداد استعاراً وتنتشر.
واستطراداً، أدت الولايات المتحدة دوراً رائداً في المساعدة على الدفع بعجلة النمو العالمي. عبر "مشروع مارشال" Marshall Plan، استثمر المسؤولون الأميركيون ما يربو على 13 مليار دولار، أي ما يفوق 150 مليار دولار اليوم، في إعادة بناء الصناعات والبنية التحتية المدمرة في 16 دولة في شتى أنحاء أوروبا. ولاحقاً، في 1961، أنشأ الرئيس الأميركي جون كينيدي "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية". صحيح أن بعضاً من تفاؤلها المبكر خفت وسط إخفاقات "الحرب الباردة" في فيتنام، غير أن "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" حققت نجاحات فعلية. مثلاً، ساعدت شراكة الوكالة مع كوريا الجنوبية في بناء القوة الزراعية والصناعية المهولة التي أدارت الاقتصاد المعجزة في ذلك البلد، وقد بدا ذلك أكثر إثارة للدهشة بالمقارنة مع الخراب المجاور لحدوده في كوريا الشمالية.
وليس مستغرباً أن تلك المبادرات عكست عقلية العصر المتمحورة حول الدولة. تملك قادة الغرب خوف من تمكن الفاشيين، أو الشيوعيين، أو الراديكاليين الآخرين، أن يقودوا الاستياء الاقتصادي إلى السلطة، ويخلقوا تالياً تهديدات أمنية لجيرانهم وبقية العالم. وبهدف منع نشوب حرب عالمية أخرى وتعزيز الاستقرار، سعى المسؤولون إلى تحديث الاقتصادات كي تتمكن كل دولة من توفير الأفضل لمواطنيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في تطور تالٍ، آتت تلك الاستراتيجية أكلها إلى حد بعيد. لم تكن المحصلة مجرد انتعاش من الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية في أوروبا وآسيا، بل شملت أيضاً عصراً ذهبياً في النمو الاقتصادي. بين عامي 1961 و1970، شهدت الاقتصادات المتقدمة نمواً قوياً بلغ 5.0 في المئة سنوياً. ازدهرت الطبقات الوسطى، وحدثت طفرة المواليد، وشُكلت شبكات الأمان الاجتماعي. جاء النمو مدفوعاً جزئياً بمكاسب تحققت في الاقتصادات الأقل تقدماً التي نمت بمعدل 5.5 في المئة سنوياً بفضل عمليات نقل التكنولوجيا والاستثمارات الخاصة والمساعدات.
في نهاية القرن العشرين، تسارع فعلاً معدل التقارب بين الدول الغنية والفقيرة. وشهدت الفترة بين 1995 و2015، مرحلة "الطفرة الكبيرة" بحسب تسمية الخبير الاقتصادي الأميركي ستيفن راديليت. إذ تصاعد الناتج المحلي الإجمالي الفعلي في البلدان النامية بمتوسط 4.7 في المئة سنوياً، وتلك وتيرة أسرع بأشواط من نظيرتها في البلدان المتقدمة. وحدث شطر كبير من ذلك الازدهار تحت قيادة الصين ودول شرق آسيا الأخرى، لكنه شمل أيضاً مكاسب مهولة لدول أفريقيا وأميركا الجنوبية. خلال الفترة الزمنية عينها، جرى انتشال ما يزيد على مليار شخص من براثن الفقر.
القوى المعاكسة في القرن الحادي والعشرين
على الرغم من ذلك التقدم المحرز، واجهت أهداف التنمية العالمية صعوبات بالغة في التكيف مع احتياجات عالم آخذ في التغير. إذ أحدثت الأزمات العابرة للحدود، من قبيل الجوائح والركود الاقتصادي العالمي وتغير المناخ، فوضى في حياة سكان العالم الأكثر هشاشة. لقد أضحى العالم أكثر ترابطاً، ما أعطى زخماً للنمو، لكنه ترك أيضاً أناساً كثيرين مكشوفين أمام تلك الأزمات. واصل الناتج المحلي الإجمالي لبعض البلاد ارتفاعه، مع أن كثيراً من مواطنيها استمر في الافتقار إلى الرعاية الصحية والتعليم والغذاء، وضروريات أخرى.
وبالتالي، استناداً إلى أسباب من بينها التنمية العالمية، يعتري العالم اليوم قلق أقل بشأن الدول الفاشية المارقة أو الشيوعية العازمة على إشعال حرب عالمية ثالثة. في المقابل، ينبع بعض المخاطر العالمية الأكثر أهمية وإلحاحاً من مكامن ضعف تشوب عالماً مترابطاً. إذ تستطيع الحوكمة السيئة في الدول الفاشلة أن تزعزع استقرار المناطق وتخلق ملاذات للإرهابيين، بحسب ما شهد العالم في أفغانستان. وكذلك يمكن للصدمات الاقتصادية العالمية، كتلك التي نتجت عن الأزمة المالية التي اندلعت في 2008، أن تجلب على نحو سريع تحديات جسيمة للأمن الغذائي في كثير من البلاد المنخفضة الدخل. وعلى نحو مماثل، يؤدي توظيف الدول استثمارات غير كافية في مجال الرعاية الصحية إلى إفساح المجال أمام مسببات الأمراض المعدية كي تزعزع استقرار مناطق عدة، بل العالم برمته، وفق ما فعلت فيروسات نقص المناعة البشرية/ "الإيدز"، و"إيبولا"، و"زيكا" في العقود الأخيرة.
من زاوية مقابلة، استجاب المتخصصون في مجال التنمية إلى تلك التحديات عبر صب انتباههم على "الأمن البشري" الذي نقل تركيز التنمية بعيداً عن الإنماء على مستوى الدولة، ووجهه صوب المواطنين الأفراد. وفق "الأمم المتحدة"، يتمثل "الأمن البشري" في "تحرر الأشخاص من الخوف والفاقة، وحصولهم على فرص متساوية في التمتع بجميع حقوقهم وتطوير إمكاناتهم البشرية بشكل كامل". في ذلك الصدد، لا شيء أكثر دلالة على ذلك من "أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة" التي حددت 17 هدفاً يتوجب تحقيقها بغية وضع نهاية للفقر وتحسين مستويات الصحة والتعليم وتعزيز المساواة بين الجنسين والاستدامة البيئية، مع حلول سنة 2030. لم تعبر "أهداف التنمية المستدامة" التي نالت موافقة قادة العالم في 2015، عن مجرد نجاح التنمية فحسب، بل أيضاً طموحها وتركيزها المتناميين.
في المقابل، اتسم نموذج التنمية العالمية بأنه محدود جداً وجامد ومتمحور حول الدولة، وموارده أقل من أن تتيح له تحقيق تلك المبادرة التاريخية. في نهاية الأمر، تمول "مؤسسات بريتون وودز"، التي بقيت طويلاً إحدى ركائز النمو والاستقرار، دولاً بهدف خدمة مصالح دول أخرى. إذا لم تقدر حكومة ما في بلد منخفض أو متوسط الدخل، أو لم ترغب، في الاستجابة لمصاعب تواجه الناس والمجتمعات المحرومة، فغالباً ما تذهب متطلبات هؤلاء أدراج الرياح. إذا اعترض اقتصاد متقدم خطط تنمية دولة أو منطقة ما، غالباً ما تتأخر تلك المبادرات أو تُترك بلا تمويل تماماً. نتيجة لذلك، في عصر تحدده تحديات عابرة للحدود الوطنية وسريعة الحركة، ظلت تلك المؤسسات مكرسة لمهمات قديمة متوارثة وافتقرت غالباً إلى الموارد والمرونة اللازمتين في اتخاذ خطوات إضافية.
على غرار مخاض أربعينيات القرن العشرين، يتوجب على العالم صياغة نموذج جديد تماماً في التنمية العالمية
في تطور مماثل، ثبت أنه من المحال على الأسواق أو الحكومات أو المؤسسات المتعددة الجنسيات أن تجد بمفردها حلولاً لبعض المشاكل العابرة للحدود. وعلى الرغم من إحراز شراكات بين القطاعين العام والخاص بعض النجاح في الاستجابة إلى تلك الإخفاقات، لا سيما في مجال الصحة العامة، إلا أن تلك الإنجازات لم تتكرر على نطاق واسع. مثلاً، جمعت "خطة الرئيس الأميركي الطارئة للإغاثة من الإيدز" (اختصاراً "بيبفار" PEPFAR)، مع "الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا"، شركات الأدوية وخبراء الصحة العامة والمسؤولين الوطنيين بغية مساعدة العالم في مواجهة فيروس مدمر جداً. إضافة إلى ذلك، حشد "غافي" GAVI، "التحالف العالمي للقاحات والتحصين"، صناعة الأدوية والحكومات والعلماء من أجل توفير اللقاحات لـ822 مليون طفل في 77 دولة إبّان السنوات العشرين الماضية. ولكن لسوء الحظ، عاب تلك التحالفات ونجاحاتها، أنها ضئيلة جداً وفصلت بينها فترات زمنية طويلة. مثلاً، على الرغم من التطورات التكنولوجية الجديدة، عجزت الأسواق والحكومات على حد سواء، عن إيصال التيار الكهربائي بشكل يعول عليه إلى مختلف أنحاء العالم. وحتى سنة 2018، بقي ثمانمئة مليون شخص يعيشون في الظلام.
وفي زاوية مختلفة، تعرض النظام العالمي أيضاً للتحدي على يد أحد نجاحاته. إذ تحقق صعود الصين بفضل النظام الاقتصادي العالمي الذي حث على التقارب بين الدول الغنية ونظيرتها الفقيرة، لكن النموذج الصيني للتنمية العالمية لم يستمد شكله دائماً من الدروس المستخلصة على مدى الثمانين عاماً الماضية. عبر مبادرة "الحزام والطريق" Belt and Road Initiative (طريق الحرير الجديد، وفق تسمية أخرى)، مولت المؤسسات الصينية مشاريع ضخمة تمس الحاجة إليها في أفريقيا وآسيا الوسطى وأوروبا الشرقية. في حالات كثيرة، ساعدت تلك المشاريع الدول على بناء بنية تحتية ضرورية. ولكن في حالات أخرى، أثبتت تلك المبادرات التي أغفلت أفضل الممارسات المتعلقة بالقدرة على تحمل الديون ومكافحة الفساد والإشراف البيئي، أنها أقل فائدة بالنسبة إلى الأمن البشري مما كان ممكناً.
سنة تلو أخرى، تبدّى أكثر عجز نموذج التنمية العالمية عن التعامل مع حقائق القرن الحادي والعشرين. لقد سعى العالم إلى منع الجوائح بعد أزمة فيروس "إيبولا" التي ضربت غرب أفريقيا في 2014، أو أبرم "اتفاق باريس 2015" الرامي إلى مكافحة تغير المناخ، لكنه لم يلتزم توفير الموارد أو الإصلاحات المطلوبة في تحقيق تلك الأهداف. ومع تنامي عدم المساواة في الولايات المتحدة والدول المتقدمة الأخرى، اكتسب الشعبويون من أمثال دونالد ترمب، ومروجو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) وغيرهم، القوة كي يقوضوا المساعدات الخارجية والنظام العالمي المتعدد الأطراف. وبذا، صار مسرح العالم مهيأ أمام نشوب كارثة وتفاقم التباعد بين الدول الغنية والفقيرة.
عالم منقسم
إذاً، انكشف العالم حيال خطر وخيم قبل أن تضربه جائحة "كوفيد- 19". وقد أدى الإخفاق في إطلاق استجابة تنموية قوية في مواجهة الجائحة، إلى زيادة ذلك التهديد بلة. هكذا، انكمش النمو العالمي بنسبة 4.4 في المئة سنة 2020، وتكبد الاقتصاد العالمي 11 تريليون دولار أخرى في العام الحالي. كذلك تعثر التقدم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وتشير توقعات إلى أن الجائحة قد دفعت بحوالى 100 مليون شخص إلى هوة الفقر المدقع السنة الماضية، في أول ارتفاع لمستوى الفقر منذ عقدين. ومن شأن زيادة كبيرة في معدلات العوز على تلك الشاكلة، أن تقود البشرية إلى حافة الهاوية. ووفق "برنامج الأغذية العالمي" التابع للأمم المتحدة، يتهدد خطر المجاعة ما يزيد على 270 مليون شخص، أي ضعفي المعدل المسجل قبل جائحة كورونا.
على الرغم من أن القوة الاقتصادية لم تحدد ربما مدى نجاح بلد ما في التخفيف من وطأة الأضرار التي أحدثتها الجائحة في مجالي الصحة والاقتصاد أثناء السنة الأولى من انتشارها، وفق الخبير الاقتصادي أنغوس ديتون، لكن يبدو مؤكداً أن الأداء المتبع في المدى الطويل يرتهن بها [القوة الاقتصادية]. إذ نجحت البلاد المتقدمة، من بينها الولايات المتحدة، في تزويد اقتصاداتها بمجموعة حوافز مالية ونقدية تساوي 24 في المئة تقريباً من ناتجها المحلي الإجمالي، وفق "صندوق النقد الدولي". في المقابل، عجزت البلاد ذات الدخل المنخفض عن اتخاذ خطوات مشابهة. إذ فعّلت الاقتصادات الناشئة تدابير تحفيزية مالية ونقدية لم يُعادل متوسطها سوى ستة في المئة من إجمالي ناتجها المحلي، فيما اعتصرت البلدان المنخفضة الدخل أقل من 2 في المئة [كتدابير تحفيز مالية ونقدية].
بصورة عامة، لم تكن المساعدة الخارجية كافية لسد تلك الثغرة في الموارد. على الرغم من أن الدول المتقدمة المانحة التزمت تقديم أكثر من 161.2 مليار دولار من المساعدات الخارجية للدول الفقيرة في 2020، غير أن المبلغ المذكور يشكل إضافة لا تزيد على 3.5 في المئة مقارنة مع نظيره المرصود في العام السابق، بل يعادل مجرد واحد في المئة مما أنفقته تلك البلدان [المتقدمة] على التحفيز داخل حدودها. في الوقت نفسه، على الرغم من أن "صندوق النقد الدولي" قد زاد موارد الإقراض المتاحة للبلدان المنخفضة الدخل، فإن القروض التي قدمها "البنك الدولي" والمؤسسات المتعددة الأطراف الأخرى جاءت أقل قوة إلى حد كبير في 2020، لا سيما عند مقارنتها بالاستجابة الكبيرة التي حظيت بها الأزمة المالية في 2008.
واستطراداً، تنبئ تلك الانقسامات الاقتصادية بأنها ستزداد اتساعاً في الأشهر والسنوات المقبلة، إذ تمكنت الدول المتقدمة أيضاً من شراء مئات الملايين من الجرعات المضادة لـ"كوفيد- 19"، فيما أجبرت البلاد الفقيرة على انتظار تلك اللقاحات أو مضت من دونها. في ذلك الصدد، يسعى برنامج "كوفاكس" Covax، المبادرة العالمية التي تستكمل برامج اللقاحات الوطنية في العالم النامي، إلى تحقيق معدل تطعيم بنسبة 27 في المئة في البلاد المنخفضة والمتوسطة الدخل خلال العام الحالي. ويلاحظ أن ذلك الهدف المرصود بعيد جداً عن معدل التحصين العالمي الضروري الذي يرى الخبراء أنه يجب أن يساوي 70 في المئة من السكان، كي يوفر مناعة كافية لدحر الفيروس. حتى منتصف يوليو (تموز) الماضي، تلقى 37 في المئة من السكان في أميركا الجنوبية، و26 في المئة في آسيا، و3 في المئة في أفريقيا، جرعة تحصينية واحدة في أقل تقدير.
واجهت أهداف التنمية العالمية صعوبات بالغة في التكيف مع احتياجات عالم آخذ في التغير
استناداً إلى تلك المعطيات، نجد أن انعدام الأمن البشري آخذ في الارتفاع، إذ يعيث الفقر والجوع والمرض دماراً في حياة ملايين من الناس حول العالم. ولا يكمن السؤال في إمكانية أن يتخلف العالم النامي أكثر عن ركب البلدان الأكثر تقدماً في اقتصاداتها، بل في مدى تخلفه، وكذلك مدى قدرته على الذهاب في اتجاه التعافي أصلاً. قبل نشوء أزمة كورونا، توقع "صندوق النقد الدولي" أن تلتحق 110 اقتصادات ناشئة ونامية بالاقتصادات المتقدمة بين عامي 2020 و2022. وحاضراً، يقدر أن 58 من تلك الاقتصادات سوف تتقهقر وتفقد مكانتها. وبالتالي، يحذر خبراء كثيرون من بينهم كريستالينا جورجيفا، التي تتولى منصب المديرة العامة لـ"صندوق النقد الدولي" وجانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية، من "تباعد كبير" يفصل بين الدول. ويُعزا ذلك إلى التمسك بنهج "العمل على النحو المعتاد" في عالم التنمية. وبالتالي، لا يمكن أن يتاح لذلك النهج بالاستمرار.
مخاطر التباعد الكبير
حري بسكان الدول الغنية ألا يتوهموا أن ما أوردناه مجرد قصة حزينة تقضّ مضجع الناس في أصقاع بعيدة. في الحقيقة، يطرح التباعد الكبير بين البلدان خطراً هائلاً على دول العالم جميعها.
إذ يزداد فقر الناس في مختلف أنحاء العالم، وكذلك يصبحون أيضاً أقل أمناً. ويقدم أحد الإحصاءات صورة مروعة جداً في ذلك الشأن. إذ يُتوقع أنه دُفع بما يربو على 500 مليون شخص إضافي تحت خط الفقر المتزايد الاتساع منذ 2020، ما يعني أنهم يعيشون على أقل من 5.50 دولار يومياً. في أجزاء كثيرة من العالم، يمثل أولئك الأشخاص العمال المأجورون في القوى العاملة، ويشكلون أساس الهرم الاقتصادي الذي يطمح كثيرون ممن يقبعون في مستوياته الدنيا إلى الانضمام إليه، فيما يعتمد عليه كثيرون ممن يعيشون ضمن الشرائح العليا منه، في العمل والإنفاق الاستهلاكي. مع انزلاق أعداد كبيرة من الناس إلى ما دون تلك العتبة، لم يعد مجتمع العمالة المأجورة قادراً على أن يشكل القوة المحركة للنمو الجامع.
وفي ظل غياب أي تدخلات إنمائية كبيرة، سيكون تفاقم الفقر والمعاناة معضلة تطول عقوداً طويلة. ونتيجة تقلص فرص الحصول على الرعاية الصحية، نجد الناس أكثر عرضة للإصابة بمضاعفات خطيرة بسبب كورونا، أو مرض آخر. كذلك أحدث الفيروس تحولاً في الاقتصاد العالمي، غير عابئ بالموظفين والعمال الذين لا تسمح لهم طبيعة أعمالهم بإنجازها عن بُعد، أو الذين لا يستفيدون من الكهرباء أو يفتقرون إلى الاتصال بالإنترنت المطلوب لمتابعة العمل عبر الشبكة. ولا يبعث على الاستغراب أن سوق العمل لن تتعافى سريعاً في العالم النامي. إذ توقعت "منظمة العمل الدولية" أن الجائحة ستحرم 200 مليون شخص، غالبيتهم من النساء، من وظائفهم في العام المقبل.
في نهاية المطاف، سيفضي ذلك المستوى من انعدام الأمن البشري إلى تفاقم حال عدم الاستقرار التي يتخبط العالم فيها. وحينما تعترض الحكومات صعوبات كثيرة تحول دون تلبيتها احتياجات مواطنيها، يُرجح أن تعرب أعداد إضافية من الناس عن استيائها في الوطن أو تختار الهجرة إلى دول مجاورة. ويفيض التاريخ بأمثلة جمة على دول متعثرة خاضت حروباً بهدف الاستيلاء على موارد محدودة، أو وقف التداعيات الآتية من دول أخرى، أو مجرد تشتيت الانتباه عن مشاكل تعتريها في الداخل.
وعلى نحو مماثل، من شأن التباعد الكبير أيضاً أن يقوض الاستجابة العالمية لتغير المناخ. وحتى قبل نشوء الجائحة، تقاعس العالم عن اتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من ظاهرة الاحترار العالمي وفق ما ينص عليه "اتفاق باريس". إذ شهد الكوكب تسارعاً في الآثار المناخية التي اتضح أن وقعها أسوأ بالنسبة إلى الفئات الأكثر ضعفاً. للأسف، يستلزم الحد من تغير المناخ تحركاً من الدول كافة، غير أن العالم شديد الانقسام إلى حد يعوق التوصل إلى إجماع حول تلك المسألة. وكي تؤدي البلاد المنخفضة الدخل دورها، يتعين أن نربط مكافحة تغير المناخ بتطورات إيجابية يحظى بها مواطنوها الأكثر هشاشة.
واستطراداً، فيما تصبح الأزمات العابرة للحدود الوطنية أكثر تواتراً، سيزج بفقراء العالم في حلقة مفرغة. أحد هؤلاء رافائيل كوردوفا، رجل في سن الخمسين يعيش قرب ليما، عاصمة جمهورية بيرو، عمل قبل الجائحة في قسم الموارد البشرية في مجلس بلدي. ووفق صحيفة "نيويورك تايمز"، استطاع ذلك الأب لثلاثة أطفال إعالة أسرته، وانتظر مع زوجته توأمين حينما ضربت الجائحة العالم. وفي مايو (أيار) 2020، انضم كوردوفا إلى لائحة طويلة تجاوزت مليوني مريض بكوفيد- 19 في بيرو. ثم خسر وظيفته بعدما ثبتت إصابة زوجته بالفيروس وخضعت لولادة مبكرة. بعد ذلك، فقد الزوجان أحد التوأمين المنتظرين.
اتضح أنه محال على الأسواق أو الحكومات أو المؤسسات المتعددة الجنسيات أن تعالج بمفردها بعض المشاكل العابرة للحدود
في وقت قصير، انحدرت فرص كوردوفا وعائلته إلى القاع. في ظل غياب الوظيفة وكون الاقتصاد الوطني في سقوط حر مستمر، لم يتمكن رافائيل من دفع إيجار المنزل، أو فاتورة الهاتف المحمول الذي شكّل الرابط الوحيد بين أولاده الأكبر سناً ومدرستهم المغلقة جراء كورونا، أو حتى العثور على الأموال اللازمة كي تحظى ابنته المتوفاة بمراسم دفن ووداع لائقة. في النهاية، انتقل كوردوفا إلى مخيم عشوائي على تلة قرب ليما تطل على ساحل المحيط الهادي، حيث رسم مربعاً في التراب كي يحدد أرضه.
لن يكون كوردوفا بمفرده. سيزداد عدد تلك المآسي الشخصية ما دام التباعد الكبير مستمراً. وستكون الفئات الأشد ضعفاً أوائل الناس والأكثر تأثراً بالتهديد المزدوج المتمثل في كوفيد- 19 وتغير المناخ. وفق "معهد الاقتصاد والسلام"، يمكن أن تدفع أزمة المناخ 1.2 مليار شخص إلى النزوح من مناطق عيشهم مع حلول 2050. وبصورة فعلية، لقد ضربت العالم متحورات من كوفيد- 19 أكثر قدرة على العدوى، ونتيجة معدلات التطعيم المنخفضة في كثير من البلاد النامية سيزيد بلا ريب تفشي تلك الطفرات كي تضحى أشد خطورة. وفعلياً، تدك متحورة "دلتا" البلاد غير المحصنة باللقاحات المضادة للفيروس وتهدد الانتعاش في نظيرتها المتقدمة. كذلك تستطيع تلك الطفرة أو غيرها أن تقتل ملايين البشر، وتبدد كل الاستثمارات والجهود التي بذلت في سبيل إنهاء الجائحة.
الوقت المناسب لـ"ميثاق كوفيد"
حينما كتب روزفلت وتشرشل "ميثاق الأطلسي"، أدركا أنه يتعين عليهما النظر أبعد من الأزمة الراهنة من أجل إرساء أسس مستقبل أكثر سلاماً. ويتعين على قادة اليوم أن يظهروا المقدار عينه من الطموح والبصيرة. لا ينبغي أن يختزل هدفهم بإنهاء الجائحة فحسب، بل عليهم أيضاً أن يجعلوا عالم ما بعد الجائحة مستداماً بما يكفي لمنع ظهور أزمة عابرة للحدود في أعقابها.
واستكمالاً، يتوجب على دول العالم أن تعلن "ميثاق كوفيد" الذي يجب أن يوضح أن الأزمات العابرة للحدود التي تؤثر في السكان الأكثر ضعفاً، تشكل الخطر الأكبر في المدى القريب بالنسبة إلى الاستقرار الدولي. على الميثاق أن يضع الأمن البشري على رأس أهداف التنمية للقرن الحادي والعشرين. إنها الطريقة الوحيدة للتصدي بفاعلية لكوفيد- 19 وتغير المناخ، اللذين يسعهما استهداف الناس الضعفاء سواء في ليما، أو لوساكا عاصمة زامبيا، أو لينكولن في ولاية نبراسكا الأميركية.
فيما لا تزال الجائحة مستعرة، قد يبدو محالاً تحقيق تعاون طموح كذلك بين البلاد. قبل أن يسمع العالم بكوفيد- 19، تنامت قوة الشعبوية والقومية، ومن المحتم أن يمتنع أنصار التيارين السياسيين عن الوفاء بالالتزامات العالمية الجديدة اليوم. وكذلك تخاطر المنافسة بين الدول، لا سيما بين الصين والولايات المتحدة، بتشتيت الاهتمام الدولي وتحمل العالم على إضاعة تلك اللحظة الحاسمة من العمل المشترك المنسق.
وفي مقلب آخر، لا وقت للاستسلام أو لليأس. لقد فتحت التطورات السياسية في شتى أنحاء العالم نافذة من الفرص لاتخاذ ذلك النوع من الإجراءات الجريئة المطلوبة بهدف إنهاء التباعد الكبير بين الدول. في واشنطن، أظهر بايدن أنه جاد في التزامه وقادر على أخذ دور القيادة العالمية. وشكل دعم إدارته للتبرعات باللقاحات في الخارج، وكذلك دعمها العمل المتعدد الأطراف عالمياً، عاملاً ضرورياً في التقدم المحرز حاضراً في الاستجابة للجائحة. وبطريقة مماثلة، تؤدي الصين أيضاً دوراً طموحاً في القيادة العالمية، وربما تكون قدرتها على الإسهام في بلورة الاستجابة للجائحة مؤشراً رئيساً عن مدى جاهزيتها في أداء ذلك الدور. أما في أوروبا، فيتوق المسؤولون إلى إحراز تقدم بشأن تغير المناخ بهدف درء الكارثة.
في ملمح مغاير، يبقى الشيء الأهم ماثلاً في أن الجائحة قد تطورت. ربما لقحت البلاد المتقدمة جزءاً كبيراً من مواطنيها ضد الفيروس، لكن لا يمكنها أن تتجاهل التهديد الذي تطرحه عليها المتحورات الموجودة خارج حدودها. ومع كل تقرير يتحدث عن ظهور طفرة جديدة تنخفض أسواق الأسهم، وكل يوم يمر يفاقم خطر ظهور سلالة أخرى من الفيروس أكثر قدرة على العدوى وأشد فتكاً. في ذلك الصدد، أشار تحليل نهضت به مؤسسة "روكفلر" التي أتولى منصب الرئيس فيها، إلى أنه حتى مع تطعيم نسبة كافية من السكان في البلاد الناشئة والنامية، ما سيستغرق ربما 18 شهراً أخرى أو أكثر، يُرجح أن تتطور المتحورات من أربعة إلى ستة أضعاف في البلاد ذات المستوى المتدني من التطعيم وكذلك في البلدان العالية التحصين. وبانتظار أن تصل الجائحة في العالم النامي إلى خواتيمها، سيكون أي تعافٍ في البلاد المتقدمة هشاً. بناءً على ذلك، سيكون في مقدور زعماء الدول المتقدمة تعزيز المساعدة الإنمائية بوصفها استثماراً في حماية مواطنيهم واقتصاداتهم المحلية من عودة ظهور الجائحة.
في الأصل، تهدد العالم خطر كبير حينما اندلعت جائحة كورونا
واستكمالاً، بغية حماية الجميع من التهديدين المزدوجين المتمثلين في الجائحة وتغير المناخ، على العالم أن يلتزم بـ"ميثاق كوفيد" بغية اتخاذ إجراءات جريئة وملحوظة تعزز الأمن البشري. وتبدأ تلك الخطة بإحياء التقارب بين الدول كلها. ويتوجب على العالم أن يردم عاجلاً فجوة في الموارد تقدر بتريليونات الدولارات في دول الاقتصادات النامية ونظيراتها الصاعدة.
وكذلك ينبغي أن يتضمن "ميثاق كوفيد" خمسة التزامات على الأقل. أولاً، على الدول ذات الاقتصادات المتقدمة أن توافق على تخصيص واحد في المئة في أقل تقدير من ناتجها المحلي الإجمالي للمساعدات الخارجية، ما سيمد مساعدات التنمية بنحو 100 مليار دولار. وتالياً، ستغير تلك التعهدات الاتجاه السياسي المدمر الذي رأيناه، أخيراً، في المملكة المتحدة، المتمثل في تنصل بلدان من مساعدات خارجية سبق أن التزمت بها. يجب أن تنتصر تلك المبادرة الجديدة في الاستدامة البيئية، ومكافحة الفساد، وتعزيز فرص العمل الحقيقية، داخل الاقتصادات المحلية.
ثانياً، يمكن أن يشكل التزام المساعدات الخارجية من جانب البلاد المتقدمة، جزءاً من اتفاق إطاري مع الاقتصادات النامية، تتعهد فيه الأخيرة بتعزيز قدراتها الذاتية. ويتوجب على القادة في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل التعهد بتحمل المسؤولية عن تطعيم السكان وإعادة بناء الاقتصادات على نحو شامل. كذلك ينبغي أن يلتزموا تحقيق مستوى أكبر كثيراً من تعبئة الموارد المحلية. حالياً، ترفع البلاد المنخفضة الدخل المكافئ للإيرادات الحكومية، في المتوسط، إلى أقل من 14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين تقترب البلاد ذات الدخل المتوسط من 20 في المئة. يمكن أن يبلغ الهدف في "ميثاق كوفيد" 25 في المئة في أقل تقدير، الذي من شأنه، عند اقترانه بالنمو الاقتصادي المستمر، أن ينتج تريليونات من الدولارات على مدى سنوات من التمويل المخصص لحماية الفئات الضعيفة من السكان.
ثالثاً، على المساهمين وقادة المؤسسات الالتزام بصياغة تصور جديد بشأن هيكلة مؤسسات "بريتون وودز" من أجل الاستجابة للأزمة المزدوجة [الجائحة والمناخ]. ففي سياق الجهود التي بذلتها، أخيراً، في توسيع نطاق المساعدات الطارئة في أفغانستان والصومال وجنوب السودان وغرب أفريقيا، جهدت مؤسسات "بريتون وودز" جاهدة كي تنتج الابتكار على النطاق اللازم وبالسرعة المطلوبة. لم يختلف الأمر خلال السنة الماضية. ولكن مع القيادة القوية والإصلاحات الخلاقة، تستطيع تلك المؤسسات أن تثبت أنها أساسية لإنهاء التباعد الكبير. وكذلك أظهر "صندوق النقد الدولي" بقيادة جورجيفا أنه الأكثر قدرة على التكيف خلال الجائحة. ويمضي قدماً حالياً في خطة إصدار 650 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة التي يمكن أن تزيد الاحتياطات الرسمية لدى الدول الأعضاء. إذا وافق المساهمون على ما يُعرف بـ"إعادة تدوير" حقوق السحب الخاصة، يمكن أن توفر الأخيرة 100 مليار دولار لدعم اللقاحات وتعزيز الانتعاش الأخضر المتوافق مع البيئة، وما دام التباعد الكبير مستمراً، يمكن لـ"صندوق النقد الدولي" الاعتماد على تلك الطريقة مجدداً كي يضخ مزيداً من السيولة في البلاد ذات الاقتصادات النامية.
وبصورة مماثلة، ينبغي استخدام موارد "البنك الدولي" وبنوك التنمية المتعددة الأطراف الأخرى، بحرص أكبر. وفيما انخفضت أسعار الفائدة بشكل غير مسبوق، تستطيع تلك البنوك جمع وإقراض تريليون دولار إضافي عبر تحديث متطلباتها في كفاية رأس المال، ما يعطيها القدرة على تحقيق زيادة في النفوذ. علاوة على ذلك، عبر تبني حلول التمويل المبتكرة على غرار جمع موارد جديدة من جهات مانحة عامة، خصوصاً في شكل منح رأس مال وضمانات، تستطيع تلك المؤسسات أن تقدم شروطاً أكثر جاذبية للجهات المقترضة بالمقارنة مع منتجاتها التجارية التقليدية. واستطراداً، فمن شأن تلك المبادرات وغيرها تمكين البنوك من تعبئة الموارد الخاصة بشكل أكثر فاعلية كي تحقق مهماتها.
رابعاً، على قادة القطاع الخاص والعمل الخيري الالتزام بالعمل مع الحكومات بغية المساعدة في تطعيم العالم ودعم الانطلاق في التعافي الأخضر الرؤوف بالبيئة. في العقود الأخيرة، أظهرت الشراكات بين القطاعين العام والخاص قدرة خاصة في حل المشكلات العالمية وتصحيح إخفاقات السوق. وبهدف مواجهة تلك الأزمات ومنع غيرها من الظهور، يحتاج العالم إلى توسيع تلك الشراكات بغية فتح باب أحدث العلوم والتكنولوجيا والابتكار على مصراعيه أمام السكان الأكثر ضعفاً في العالم، الذين طالما كانوا آخر المستفيدين من التطورات الجديدة.
في سياق متصل، لقد حقق "التحالف العالمي للقاحات والتحصين" نجاحاً هائلاً فعلياً في تحصين أطفال العالم، وينبغي توسيع نطاق اختصاصه في إنتاج وتوزيع اللقاحات اللازمة للقضاء على جائحة كورونا. في الوقت نفسه، يتوجب على "منظمة الصحة العالمية" والجهات الفاعلة في القطاع الخاص والمؤسسات الخيرية، السعي إلى منع اندلاع جوائح في المستقبل عبر دمج بياناتها الخاصة بالجوائح والطب وغيرهما، وإنشاء نظام للإنذار المبكر [من الجائحات] والاستجابة لها. كذلك سيكون مطلوباً وجود علاقات تعاون مماثلة بين القطاعين العام والخاص تكون متمتعة بموارد جيدة، كي تحدث تغييراً في أنظمة الغذاء العالمية، وتمد مختلف أنحاء العالم بطاقة كهربائية صديقة للمناخ.
وتذكيراً، لقد تمثل أحد أوجه التقدم العظيمة في التنمية العالمية على مدى العقود القليلة الماضية، في الدقة المتزايدة بقياس النتائج وتقديم تقارير بشأنها.
وخامساً، يتعين على جميع الموقعين على "ميثاق كوفيد" الالتزام بقياس مدخلاتهم ونواتجهم عبر طرق تتماشى مع المبادئ المتفق عليها في "المنتدى الرفيع المستوى بشأن فاعلية المعونة"، الذي انعقد في "بوسان" بكوريا الجنوبية سنة 2011، وأن يخضع عملهم لرقابة منتظمة من جانب "مجموعة السبع" و"مجموعة العشرين" و"مجلس الأمن" التابع لمنظمة الأمم المتحدة.
عبر تفعيل "ميثاق كوفيد"، يستطيع العالم أن يتعامل ما قد يصل إلى مئات المليارات من الدولارات، مع الإشارة إلى أنه مجرد التزام صغير نسبياً قياساً إلى نطاق التحدي، كي تحدث تأثيراً تصل قيمته إلى تريليونات الدولارات بالنسبة إلى المجتمعات الأكثر ضعفاً في العالم. سيمثل ذلك الاستثمار إعادة التزام بالأمن البشري وأهداف التنمية المستدامة، ما يمنح الناس والدول في مختلف أنحاء العالم الفرصة للنجاة والازدهار في السنوات المقبلة.
تستطيع الولايات المتحدة قيادة العالم في رحلة تعافيه من الأزمة الحالية
من الأزمة إلى الفرصة
حينما أبحر روزفلت وتشرشل إلى الوطن من "نيوفاوندلاند"، استمر العالم في التخبط بأزمته، لكن طرفاً ثالثاً رافقهما تمثّل في الالتزام المشترك بمحاولة جعل العالم مكاناً أفضل. بعد مضي 80 عاماً، يمكن لقادة العالم مجدداً تعزيز التقارب والتعاون للحد من الخوف والعوز في العالم. ومع اقتراب الموعد المقرر للقمة المقبلة في روما لـ"مجموعة العشرين" إبّان خريف العام الحالي، حري بنا ألا نخسر أي دقيقة من الشروع بالعمل على إطلاق تلك المبادرة الدبلوماسية.
تمثل لحظة الحاضر وقت مخاطرة عظيمة، وإن اختيار الطريق الأسهل الأقل مقاومة يمكن أن تترتب عليه عواقب وجودية. ولكننا أيضاً، للمرة الأولى منذ زمن طويل، أمام فرصة حقيقية. مع الإجراءات التي سبق أن اتخذتها إدارة بايدن، يمكننا الآن أن نتخيل الجائحة والتباعد الكبير وقد انتفيا من العالم. عبر المضي بخطوات جريئة الآن، تستطيع الولايات المتحدة أن تقود العالم في تعافيه من الأزمة الراهنة، وتمهد الطريق أيضاً أمام مستقبل أكثر ديمومة وازدهاراً وشمولية.
لنفكر في كوردوفا الذي يعيش في بلد سحقه "كوفيد- 19" ويتهدده بشدة تغير المناخ. إذا أخذت تلك المبادرات طريقها نحو التنفيذ، يمكن للرجل الحصول على لقاح مضاد للفيروس في الوقت المناسب كي يحمي نفسه من المتحورة التالية التي تجتاح أميركا الجنوبية. وفي وسعه أن يتحمل تكلفة خطة هاتف محمول جديدة، التي ستسمح له بالرجوع إلى العمل ولأطفاله بالعودة إلى المدرسة. ومع وجود مشاريع لإبطاء تغير المناخ، فقد يتجنب النزوح والصدمات الاقتصادية في المستقبل.
حتى لو أن حياة شخص ما ربما تبدو صغيرة على امتداد التاريخ، يمثل كوردوفا تذكيراً بالمزايا التي يكتنزها النهوض بحال الأمن البشري في مختلف أنحاء العالم. سيرسم "ميثاق كوفيد"، على غرار "ميثاق الأطلسي"، الأمل بالنسبة إلى كوردوفا وإلى مليارات الآخرين من الناس في غمرة إحدى أسوأ الأزمات التي هزت العالم منذ 80 عاماً تقريباً. إذا تحقق الميثاق، لن تكتفي التزاماته بإنقاذ أولئك الناس من "كوفيد- 19" فحسب، بل ستدشن أيضاً حقبة جديدة من تعاون عالمي، يعزز العالم من خلاله مرة أخرى التقارب بين دوله ويضمن الحقوق الأساسية لكل فرد المتمثلة في التحرر من الخوف والعوز.
* راجيف ج. شاه رئيس مؤسسة "روكفلر" Rockefeller Foundation. بين عامي 2010 و2015، شغل منصب مدير "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" U.S. Agency for International Development.
مترجم من فورين أفيرز
سبتمبر/ أكتوبر 2021