منذ أن أطلق الإمام أبو الحسن الأشعري (توفي في عام 936 ميلادية – 325 هجرية) على كتابه حول مقالات الفرق الإسلامية المستحدثة عنوان "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين" في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، كان واضحاً أنه أطلق ذلك المصطلح (الإسلاميين) لتمييزه عن مفهوم المسلمين، وتحرزاً من أن يشمل المسلمين ما استحدثته مقولات فرق "الإسلاميين" الكلامية الدخيلة على عقائد المسلمين.
نقول، منذ إطلاق ذلك التمييز الذكي في عنوان كتاب "إمام الأشاعرة" (وهو مذهب عقيدة غالبية علماء المسلمين السنة عبر التاريخ)، كان واضحاً أن هدفه من ذلك تبيان ما أحدثته تلك الفرق الكلامية من تفسيرات منحرفة لعقائد المسلمين لعبت دوراً بعد ذلك في التأثير على واقعهم.
ويمكن القول بكل ثقة، إن هذا المصطلح (الإسلاميين) الذي أحياه دُعاة الإسلام السياسي في القرن الـ20 كنعت يتصفون به تمييزاً لهم عن بقية المسلمين لناحية يتوهمون معها قيمة مضافة عن عامة المسلمين، هو الذي يجسد اليوم طبيعة الهوية الانشقاقية الانقسامية التي جلبتها جماعة الإخوان المسلمين للمجتمعات المسلمة. وكان لتفاعلات ذلك الفهم "الحركي" للإسلام أن أسس، فيما بعد، عبر تلك الهوية الانشقاقية الخطيرة لأحداث وممارسات عبرت عن خطاب هوية أيديولوجي كان هو السبب الرئيس منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي في بروز ما سمي آنذاك الصحوة الإسلامية، خصوصاً أن ازدهار خطابها أتى بعد فشل الخطاب والتجريب الأيديولوجيين لكل من الحركات اليسارية والقومية التي حكمت منذ الخمسينيات والستينيات كثيراً من بلدان العالم العربي عبر الانقلابات العسكرية، وفشلت فشلاً أدى إلى كوارث.
وكان واضحاً أن تفاعلات خطاب الصحوة الإسلامية قد أبرزت في الواقع السياسي جماعات متطرفة وعنيفة يمكن تصنيفها جميعاً كجماعات كانت بمثابة الوليد الشرعي لخطاب الإسلام الحركي الذي ابتدعه الشيخ حسن البنا بتأسيسه جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928، أي تلك الجماعات التي انشق بعضها عن الإخوان المسلمين، مثل "التكفير والهجرة" و"الجماعة الإسلامية" في السبعينيات، وصولاً إلى "القاعدة" و"داعش" كجماعات تبنّت السردية الحركية نفسها للإسلام السياسي على نحو أكثر عنفاً وتطرفاً.
في السودان، كان هذا الخطاب الهوياتي للإخوان المسلمين قد أدى إلى قيام دولة لهم عبر الانقلاب العسكري لعمر البشير وحسن الترابي في عام 1989، ذلك أن الأيديولوجيا الإسلاموية التي ورثها الترابي عن الإخوان المسلمين، وطورها باتجاه زعم أنه تجديدي، كانت بطبيعتها تنطوي على تناقضات مدمرة، ولا يمكن أن تُفضي إلا إلى الخراب والانقسام العمودي والفوضى والفساد. بمعنى آخر، إن تحويل الدين إلى دولة على غرار الدولة القومية الأوروبية الحديثة – دولة وستفاليا - (وهو أمر مستحيل، لكن أيديولوجيا الإسلاميين ترى جوازه) كان لا بد أن يفضي، في حال التجريب الكامل للإسلاموية السياسية، إلى جريمة كاملة، وهي الجريمة التي استمرت 30 عاماً في السودان منذ قيام الانقلاب المشؤوم للبشير.
لقد كان الأمر هكذا ببساطة: بما أن جاهلية القرن الـ20 هي شر عمّ مجتمعات المسلمين عبر الاستعمار، فإن الحل في حال الوصول إلى السلطة هو في إعادة صياغة حياة المسلمين صياغة "إسلامية" (على ما في هذا من مفارقة)، وبما أن الصياغة هي صياغة أيديولوجية في حقيقتها، وليست إسلامية بالضرورة، كان لا بد أن تتكشف الفظائع بالضرورة أيضاً.
وهكذا، فإن خطاب الهوية المؤدلج الذي مارسه الإخوان المسلمون في السودان عبر سياسات دولة، وكرست له وزارة، هي وزارة "التخطيط الاجتماعي"، كان في حقيقته خطاباً يضمر استفزازاً لهوية مجتمع المسلمين التاريخية في السودان، (فضلاً عن أن تنفيذ فهمهم المحرف لمفاهيم إسلامية شرعية، كالتكفير والتمكين والشريعة والجهاد، أفضى إلى تطبيقات لعبت دوراً كبيراً ومدمراً في المجتمع السوداني). فكان بكل بساطة على مجتمع عامة المسلمين المتعدد والمتنوع بالسودان أن يتكيف مع التطبيقات والمبادئ التي جلبها الإسلام السياسي عبر الانقلاب والسياسات الحكومية. والمفارقة الطبيعية التي تحدث في مثل هذه المواقف أن يكون حتى اسم الجماعة ذاته (الإخوان المسلمين) مستفزاً لهوية عامة المسلمين في المجتمع السوداني (وفي غيره من مجتمعات المسلمين).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولقد أدّى ذلك الخطاب الهوياتي للإخوان المسلمين (من حيث إنه خطاب هوية مؤدلجة ولا يعكس تعبيراً معرفياً عن الإسلام) عبر ممارسات سياسات السلطة والدولة في السودان إلى ردود فعل قوية وعنيفة من طرف المجتمع السوداني (من المسلمين والمسيحيين) في الجوانب السياسية والتاريخية على مدى 30 عاماً، بما شكّله من استفزاز عميق لكافة المكونات السودانية. وأدّى إلى لحظة انفجار هائلة ومضادة من طرف تلك الهويات السودانية في ردود فعلها على خطاب الدولة الهوياتي للإخوان المسلمين.
وكانت النتائج الكارثية لهذا الخطاب الهوياتي المؤدلج في الاجتماع السياسي للسودانيين: انفصال الجنوب، وحرب أهلية كبرى في دارفور، وحركات تمرد في الشرق، وتدمير جهاز الدولة السودانية العام ونظامها المدني وبناها التحتية في عديد من جوانب ما تبقى من تركة الجهاز المدني والتعليمي والإداري الذي توفر للسودانيين بعد الاستقلال في عام 1956.
إلى جانب ذلك، كان خطاب الهوية المؤدلج للإخوان المسلمين قد مارس تخريباً شمل البنى والهياكل العامة لنظم الإدراك التي طوّرها السودانيون من حياة اجتماعية وسياسية وتاريخية عكست هوية مستقرة للسودانيين، وورثت كثيراً من جوانب السوية في الجهاز الإداري للدولة الذي خلّفه الاستعمار الإنجليزي، لا سيما في نظم التعليم والخدمة المدنية والبنى التحتية، بحيث يمكننا القول إنه بعد فشل المشروع الحضاري للترابي - البشير في إعادة صياغة المجتمع السوداني كان التخريب، بعد ذلك، يستهدف، في جزء أساسي منه: إشاعة الفوضى.
لقد كانت الخطيئة الكبرى في تجربة الإخوان المسلمين وإدارتهم للدولة السودانية عبر انقلاب دام 30 عاماً على هذا النحو من الفداحة في حياة السودانيين، من حيث إن للخطاب الديني تأثيره القوي في شعب متدين على نحو حر كالشعب السوداني (الذي ظل تاريخياً خارج منظومة الفتوحات الإسلامية) ودخل في الإسلام عبر الطرق الصوفية بطرائق حرة وطوعية، لهذا فقد لقي الشعار الخادع للإسلاميين بتطبيق الشريعة تجاوباً مع طبيعة هذا الشعب المتدين.
لكن، ونتيجة لغياب خبرة عميقة بالدولة وعلاقة تاريخية بنظمها في السودان، لم تكن ردود فعل المجتمع السوداني سريعةً وحاسمةً مثل ردود فعل الشعب المصري الذي عرف سريعاً إلى ماذا سيقوده الإخوان المسلمون عندما جربوا سنةً واحدةً من حكمهم عقب انتخابات عام 2012، فكانت ثورة المصريين الثانية ضد الإخوان المسلمين في صيف عام 2013 أكبر دليل على الوعي المبكر بخطورة حكم الإسلام السياسي. كما لم يعكس الشعب السوداني ردود فعل سلبية في التفاعل مع تجربة الصحوة الإسلامية (التي كانت مقدمة تسويغية لحكم الإسلاميين) على النحو الذي عبر عنه المجتمع الكويتي الذي تمكن بفضل الحريات والتعليم من أن يكون الوحيد الذي نجا من تأثيرات "الصحوة الإسلامية" عليه، لا سيما خلال عقد الثمانينيات.