جاء فوز الشاعر العراقي نصيف الناصري بجائزة حلمي سالم، في دورتها الثانية، التي نظمها "منتدى الشعر المصري" ليتوج مساره مع إنتاج شعري شديد الخصوصية منذ ديوانه الأول "جهشات"، مروراً بـ"أرض خضراء مثل أبواب السنة"، و"قبر في الذاكرة"، و"في ضوء السنبلة المعدة للقربان"، وصولاً إلى مخطوط ديوانه الفائز وعنوانه "الثلاثية الأولى"، الذي أصدرته حديثاً دار "الأدهم" في القاهرة. إضافة إلى الدواوين التي نشرها على الإنترنت مثل "ولاء إلى جان دمو"، و"أشياء ما بعد الموت"، و"خياط الموت"، و"نار عظيمة تحمي الياقوت".
وأعمال نصيف الناصري، المقيم في السويد، تثبت تنوعاً وثراء في أشكال قصيدة النثر وابتعادها عن جماليات النمط الشعري الأحادي. وهي تراوح بين النمط الشعري الذي يجنح إلى البساطة والوضوح، والنمط المعتمد على المجاز التفعيلي، وكثافة اللغة. وأخيراً– وليس آخراً بطبيعة الحال– النمط الصعب الذي يغلب عليه التركيب والمجاز المفارق الذي يصدق عليه وصف القصيدة الحديثة "الزاجرة" لجمهورها والتي تحتاج إلى التأويل وإعمال مخيلة القارئ.
الشاعر الغيري
قصيدة نصيف الناصري يغلب عليها هذا النمط الأخير، فهي متأبية على المتلقي السلبي الذي ينتظر المعنى المنجز دون جهد أو تأويل. ويصدق على نصيف نفسه وصف الشاعر "الغيري"، بتعبير عباس محمود العقاد، بمعنى أنه ينحي الذات الفردية فلا نجد استخداماً لضمير "الأنا" بوصفه ضمير المتكلم المفرد؛ بل إنه يتحدث باسم الجماعة الذي هو صوتها المعبر من خلال تكرار ضمير المتكلمين "نحن". ودائماً ما يأتي هذا الضمير الجمعي في مواجهة ضمير الجمع الغائب "هم"، بما يعني وجود صراع دائم بين الجماعتين وأحياناً نجد تماثلاً أو تآلفاً مؤقتاً بينهما حين نقرأ على سبيل المثال في ديوانه الفائز بجائزة حلمي سالم: "طباعهم متماثلة معنا/ لكنهم يشوشون على الميت في لحظة احتضاره/ وليست لهم فضيلة الذئب باستيلائه على أسرار الحملان".
ولكن يظل الصراع هو السمة الغالبة على هذا الديوان، كما يظهر من قوله في قصيدة "اغتيالات جماعية": "زعماء قبائل ومذاهب يدمرون بفظاظتهم دفء أخوتنا ويتعدون على التغريدات الإلهية للطيور/ يورثون في لعبهم بالأسلحة على شواطئنا التي هدمتها حروبهم/ خزعبلات كثيرة إلى أولادهم وأحفادهم". واللافت في هذه السطور أن تلك "الفظاظة" التي تدمر دفء الأخوة وتلهو بالأسلحة على الشواطئ التي دمرتها حروبهم، متوارثة.
قناعة فكرية
هذه الأفكار الفظة التي لا تزيد على كونها من خزعبلات الطائفية التي تتمترس خلفها القبائل والمذاهب. والحقيقة أن هذه الرؤية ليست مجرد رؤية شعرية فحسب بل هي قناعة فكرية يؤمن بها الشاعر، كما يبدو في الكلمة التي أرسلها إلى لجنة الجائزة حين يقول: "شهدت وتشهد أزمان العالم منذ بدء الخليقة إلى الآن دورات واندفاعات مستمرة من البؤس والضرر الوحشي في جميع جوانب الحياة والطبيعة والإنسان".
تاريخ الإنسان على الأرض إذن هو تاريخ صراع بذرائع وهمية غير حقيقية من أوهام القبيلة والطائفة والمذاهب المختلفة. ومن هنا كثرت الدلالات المعبرة عن هذه الوضعية الوحشية من قبيل: صور الغرقى والقبور والطغيان والهاوية والمنفى والحروب والموت وغيرها. كما كثرت الثنائيات التي تتماثل فيها النقائض حين نحصي– على سبيل المثال– "الذين فقدناهم بعد نواح عظيم على الفاني والباقي". فلا فرق هنا بين "الفاني والباقي"، فكلاهما يستحق النواح العظيم على مصيره، بل إن الباقي هو الأكثر بؤساً لاستمرار مأساته. وأحياناً ما يتآلف ضميرا المتكلمين والغائبين، واللذان أشرت إليهما بوصفهما على طرفي نقيض– وهما كذلك بالفعل– حين نقرأ في قصيدة "العادي والزائل": "نرمم معهم في شقاء طويل عظام غرقاهم/ ونؤلف بين الحاضر والماضي".
لهذا يصبح سؤال الشاعر في قصيدة "حديقة عدن" سؤالاً مريراً عن نهاية تلك الأشجار الحبلى بالدراهم والثياب– لاحظ غرائبية الصورة– وذلك حين يقول: "لماذا أحرقوا أشجارهم الحبلى بالدراهم والثياب؟ نشاطهم/ في يومهم الذي يخلو من الروائح والطعوم/ صلاة معبأة بالشكوى من اقتلاعهم عن أرضهم التي تغني فيها اليعاسيب". واليعسوب ذكر النحل، هو رمز للتضحية بالنفس في سبيل استمرار الحياة حين يلقح الملكة ثم يستسلم للموت.
المحبة في المنفى
لا شك أن الاقتلاع من الأرض هو بدء المسيرة المهلكة التي كتبت على الإنسان كما يعبر عنها الشاعر في قصيدة "أسقامنا المحظوظة"؛ حين يقول: "مسيرة مهلكة عبرنا فيها الأرض العطشانة للآباء". وتصبح الحادثة الأعظم في تلك المسيرة عندئذ، هي "تصدع محبتنا في المنفى لأرض الوطن" وربما يكون هذا المنفى، لنتذكر أن الشاعر يعاني حقيقة هذا المنفى من سنوات في ابتعاده عن أرض الوطن وحياته في إحدى الدول الأوروبية شأن العديد من الشعراء العراقيين، أقول ربما يكون هذا المنفى أو المسيرة المهلكة، هو العقاب المتوقع لما يتوارثه الأبناء عن الآباء من نبذ الخير... "عادات متوارثة يتلقفها الأبناء عن الآباء في نبذهم لعمل الخير/ يجردون أنفسهم من القدرة على صداقة الرغيف".
هذه العادات المتوارثة من نبذ الخير تؤدي إلى فقدان الطريق إلى الفردوس الأرضي بوصفه الحلم الإنساني القديم الذي ما زال يخايلنا... "يغرق الكثير من الصخور التي تستخدم في العبور إلى الفردوس/ يلفظ الحب أنفاسه حين ننزع الشهامة عنه". هذه العادات تستدعي بدورها الإرث المنحط الذي تعوزه الاستقامة والذي يتمثل في الإبداع: "في القتل والتمثيل بجثة الربيع". يتجسد هذا الإبداع في القتل، وفي وحشية الآخرين الذين– كما يصفهم الشاعر– "أتلفوا العنب بحقولنا وأحرقوا سلال الخبز/ إبادتهم للنسيم في كل صيف تحطم معنوياتنا". وهكذا تبدو حياة الإنسان عموماً، كما لو كانت كما يقول الشاعر، نوعاً من "التكاثر في حنان الهاوية".
ولعلنا نلاحظ في الشواهد السابقة غلبة ظاهرة التشخيص من قبيل: يلفظ الحب أنفاسه والتمثيل بجثة الربيع وإبادة النسيم والتكاثر في حنان الهاوية. حتى نصل إلى درجة إقناع الميت بضرورة موته وعدالته ولا ننظر إلى ذلك السلوك بوصفه سلوكاً سيئاً ينبغي الاحتياط منه واجتنابه، ويصبح العشق ضرباً من المغامرة المحفوفة بالمخاطر والتي تنتهي غالباً بالموت بسبب الوشاة المتزمتين... "نصغي إليهم أثناء إصابتهم ببرق العشق/ ونخفف عنهم رهابهم مما يضمره لهم/ الوشاة المتزمتون عند القبائل المريعة".
دوام الطغيان
إننا حقيقةً، أمام ما يسميه الشاعر طبقاً لعنوان إحدى القصائد، "إدامة الطغيان"؛ سواء أكان هذا الطغيان راجعاً إلى سلطة القبيلة أو الطائفة أو المذهب أو العدو الخارجي، أم راجعاً إلى سلطة الكهانة. يقول الشاعر معبراً عن هذه الحالة: "أسى متوقع ليس لنا المقدرة فيه من الشفاء/ والاتصال بأولئك الذين يستبدون ويحركون بروق أسلحتهم/ فوق أبنيتنا التي بلا سقوف/ إدامة الطغيان شهرة يسعى إليها القراصنة/ الذين يحرمون على الآخرين عصرهم للعنب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبقى أن نشير إلى أن هناك ما يمكن أن نسميه بالسلطة الاجتماعية التي تتمثل في وجود طبقات عليا مرفهة في مقابل طبقة أخرى يعاني أفرادها من سوء التغذية أو لنقل بتعبير الشاعر، "شعور الطبقات العليا بالمحتد الكريم/ واحتقارها لمن يعانون من سوء التغذية/ وهم يفلحون العالم طوال حياتهم".
وتكمن المفارقة هنا، في أن هذه الطبقات العليا لا تعتد إلا بماضيها، بينما الطبقات التي تعاني من سوء التغذية هم من يرعون الحاضر حين يفلحون العالم طوال حياتهم. وأخيراً يمكن وصف شعرية نصيف الناصري بأنها شعرية الكشف والتعرية مهما بلغت درجة الإيلام، إنه يعري كل ما يراه من سوءات العالم ومآسيه بقسوة، فالشعر عنده هو كشف القبح والصرخة المؤلمة في وجه العالم. يقول في قصيدة "العادي والزائل": "نختزل الكثير من أفياء الصيف وندفن فيها العادي والزائل/ كل قبر أسيئت فيه كرامة الميت/ نزدريه ونستغني عنه/ وننقل الكافر إلى روضة/ يحرم الطير فيها على نفسه أذية الشرير". إن رحابة الشعر– في رؤية شاعرنا– تستوعب الشرير وتسعى إلى تقويم العالم بصوت متميز لا يتقاطع مع غيره من الأصوات الشعرية.