لن يكون من السهل البحث عن ذكر للعالمة النفسية روسية الأصل سابينا سبيلرين لا في السيرة الضخمة التي وضعتها الفرنسية إليزابيت رودنسكو والتي تعتبر الأحدث والأكثر اكتمالاً بين عشرات السير التي وضعت لرائد التحليل النفسي سيغموند فرويد، باستثناء هامش عابر لا يتعدى عدد كلماته العشرين كلمة ولا يعنى بها بقدر ما يعنى بمقال لها يتعلق بسيكولوجية الأطفال. ولا حتى في أي من مئات الصفحات التي روى فيها كارل غوستاف يونغ سيرته الذاتية بعنوان "حياتي". في الحالين تبدو السيدة كأنها لم تكن ولم تترك أي أثر على حياة أي من هذين العالمين الكبيرين. وغرابة الأمر هنا تكمن في أن السينمائي الكندي دافيد كروننبرغ أفرد فيلماً روائياً بأكمله جعل سابينا شخصيته المحورية الأساسية متحدثاً عن علاقتها المزدوجة بفرويد من جهة وبيونغ من جهة ثانية. بل أن السينمائي الذي يعتبر من أكثر سينمائيي العالم اهتماماً بالتحليل النفسي وتاريخه، يجعل من سابينا في الفيلم المعنون "منهج خطير" السبب إلى حد ما في الصراع الذي قام بين المؤسس فرويد وتلميذه الذي كان يفترض به أن يكون خليفته المعيّن ووريثه في تزعّم مدرسة التحليل النفسي. فمن نصدق هنا: التاريخ الرسمي وتاريخ فرويد ويونغ الذي لا يريد أن يعطي لسابينا ولو مكانة ضئيلة في تركيبته، أم الفيلم الذي يعطيها مكانة أكثر من أساسية وأهم من هامة في حياة الرجلين؟
عالمان غير منصفين
في الحقيقة أن ليس في وسع أحد الإجابة القاطعة عن هذا السؤال وإن كان في إمكاننا أن نفترض أن تناسي فرويد ويونغ لوجود السيدة في حياة كل منهما على حدة وفي حياتهما معاً، لم يكن دليل إنصاف من جانبهما. فالحقيقة أن سابينا سبيلرين وجدت حقاً وكانت مقربة من يونغ الذي كان في أول الأمر طبيبها النفسي المعالج هو الذي سرعان ما عرفها على فرويد فانتمت إلى مدرسته الفكرية حتى وإن كانت علاقتها الشخصية بيونغ ظلت الأقوى، حيث يصعب أن نتصور ارتباطها بأية علاقة خاصة مع فرويد. والفيلم لا يتحدث صراحة عن مثل تلك العلاقة مع المعلم مركزاً على علاقتها مع تلميذه. وربما كان كروننبرغ قد بالغ بعض الشيء في رسم تلك العلاقة الأخيرة بحثاً عن تشويق درامي في موضوع يسير بالتناغم مع اهتمام سينماه الدائم بالهستيريا ومتفرعاتها. ففي نهاية الأمر من الواضح أن "منهج خطير" هو فيلم عن الهستيريا وعن مكتشفات فرويد ومن بعده يونغ من حولها بحيث أن حكاية العلاقات الشخصية سرعان ما تبدو ثانوية الأهمية بعض الشيء. وهذا ما سيعيدنا طبعاً إلى حكاية سابينا نفسها التي بعدما كانت مريضة نقلت إلى العيادة السويسرية حيث كان يونغ يمارس الطب النفسي المتعلق بالهستيريا حتى من قبل أن يتعرف إلى فرويد ويتابعه في نظرياته ومن ثم ينشق عنه في خلاف بينهما حول النظرية الجنسية تحديداً وعلاقتها بالهستيريا، نراها في نهاية الأمر تتحول من مريضة إلى طبيبة تمارس مداواة المرضى ولا سيما الأطفال منهم إذ يصابون بالهستيريا، وتصبح ذات اسم في هذا الشأن قبل أن تموت مقتولة في مسقط رأسها مدينة روستوف الروسية عام 1942. وهذا كله حقيقة تاريخية نلاحظ أن الفيلم لا يتناولها إلا بصورة جانبية مع أنها تشكل في الحقيقة موضوعاً درامياً يفوق في أهميته وجاذبيته "الصراع المفترض بين فرويد ويونغ" من حول السيدة الحسناء.
ماذا يقول الفيلم؟
ولنتوقف هنا بعض الشيء عند الفيلم نفسه فهو عندما يبدأ نجدنا في سويسرا على الطريق إلى المستشفى الذي تقع فيه عيادة الطبيب الشاب كارل غوستاف يونغ النفسية في بورغوزلي. وفي عربة تجرّها خيول، تطالعنا الصبية ذات التسعة عشر عاماً وهي تصرخ وتتأرجح بشكل هستيري حتى تصل إلى العيادة حيث سيعتني بها الطبيب الشاب الذي كان اطّلع لتوّه على كتابات أستاذه فرويد الحديثة حول الهستيريا. وفي ذلك الحين كان منهج فرويد العلاجي يقوم على المعالجة بالكلام. أي عبر جعل المريض يتكلم ويتكلم في جلساته مع طبيبه... كما جعله يستمع إلى الطبيب. والحال أن هذا المنهج كان شديد الجدة في ذلك الحين (ومن هنا تحمل المسرحية التي اقتبس منها كروننبرغ هذا الفيلم عنواناً أصلياً هو "العلاج بالكلام"، علماً أن كريستوفر هامبتون كاتب المسرحية والمشارك في كتابة السيناريو، إنما كان اقتبس المسرحية من كتاب صدر قبل عقود عنوانه "منهج خطير") وعندما تصل سابينا إلى عيادة يونغ يبدأ هذا بمعالجتها في جلسات متتالية تروي بالتدريج له خلالها أحداثاً من طفولتها وصباها تكشف بالتدريج أن جذور هستيريتها إنما تكمن في معاملة أبيها القاسية بل العنيفة لها... وهذا كله يتم ضمن إطار منهج فرويد الذي سرعان ما يدخل على الخط بعد ذلك، إذ يزوره يونغ في فيينا وتدور بينهما سلسلة نقاشات تكشف عن خلاف بينهما سرعان ما يتحول بالتدريج إلى خلاف شخصي حين تتقدم أحداث الفيلم فتدخل فيه – بجدية أكثر هذه المرة – زوجة يونغ الأرستقراطية والتي تنجب له طفلاً بعد الآخر ما يلهيها عنه عاطفياً وربما جنسياً، فاسحة في المجال – من دون أن تلاحظ أول الأمر – لاشتداد رغبة خفية لديه في إقامة علاقة مع سابين.
علاقات متشابكة
أما العلاقة الحقيقية التي ستقوم بين هذه وطبيبها، فإنها ستنمو وتتجسد من طريق مريض – هو أصلاً طبيب نفسي سيكون له شأن لاحقاً في هذا المجال – يدعى أوتو غروس... وهذا التلميذ النجيب لفرويد – الذي كان هو من أرسله إلى يونغ كي يعتني به - سيكون هو من يكشف ليونغ رغبات هذا الأخير "الدفينة" في إقامة علاقة حقيقية مع سابين فيدفعه دفعاً إلى ذلك، وفي وقت كانت فيه سابين قد بدأت بالتحسّن، بل صارت راغبة هي نفسها في أن تتحول من مريضة إلى طبيبة ومحللة نفسية، وتتجسّد العلاقة بين الاثنين، بل أنها سرعان ما ترتدي سمات العلاقة المرضية التي سيصبح يونغ فيها الطرف الأضعف... أما سابين فإنها هنا، وفي الخلاف العلمي الذي راح يشتد بين فرويد ويونغ من حول المسألة الجنسية، تقف إلى جانب فرويد على الضد من طبيبها العشيق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الواقع خارج الشاشة
طبعاً هذا كله نجده في الفيلم، وربما نجد بعض أطرافه في سيرة حياة سابينا نفسها إنما من دون أن تدخل تلك السيرة في أية تفاصيل من الواضح أن لغة الفن قد اشتغلت عليها مسرحياً وسينمائياً، بحيث غطت تماماً على المكانة التي سوف تكون للدكتورة سابينا سبيلرين لاحقاً، أي طوال العقود الثلاثة التي ستعيشها بعد "حكاية الفيلم" مثبتة فيها مكانتها كعالمة ومحللة نفسية غير مبالية أكثر من اللازم بذلك الماضي الذي جعلها محور "صراع وتنافس" و"مبرر انشقاق" بين المحللين النفسيين الأكبر في تاريخ هذا العلم. وتقول لنا سيرة السيدة إنها بعد انفصالها عن يونغ التحقت بمدرسة فرويد الذي استند إلى ما كان رصده من علاقتها بتلميذه للاشتغال على بعض المفاهيم المتعلقة بالهستيريا. أما هي فإنها بعد فيينا توجهت إلى سويسرا حيث عاشت ردحاً متنقلة بين زوريخ ولوزان وجنيف ممارسة التحليل النفسي، وكان جان بياجيه واحداً من الحالات التي اشغلت عليها. وهي تزوجت بعد ذلك من بافيل شفتل الذي أنجبت منه ولدين لتنتقل إلى روسيا حيث انضمت إلى جمعية التحليل النفسي هناك ومارست التحليل، منتقلة إلى مسقط رأسها روستوف حيث راحت تمارس الطب العام والتحليل النفسي للصغار. ولئن كان زوجها وأخوتها وعدد من أفراد عائلتها قد قضوا نتيجة لسنوات الإرهاب الستالينية فإنها هي عاشت حتى عام 1942 حين قبض عليها النازيون لدى احتلالهم روستوف وأعدموها بين من أعدموا.