استهلَّ عالم النفس والطبيب النفسيّ السويسريّ كارل غُستاڤ يونغ (1875-1961) مسيرته العلميّة في صحبة الفيلسوف والطبيب وعالم النفس الفرنسيّ بيار جانِه (1859-1947) الذي طوَّر علم النفس التجريبيّ، معتمداً تصوّرَ عالم النفس الفرنسيّ الشهير تيودُل-أرمان ريبو (1839-1916) القاضي باستخدام المنهج الموضوعيّ العلميّ في استجلاء وقائع الوعي الإنسانيّ. ذلك بأنّ اللاوعي ليس سوى ضعفٍ في الوعي يجعل الإنسان خاضعاً لآليّات مسلكيّة لاإراديّة وتصرّفات تكراريّة جامدة. فضلاً عن ذلك، كان يونغ يبحث في الجنون المبكِّر مستعيناً بخبرة الطبيب النفسيّ السويسريّ أويغِن بلويلِر (1857-1939). واعتنى أيضاً، في أبحاثه الأولى، بمسألة تداعي الأفكار ونظريّة العقَد النفسيّة المركَّبة. بيد أنّه ما لبث أن دخل في حلقة فرويد، وأصبح من طلّابه النجباء وأصدقائه القريبين حتّى دعاه المعلّم وليَّ عهده في حقل التحليل النفسيّ. جرى اللقاء الأوّل بينهما في عام 1907، فتبادلا الآراء في مقابلةٍ اشتهرت بطولها وعمقها وكثافتها.
من بعد أن أسّس يونغ عام 1910 جمعيّة علم النفس التحليليّ العالميّة، انفصل عن معلّمه وصديقه فرويد، وقطع علاقته المعرفيّة والشخصيّة به، لا سيّما عندما أصدر أبحاثه في "تحوّلات الليبيدو ورموزه" (1912). حقيقة الحدث أنّ يونغ أعلن القطيعة عن فرويد في سلسلة محاضرات شهيرة ألقاها في جامعة فوردهام (نيويورك) في عام 1912، متناولاً النظريّة النفسيّة التحليليّة، وفي بردفورد كولِّدج (لندن) في عام 1914. معروفٌ أنّ فرويد عرّف الليبيدو (Libido) بأنّه حيويّةٌ منغرسةٌ في قاع اللاوعي تحرّكها الاندفاعاتُ الغريزيّة الجنسيّة التي تسيطر على جميع الميول العاطفيّة وتغتذي من أشكال الحبّ المتنوّعة، ومنها الحبّ النرجسيّ والحبّ العيليّ وحبّ الصداقة الخالص. بيد أنّ يونغ اعتمد سبيلاً آخر سمّاه علم نفس الأعماق، يعترف بانفطار الإنسان على بُعدٍ اتّصاليّ علائقيّ يتجاوز الذات، ويتجلّى في لا وعيٍ جماعيّ يضرب بجذوره في ماضي البشريّة السحيق.
من بعد أن أنهى يونغ دراسة الطبّ في جامعة بازِل السويسريّة، أعدّ أطروحة الدكتوراه في "علم نفس الظواهر المعتبَرة خفيّةً" (1902). وما لبث أن اضطلع عام 1906 بمسؤوليّة عيادة الطبّ النفسيّ في تسوريخ، يعلّم في جامعة المدينة عينها، ويتعاون وبيار جانِه في المستشفى الجامعيّ الباريسيّ السالبتيير (Salpêtière). أفضى الاختلاف مع فرويد إلى القطيعة في عام 1913، إذ إنّ يونغ كان يفضّل علم النفس المركَّب. في إثر ذلك، سافر إلى أنحاء شتّى من الأرض، فزار أفريقيا وأميركا الجنوبيّة والهند. في الثلاثينيّات من القرن المنصرم، درّس في جامعات لندن وهارڤرد ويال، وعُيّن أستاذاً في معهد البوليتِكنيكوم بمدينة تسوريخ. وعقد حلقاتٍ دراسيّة في بازِل في عام 1934 أثمرت كتاب "الإنسانُ باحثاً عن نفسه"، وفي جامعة يال الأميركيّة في عام 1937 أفضت إلى صدور كتاب "علم النفس والدِّين".
من سمات شخصيّته أنّه كان موضعَ إعجابٍ وتقديرٍ وإجماع، يوحي بالثقة، فيُعهَد إليه في رئاسة منتديات وجمعيّات شتّى: رئيس جمعيّة التحليل النفسيّ العالميّة (1911)، رئيس الجمعيّة الطبّيّة العالميّة في الطبّ النفسيّ (1933)، رئيس جمعيّة علم النفس التحليليّ السويسريّ (1957)، رئيس جمعيّة علم النفس التحليليّ العالميّة (1958). أمّا خصائص نظريّته النفسيّة، فالإعراض عن البناءات النظريّة العقائديّة المتصلّبة والخلاصات الفكريّة القاطعة النهائيّة.
مواضع الاختلاف بين فرويد ويونغ
لا ريب في أنّ أبرز مواضع الاختلاف مع فرويد تظهر في مسائل ثلاث: الليبيدو، اللاوعي الجماعيّ وهدفيّة التحليل النفسيّ. يحرّر يونغ مقام الليبيدو من سطوة الميول الجنسيّة، ويربطه بالطاقة النفسيّة الأرحب، أي بالمجال الحيويّ الذي ينبسط بين الأفراد، ويتجاوزهم ليبلغ وعي الجماعة الإنسانيّة. إنّها طاقةٌ جوّانيّةٌ شبيهةٌ بإرادة الحياة التي تصوَّرها الفيلسوف الألمانيّ شوبنهاور (1788-1860) وبالاندفاع الحيويّ الذي رسم معالمه الفيلسوف الفرنسيّ برغسون (1859-1941).
هذا في الاختلاف الأوّل. أمّا في الثاني، وهو الأخطر والأعمق، فيعتبر يونغ أنّ اللاوعي لا يجوز حصرُه، كما يفعل فرويد، في نطاق الفرد الواحد وسياق وجوده واختباره الشخصيّ، بل ينبغي أن نربطه بمقام الجماعة البشريّة كلّها. إنّه اللاوعي الجماعيّ الذي يستند إليه الوعيُ الفرديّ الشخصيّ. ينطوي اللاوعي الجماعيّ على قطاعَين: قطاع الانفعالات والميول البدائيّة، وقطاع غامض تخترقه قوًى أصليّة مجهولة ممتنعة الوصف. إنّه أشبهُ بكائنٍ خالد يتساكن فيه الجنسان الذكريّ والأنثويّ. لا يَنتج اللاوعي الجماعيّ من تطوّر الفرد النفسيّ، بل يقترن بالنماذج الأصليّة المثاليّة. ذلك بأنّه بنيةٌ فطريّةٌ، لصيقةٌ بأنساب البشر، تغمرها أهواءُ الإنسان البدائيّة، وتنبثق منها طاقةٌ جماعيّةٌ خلّاقة تتقدّم على الأفراد. وعليه، يعاين فيها يونغ مستودعاً غنيّاً من التجارب الآبائيّة الأسلافيّة العتيقة المتراكمة على تراخي القرون. وعليه، تتألّف النفس من ثلاثة قطاعات متداخلة متنافذة: الوعي، واللاوعي الفرديّ الشخصيّ، واللاوعي الجماعيّ. في تصوّر النفس هذا، يستخدم يونغ اصطلاحَين: المؤنّث الأنيما (anima) والمذكّر الأنيموس (animos)، الأوّل منهما يُكمِل ذكريّة الرجل، والثاني أنثويّة المرأة.
أمّا كيف ظهر اللاوعي الجماعيّ هذا في حياة الإنسان، فإنّ يونغ يلجأ إلى مفهوم المثال الأصليّ النموذجيّ (Idealtype) معرِّفاً إيّاه بأنّه صورةٌ بدائيّةٌ عتيقةٌ لا واعيةٌ معياريّةٌ منبثقةٌ من اختبارات المخيِّلة وإنتاجات الأحلام النوميّة. من الواضح أنّ يونغ متأثّرٌ بنظريّة الفلاسفة الرواقيّين الذين كانوا يعاينون في النفس الكونيّة أصلَ النفوس الفرديّة. لذلك اعتمد النماذج الأصليّة المثاليّة الرمزيّة التي تحتشد في الروايات الأسطوريّة، وفي المحكيّات المختلَقة الخرافيّة المستودَعة في قاع وجدان البشريّة. أمّا الجوّانيّة الفرديّة، فيتساكن فيها اللاوعي الجماعيّ واللاوعي الفرديّ، شرطَ أن يكون الثاني مرتكزاً على الأوّل متأثّراً به، إذ إنّ الوعي الجماعيّ يتجلّى في الأحلام والهذيان والهيجان الوجدانيّ والإبداع الفنّيّ الغريب.
وعلاوةً على ذلك، فإنّ النماذج الأصليّة المثاليّة هذه تُشبه بياناتٍ تخطيطيّة عامّة تضبط عمليّة التفكير والتصرّف. ولكنّها ليست بياناتٍ جامدة صلبة متحجّرة، بل تصوّرات حيّة ناشطة متحرّكة مدفوعة بشحنات انفعاليّة بالغة التأثير. لذلك تنشئ هذه المثُل بنًى تخيّليّة أصيلة قبْليّة (a priori) تدعم الرمزيّات الثقافيّة التي تتخطّى مستوى الأفراد. من جرّاء هذا كلّه، يستطيع اللاوعي الجماعيّ أن يُفصح عن ذاته في الصنيع الفنّيّ، وفي السرديّة الأسطوريّة، وفي المعتقدات الدِّينيّة، مُنشئاً عالماً ثقافيّاً غنيّاً بالابتكارات الرمزيّة البنّاءة. ومن ثمّ، فإنّ ثقافات المجتمعات الإنسانيّة تأتلف، على اختلافها، في انتسابها إلى الخلفيّة الرمزيّة الواحدة التي تنبثق منها النماذج الأصليّة المثاليّة هذه. ذلك بأنّ اللاوعي الجماعيّ يَظهر في الرموز الثقافيّة الكبرى المشتركة، كالفولكلوريّات المشهديّة، والروايات الشعبيّة، والمعتقدات الدِّينيّة، والابتكارات الفنّيّة، والاختلاقات الخياليّة الوهميّة الناشطة في رؤى النهار وأحلام الليل. زد على ذلك أنّ وظيفة النماذج الأصليّة المثاليّة تربط عالم النفس الداخليّ بعالم الأشياء والأحداث الخارجيّة. من هذه النماذج رمزيّاتُ الخلق، والولادة البتوليّة، وأشكال الحيّة، والأمّ الكبرى، والأنثى الأبديّة، والجنّة، والرقم 3.
أمّا الاختلاف الثالث، فيصيب هدفيّة التحليل النفسيّ. فالإنسان ليس أسيرَ ماضيه، مقيّداً باضطرابات داخله النفسيّ، إذ إنّ الأحلام تشرّع للإنسان آفاقاً تغييريّة إصلاحيّة بنّاءة منعشة. وعليه، ينبغي ممارسة التحليل النفسيّ من أجل استجلاء طبيعة اللاوعي الجماعيّ الثقافيّ الذي يحدّد شخصيّة الإنسان. ثمّة فروقٌ أخرى بين الرجلَين، منها على وجه الخصوص أنّ يونغ يرفض حصر العصاب النفسيّ (névrose) في اضطرابات الطفولة وحسب. فالعوامل التي تؤثّر في نفسيّة الإنسان تنبثق من عمق اللاوعي الثقافيّ المشترك الذي يرثه كلُّ واحد منّا، ويتفاعل وإيّاه تفاعلاً ذاتيّاً خالصاً.
تصنيف الطباع الإنسانيّة
إذا كان الأمر كذلك، فإنّ علم نفس الأعماق يتيح ليونغ أن يستجلي طبيعة الأرضيّة الثقافيّة المشتركة التي تجعل كلَّ فرد من أفراد البشر يشعر بانتماءٍ عميق الجذور إلى الجنس الإنسانيّ وإلى الكون الرحيب. من أفضل السبُل، والحال هذه، أن يتحرّى المرءُ في تاريخ الحضارة الغربيّة عن تنوّع الاختبارات الفرديّة والإفصاحات الشخصيّة والاستعدادات (Einstellungen) الذاتيّة لكي يدرك خصائص الطباع البشريّة. ليس المطلوب الاجتهاد في بناء لوحة بيانيّة تُفصّل هذه الطباع وتجزّئها وتصنّفها وتبوّبها، بل استخراج التوجّهات النفسيّة الأساسيّة وضمّها في تصوّر تفسيريّ ديناميّ منفتح.
في إثر الاستقصاءات النفسيّة هذه، يستخلص يونغ ضربَين أو نمطَين أساسيَّين يمهران الطاقة الجوّانيّة الحيويّة: النمط الانقباضيّ الإمساكيّ الانعزاليّ الانكباحيّ (introverti)، والنمط الانبساطيّ الإفصاحيّ الاستئناسيّ العشراويّ (extraverti). ينشأ النمط الأوّل من جرّاء انكفاء الطاقة النفسيّة الأصيلة إلى الداخل، في حين أنّ النمط الثاني ينعقد بفضل فيضان هذه الطاقة وتوجّهها إلى الخارج. ترسيخاً لهذا التصنيف، يعمد يونغ إلى استخراج أربع وظائف نفسيّة أساسيّة تتداخل وتتعارض في كتلتَين مؤلَّفتَين من عنصرين اثنَين متجابهَين. في الكتلة الأولى يتقابل الفكرُ والشعور، أمّا في الكتلة الثانية، فيتواجه الحدس والإحساس. في كلّ فرد من الأفراد، تتفاعل هذه الوظائف أو الملَكات تفاعلاً يتيح لنا أن نطوّر قدراتنا، ونعزّز مؤهّلاتنا، ونُغني إمكاناتنا.
عمليّة انبثاق الفرد واختبار الروحيّة الكونيّة
استناداً إلى هذا كلّه، لا يملك كلُّ واحد منّا إلّا أن ينبثق إلى حيّز الوجود فرداً ذاتيّاً متميّزاً من الآخرين، قادراً على الاعتراف بخصوصيّة كيانه. ما دام الكائن البشريّ ملتصقاً بالكون وبالآخرين، عاجزاً عن بلوغ وعيه الفرديّ والاحتذاء بالنماذج الأصليّة المثاليّة التي تستوطن لا وعيَه الخاصّ وتقترن اقتراناً وثيقاً ببنية اللاوعي الجماعيّ، فإنّه لا يستطيع أن ينهض في قائميّته الذاتيّة وفي استقلاليّته الناجزة. في هذا السياق، يستخدم يونغ مقولة التفريد أو التفرّد (individuation) يعني بها مسرى انبثاق الفرد المستقلّ في كياننا الذاتيّ. بواسطة هذا المسرى، ينجز كلُّ واحد منّا ذاته الخاصّة ويحقّقها ويكمِلها على قدر ما يتمايز عن الآخرين، ويختلف عنهم، وينفصل انفصالاً متدرّجاً. يبدأ التفرّد عملاً يضطلع به اللاوعي، ولا يلبث أن يستأنفه الوعي الفرديّ. في أثناء العمليّة الدقيقة العسيرة هذه، تدرك الأنا كيف تتعرّف إلى ذاتها، وتستوضح حدودها، وتستطلع إمكاناتها حتّى تفوز بحرّيّتها فوزاً واقعيّاً مسؤولاً.
زد على ذلك أنّ التفرّد يساعد اللاوعي الفرديّ في تحقيق دعوته الإنسانيّة في حياة كلّ واحد منّا وفي أعماله وإنجازاته. إنّه أشبهُ بمسرًى دينيّ يختبر فيه الإنسانُ الفلسفات الوسيطيّة الهرمسيّة الإبهاميّة السحريّة، والكيمياء العجائبيّة المذهلة، وفكر الطاويّة القائم على إكرام الأرواح والطبيعة والأجداد في مؤتلف واحد يضمّ أبرز عناصر اللاوعي الجماعيّ. في كتاب الذكريات الذي أنشأه يونغ في أواخر حياته، يوجز تصوّرَه هذا في عبارات بليغة: "حياتي تاريخُ لا وعيٍ أكمل تحقيقَ ذاته" (يونغ، حياتي: ذكرياتٌ وأحلامٌ وخواطر).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حقيقة الأمر أنّ التفرّد يرمي إلى تكوين مركز كيانيّ جديد في شخصيّة الإنسان يختزن المثال الأخلاقيّ الأرفع، ويقرّب الإنسان من الله. ذلك بأنّ هذا التفرّد اختبارٌ تطهّريٌّ منبثقٌ من معاناةٍ كيانيّة تشبه معاناة فوست (Faust)، فيُفضي إلى نشوء نظام أنتروبولوجيّ وكونيّ جديد. على غرار بطل غوتّه فوست، ينغمس الإنسانُ بموت ذاتيّ إراديّ مستخرج من اختبار الموت في أسرار إيزيس (Isis) الفرعونيّة، حتّى تتجلّى فيه سماتُ الشيخ الحكيم، وخصائصُ مثال الأرض الخصبة العظيمة التي تستوطنها أحشاءُ الأنثى. حين تتحوّل النماذج الأصليّة المثاليّة إلى عناصر الاختبار الذاتيّ الواعي، يتحرّر الرجل من صورة الأب، وتنعتق المرأة من صورة الأم، فتستيقظ الذات الفرديّة استيقاظاً روحيّاً، وتكتسب قدرة التمييز، وتتجاوز القيَم السائدة، وتتّحد بالله اتّحاداً صوفيّاً. بذلك يدرك المرءُ مغزى العبارة المحفورة على باب منزل يونغ والمستعارة من الفيلسوف واللاهوتيّ الكاثوليكيّ الهولنديّ إراسموس (1466-1536): "سيحضر الله، سواءٌ تضرّعنا إليه أو لم نتضرّع".