بعد أن كانت الميليشيات المسلحة في العراق تحاول بشكل مستمر عدم إثبات ارتباطها بالقوائم الانتخابية، وتستخدم عناوين مختلفة لجماعاتها المسلحة، يبدو سيناريو الانتخابات في البلاد يظهر بشكل مختلف هذه المرة، إذ تدخل العديد من الميليشيات بعناوينها الصريحة تارة، أو بإعلان ارتباط قوائم انتخابية بميليشيات مسلحة بارزة تارة أخرى.
وعلى الرغم من أن مشاركة الميليشيات بهذا الوضوح في الانتخابات العراقية تزيد من دوافع المقاطعة لدى طيف واسع من العراقيين، فإن التساؤلات باتت تدور حول قانونية اشتراك تلك الجماعات في السباق الانتخابي.
ويشير متخصصون إلى أن القانون العراقي يمنع اشتراك الميليشيات المسلحة في السباق الانتخابي، إلا أن أي إجراءات لم تتخذ بحق القوائم التي يثبت ارتباطها بالجماعات المسلحة، الأمر الذي يعزوه مراقبون إلى سيطرة الميليشيات على الوضع السياسي في البلاد.
ويقدر مراقبون أن يكون عدد الفصائل المسلحة المشاركة في الانتخابات المقبلة بنحو 20 فصيلاً مسلحاً، بالإضافة إلى عدد آخر ممن اختاروا صفة "مرشح مستقل" وتربطهم علاقات بميليشيات بارزة.
ويبدو أن أبرز الكتل التي تمتلك ارتباطات مع ميليشيات مسلحة هي كتلة "الفتح" بزعامة هادي العامري، التي تضم ميليشيا "بدر" إحدى أكبر الفصائل المسلحة، بالإضافة إلى حركة "صادقون" الجناح السياسي لميليشيا "عصائب أهل الحق" بزعامة قيس الخزعلي، وتجمع "السند" بزعامة النائب أحمد الأسدي المسؤول عن كتائب "جند الإمام"، وحركة "الجهاد والبناء" بزعامة حسن راضي المسؤول عن "سرايا الجهاد".
في المقابل يمتلك التيار الصدري الذي يخوض الانتخابات البرلمانية هو الآخر، ميليشيا "سرايا السلام".
ميليشيات تشترك بعناوينها الصريحة
ولا تتوقف القوائم التي ترتبط بالميليشيات المسلحة عند مساحة التنافس التقليدي بين كتلتي "الفتح" و"سائرون"، إذ تشهد الانتخابات هذه المرة حضوراً كبيراً للعديد من الميليشيات الأخرى بقوائم جديدة.
وتشترك في الانتخابات العراقية ميليشيا "ثأر الله"، التي تتهم بعمليات قتل على مدى السنوات الماضية، حيث كان رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي قد أشار في مقابلة متلفزة إلى أن زعيم الميليشيا محكوم بالإعدام، بالإضافة إلى الاتهامات التي طالتها بعمليات قتل للمتظاهرين في محافظة البصرة جنوب العراق.
وكانت القوات الأمنية اعتقلت خمسة مسلحين في الأقل ينتمون إلى الميليشيا المسلحة في محافظة البصرة وأغلقت مقرهم، في 11 مايو (أيار) 2020، بعد إطلاقهم الرصاص على محتجين احتشدوا أمام مقرهم في البصرة، ما أودى بحياة متظاهر، في أول مواجهة بين رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي والفصائل الموالية لإيران، إلا أن الفصيل استعاد مقره في 23 مايو 2020.
ويترشح زعيم الميليشيا يوسف سناوي الموسوي في الانتخابات الحالية عن محافظة البصرة، بالإضافة إلى عدد آخر من المرشحين.
حركة "حقوق" عنوان سياسي لـ"كتائب حزب الله"
في المقابل تدخل ميليشيا "كتائب حزب الله" الانتخابات العراقية هي الأخرى، من خلال حركة "حقوق" التي يتزعمها القيادي في الميليشيا حسين مؤنس. وتشكلت الحركة مطلع أغسطس (آب) الماضي، كأول تشكيل سياسي تؤسسه الميليشيا.
وتناقلت العديد من المنصات الصحافية اتهامات للحركة بالضلوع في اغتيال الباحث في الشأن السياسي هشام الهاشمي في يونيو (حزيران) 2020.
وتشير تقارير صحافية إلى أن زعيم الحركة حسين مؤنس هو "أبو علي العسكري" المسؤول الأمني في "كتائب حزب الله"، التي طالما أطلقت تهديدات صريحة لرئيس الوزراء العراقي.
وتدخل حركة "حقوق" الانتخابات العراقية بالعديد من المرشحين في دوائر انتخابية متعددة، وهي المرة الأولى التي تشترك فيها قائمة تعلن بشكل صريح عن ارتباطها بـ"كتائب حزب الله". وتمتلك "كتائب حزب الله" ثلاثة ألوية في هيئة الحشد الشعبي، بالإضافة إلى فصائلها الفاعلة خارج إطار الهيئة.
وبالإضافة إلى تلك القوائم، تدخل العديد من الميليشيات والشخصيات البارزة فيها في قوائم أخرى أو تحت عنوان مرشحين مستقلين، ومن بين الأحزاب الجديدة حركة "العراق الوطنية" التي يرأسها محمد شاكر الشمري القيادي في "كتائب الإمام علي".
خرق للقانون وتجاوز للدستور
وعلى الرغم من رؤية قانونيين أن اشتراك الميليشيات في الانتخابات يعد مخالفاً للدستور العراقي وقانون الأحزاب في البلاد، فإن أي إجراءات لم تتخذ بحق القوائم المخالفة.
ويقول المتخصص القانوني طارق حرب، إن "قانون الانتخابات لم يتطرق إلى مسألة اشتراك الميليشيات في السباق الانتخابي، إلا أن قانون الأحزاب منع ترشحها، لكن هذا الأمر يتطلب أن تقام دعاوى قضائية على القوائم المخالفة".
ويؤكد حرب في حديث لـ"اندبندنت عربية" أن استخدام عناوين المؤسسات الأمنية والعسكرية ومن بينها الحشد الشعبي في السباق الانتخابي يمثّل "خرقاً للقانون"، مبيناً أن قانون الانتخابات العراقي "يمنع استخدام القوات الأمنية وأي مؤسسة أخرى من مؤسسات الدولة في السباق الانتخابي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتابع حرب، أنه "بالإضافة إلى القانون، فإن المواد الدستورية أيضاً تمنع مشاركة الميليشيات في السباق الانتخابي، وتمنع استغلال القوات الأمنية فيها، إلا أنها ليست مواد عقابية، وتتطلب أن تبادر جهات إلى إقامة دعاوى قضائية في هذا الإطار".
وفي تطوّر لافت، أصدر المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني، بياناً حثَّ فيه على المشاركة الواسعة في الانتخابات المقبلة، فيما دعا إلى اختيار "المؤمنين بثوابت الشعب العراقي ومصالح البلاد العليا".
وتضمن البيان تأكيداً من المرجعية على "القائمين بأمر الانتخابات أن يعملوا على إجرائها في أجواء مطمئنة بعيدة عن التأثيرات الجانبية للمال أو السلاح غير القانوني أو التدخلات الخارجية، وأن يراعوا نزاهتها ويحافظوا على أصوات الناخبين فإنها أمانة في أعناقهم"، الأمر الذي عده مراقبون ضربة شديدة للقوائم ذات الفصائل المسلحة.
انتخابات "الفرصة الأخيرة"
ومن المفترض أن تكون الانتخابات العراقية المقبلة، التي جاءت استجابة لمطالب المحتجين، أكثر إقناعاً للشارع العراقي، إلا أن تلك الإشكالات باتت تعزز من خيارات المقاطعة بشكل كبير.
ويعتقد الكاتب والصحافي العراقي محمد حبيب أن "الانتخابات العراقية تبدو أشبه بالمزحة، خصوصاً مع امتلاك طرف سياسي أكثر من 50 ألف مسلح"، مبيناً أن هذا القدر من المسلحين جعل الفصائل الموالية لإيران "غير مكترثة للضوابط التي تصدرها مفوضية الانتخابات أو توجيهات وأوامر الحكومة العراقية، فضلاً عن المواد الدستورية التي تحظر اشتراك المسلحين".
ويضيف أن القوى ذات الارتباط بالجماعات المسلحة باتت "تنافس بشخصياتها الصريحة وأسماء ميليشياتها الواضحة لأنها تعتقد أن الانتخابات المقبلة تمثّل فرصتها الأخيرة".
ويلفت حبيب إلى أن حديث زعيم تحالف الفتح هادي العامري، "يشير بوضوح إلى أن تحالفه يمثل الحشد الشعبي، في خرق واضح للقانون".
وكان العامري قد دعا جمهوره، في 29 سبتمبر (أيلول)، إلى "المشاركة الواسعة في الانتخابات". وأضاف أن "كتلة الفتح هي التي قاومت وحملت السلاح للدفاع عن العراق".
ويؤكد قانونيون أن استخدام الأجهزة الأمنية في الدعاية الانتخابية يعد خرقاً للقانون والدستور.
ولعل قادة الميليشيات باتوا يعتقدون أن الانتخابات المقبلة تمثّل "الفرصة الأخيرة بالنسبة إليهم"، كما يعبّر حبيب الذي يشير إلى أن "شعارات الحشد الشعبي والدفاع عن العراق باتت تفقد بريقها تدريجاً، وهو ما دفع قادة الميليشيات إلى المشاركة في الانتخابات بعناوينهم الصريحة كما في ميليشيا (ثأر الله) أو من خلال الإشارة الصريحة لارتباط بعض القوائم مع الجماعات المسلحة كما في قائمة (حقوق) التابعة لميليشيات (كتائب حزب الله) أو تحالف الفتح".
ويتابع حبيب أن بيان المرجع الشيعي علي السيستاني "قد يفجر مفاجآت كبيرة، لأنه ربما سيرفع من منسوب الاشتراك في الانتخابات"، مبيناً أن القوائم التابعة للميليشيات "بنت حساباتها على أساس انخفاض الاشتراك في الانتخابات، الأمر الذي قد يقوّضه بيان السيستاني خصوصاً مع تزايد نقمة جمهور السيستاني على تلك الميليشيات".
ويختم أن "نتائج الميليشيات في الانتخابات المقبلة قد تكون مخيبة على الرغم من اختراقاتها ومخالفاتها وفرض نفسها بالسلاح على العملية الانتخابية".
زيادة زخم المقاطعة
ويعقّد اشتراك الميليشيات المسلحة من مشهد الانتخابات المقبلة، إذ بات يعزز الحجج التي يلقيها دعاة مقاطعة الانتخابات في البلاد، فضلاً عن إعادة إثارتها الأسئلة المتعلقة بدور الأجهزة القانونية في ضمان نزاهة الانتخابات وإبعاد المسلحين عن التأثير في مساراتها.
في المقابل، يرى الباحث في الشأن السياسي أحمد الشريفي أن "اشتراك أحزاب ذات ارتباطات بميليشيات مسلحة، أو جماعات مسلحة بعناوينها الصريحة، يثير الأسئلة لدى الرأي العام العراقي حول دور القانون الذي يعد منظماً للعملية الانتخابية وضامناً لنزاهتها".
وعلى الرغم من وضوح الدستور العراقي فيما يتعلق بحظر الميليشيات من المشاركة في العملية السياسية، كما يعبّر الشريفي، فإن تلك الميليشيات باتت "تسيطر على الواقع السياسي في البلاد بقوة السلاح".
ويلفت الشريفي إلى أن "مرور العديد من القوائم سواء التي تستخدم عناوين ميليشياوية صريحة أو تمتلك ارتباطات بجماعات مسلحة إلى السباق الانتخابي، يؤشر إلى وجود خلل كبير في مفوضية الانتخابات"، مبيناً أن هذا الأمر أسهم من بين عوامل أخرى في "زيادة زخم حركة المقاطعة".
ويعتقد الشريفي أن الميليشيات في العراق باتت تشعر أن الانتخابات المقبلة تمثّل "حدثاً مصيرياً" بالنسبة إليها، الأمر الذي دفعها هذه المرة إلى "الإعلان بشكل صريح عن ارتباط جماعاتها المسلحة بالقوائم الانتخابية".
ويتابع أن حديث زعيم تحالف الفتح هادي العامري بأن "كتلته دافعت عن العراق في معرض حديثه عن الحشد الشعبي، يمثل خرقاً لقانون الانتخابات من خلال زج القوات الأمنية في الدعاية الانتخابية".
ويختم أن تخطي القوائم التابعة لميليشيات مسلحة إجراءات المفوضية يعزز الاعتقاد السائد بأن مخرجات الانتخابات ستكون مسيطراً عليها من قبل تلك الميليشيات والأحزاب، الأمر الذي يدفع باتجاه مقاطعة أوسع للانتخابات.