أحد أكثر الأفلام التي انتظرناها هذا العام في مهرجان البندقية السينمائي 1 - 11 سبتمبر (أيلول)، هو الوثائقي الذي أنجزه المخرج الإيطالي جوسيبي تورناتوري عن الموسيقار الكبير الراحل انيو موريكوني، وأطلق عليه اسمه الأول "انيو". الفيلم يقع تقريباً في ثلاث ساعات ويمكن القول إن مشاهدته متعة خالصة للأذن والعين في آن واحد. هذه المشاهدة استطاعت أن تبث فينا البهجة التي امتنع عنها كثير من الأفلام الواقعية التي تنقل مآسي العالم. هنا، يغرقنا تورناتوري في كل ما يتشكل منه عالم موريكوني الذي لم يركع يوماً لشيء آخر غير الموسيقى، ولم يتفرغ في حياته لسواها. فكان نوعاً ما راهب الموسيقى الذي وهب لها حياته. والبهجة التي تسيطر علينا لا تتأتى من سماعنا بتلذذ شديد موسيقاه فحسب، بل من إدراكنا أننا عاصرنا أحد كبار الفنانين في القرن العشرين، الذي تذكّرنا أعماله بمقولة نيتشه "إن الحياة من دون موسيقى غلطة".
"انيو" ليس وثائقياً عادياً، بل هو من النوع الإبداعي، أي إنه ينطوي على لغة سينمائية، فلا يكتفي بتسجيل مقابلات وإدراج بعض مشاهد الأفلام بينها. احترام مخرج "سينما باراديزو" وحبه لموريكوني كبيران جداً، وأعتقد أن ما كان لهذا الفيلم أن يبصر النور بهذا الشكل، لولا هذا الحب وهذا الاحترام اللذان هما في صميم الفيلم، مع الذكر، أن تورناتوري وموريكوني عملا على أفلام عدة وتجاوزت الروابط بينهما روابط العمل.
عشرات الشهادات
في الفيلم، عشرات الشهادات القيمة التي يدليها أشخاص عملوا مع موريكوني، أو عاصروه، أو درسوا شغله جيداً. من هؤلاء، برناردو برتوللوتشي ونيكولا بيوفاني وكلينت إيستوود وداريو أرجنتو وهانز زيمر والأخوان تافياني وبروس سبرينغستين وكوانتن تارانتينو وغيرهم كثر لا يتسع المجال هنا لذكرهم جميعاً. موسيقيون، ممثلون، مخرجون، كل هؤلاء استطاعوا أن يقولوا شيئاً ما عن موهبة رجل استثنائي، أحياناً بكلمات مقتضبة ولكن دالة، وفي أحايين أخرى باسترسال محبب. لكن، الفيلم لا يقتصر على الشهادات، ولو أنها مهمة. بل يعرفنا على موريكوني من خلال لقاء طويل أجراه تورناتوري معه قبل رحيله في طبيعة الحال. من خلال هذه المقابلة، نكتشف فعلاً الرجل الثمانيني على حقيقته، بعيداً من الصورة التي ارتسمت في مخيتلنا من خلال موسيقاه.
الفيلم ينطلق من طفولته عندما كان يعزف على آلة النفخ للأميركيين في الحانات مقابل الحصول على طعام، ثم يعبر كل مراحل نمو شخصيته الموسيقية، وصولاً إلى الأعمال التي قدمها، فتعاونه مع كبار السينمائيين في إيطاليا والعالم. ويختتم بالمجد الذي حصده خلال جولاته الموسيقية الحاشدة التي حملته إلى جميع أنحاء العالم. إن وجود مثل هذا الجانب طبيعي في أي وثائقي يروي سيرة شخصية معينة. لكن، في المقابل، ما هو نادر هو اللغة الصريحة التي يتحدث فيها للكاميرا كأنه يجلس وحده مع تورناتوري. يا لصدمتنا حينما نعلم أنه لا يحب بعض ألحانه التي نعشقها، وأنه عانى طوال حياته من عقدة نقص حيال الموسيقيين الذين لطالما اعتبروا تأليف الموسيقى للأفلام عملاً لا يمت للفن الموسيقي بصلة. بدءاً من معلمه ومثاله الأعلى غوفريدو بتراسي الذي كان ينظر إلى الموسيقى التصويرية كشيء عديم المستوى. عانى موريكوني من هذه النظرة الظالمة والمحدودة والضيقة والرجعية حيال عمله، حد أنه هو نفسه كان يؤمن بأنها نظرة صحيحة، قبل أن يتغلب عليها. في آخر الفيلم يعترف بأنه كان مخطئاً.
موسيقى 500 فيلم
الفيلم متشعب جداً لا تنفع معه محاولة في تناول تفاصيله. فنحن نتحدث هنا عن أكثر من 60 عاماً من تاريخ موسيقى تصويرية، وعن 500 فيلم زينها موريكوني بألحانه. مع ذلك، لا يبخل تورناتوري على المُشاهد بكم من التفاصيل والمعلومات. فهو مصمم على عدم إنجاز فيلم سطحي احتفالي محض (ولو أنه سيصبح احتفالياً في الدقائق الأخيرة)، والسبيل الوحيد لتجنب هذه السطحية هو التوقف مع كواليس تأليف الموسيقى لعشرات الأفلام التي تُعد محطات أساسية في سجل موريكوني، وتكشف تطوره الفني والاتجاهات الجديدة التي راح إليها عبر الزمن. تعليقات موريكوني مؤثرة وبالغة الأهمية، فهي تضيء على جوانب كثيرة تستحق الاطلاع عليها وتروي تفاصيل تعاونه مع السينمائيين ونقاشاته وخلافاته معهم. نعلم مثلاً، ومن ضمن عشرات المعطيات التي يفيض بها الفيلم، أن الرجل ألف كثيراً من الأغاني الضاربة في بداياته قبل الالتحاق بالسينما، وكان تخصص في مرحلة بأفلام الـ"وسترن" الهابطة قبل أن يعطيه سرجيو ليوني فرصة أن يطلق العنان لمخيلته النادرة في مجال التأليف الموسيقي، وذلك من خلال "ثلاثية الدولار". كان يكره كذلك استخدام الأفلام لموسيقى جاهزة، في حين بدا لي أن هاجسه المهني الأكبر كان عدم تكرار ذاته، محاولاً التجديد الدائم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفيلم يتأخر أيضاً عند قضية الـ"أوسكار" التي نالها مرة واحدة (يوم لجأ إليه تارانتينو لتأليف موسيقى فيلمه "البغيضون الثمانية") وخسرها ست مرات، علماً أن "هوليوود" كانت كرمته بـ"أوسكار" فخرية كنوع من اعتذار له. من خلال تناوله قضية الـ"أوسكار"، ود تورناتوري الحديث عن رد اعتبار من الوسط السينمائي تأخر كثيراً في حالة موريكوني.
اعتدنا متابعة كواليس تصوير الأفلام والخدع البصرية، لكن سماع مؤلف موسيقي، وهو أكثرهم ثورية، يتحدث عن مصادر الوحي المجهولة عند الجمهور العريض، فهذا أمر يُشكر عليه تورناتوري، خصوصاً أن الشرح يأتي على لسان المايسترو الذي يدهشنا بقدرته على تذكر أشياء حدثت قبل عقود بتفاصيلها الدقيقة، لا بل يعطي روحاً للفيلم عندما يدندن بعض الألحان بحماسة شديدة كأنها تولد الآن في هذه اللحظة. رجل حساس يحدثنا والدمعة عالقة في عينه دائماً وأبداً.
يقول تورناتوري الذي عمل مع موريكوني طوال أكثر من 30 سنة، إن هذا الفيلم هو حلم تحقق. فهو كان طوال السنوات التي عرف فيها المايسترو عن قرب، كان يسأل نفسه أي فيلم يمكن أن ينجزه ليعبر فيه عن شخصيته، وكل ما صنع أهمية هذا الرجل الذي تجمع كل الشهادات بأن لا أحد نافس موهبته الفطرية في إيجاد اللحن الصح للمشهد المناسب.