يشير المتظاهرون العراقيون إلى صورة يبتسم فيها رفيقهم أحمد (26 عاماً)، الذي طعن حتى الموت، العام الماضي خلال المسيرات الاحتجاجية المناهضة للحكومة، رداً على سؤالهم عن سبب مقاطعتهم الانتخابات التشريعية المبكرة.
يفترش الشبان الأرض في منزل أحدهم بمدينة الناصرية التي تغلي [تشارف على الانفجار]، ويذكرون أيضاً اختفاء صديقهم الثاني، سجاد العراقي، الناشط المحلي الشهير. اختطف سجاد بقوة السلاح على يد مجهولين خلال شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وما زال في عداد المفقودين.
كانت الانتخابات، التي تعقد قبل سبعة أشهر من موعدها المحدد سابقاً، مطلباً أساسياً لانتفاضة تشرين العراقية التي اندلعت في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، حين نزل آلاف العراقيين إلى الشوارع مطالبين بفرص عمل، وبتحسين البنية التحتية، وإطاحة النخبة الحاكمة الفاسدة والفصائل المسلحة التابعة لها.
ولكن في الناصرية - رابع أكبر المدن العراقية التي أصبحت أكثر فأكثر قلب الثورة - يعتبر كثيرون أن الانتخابات لن تحقق أي شيء.
ويرى سيف (24 عاماً) خريج كلية الصيدلة الذي انضم إلى الانتفاضة في البداية كمسعف متطوع، "صدقيني، لو اعتقدنا أن المشاركة في هذه الانتخابات ستحدث أي تغيير، لن يحول أي شيء بيننا وبين صناديق الاقتراع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قوبلت الاحتجاجات بقوة مميتة، وقتل 600 متظاهر وعنصر أمن على الأقل في جميع أنحاء البلاد منذ انطلاقها. وشهدت الناصرية بعض أسوأ أحداث العنف.
"إن الخلل في النظام أكبر من أن يتحقق أي تغيير فيه بسبب اللاعبين الرئيسين الذين ما زالت السلطة كاملةً بيدهم".
يجلس بجوار سيف حيدر (23 عاماً)، الذي دفعه حماسه الشديد للانتخابات في البداية إلى الانضمام إلى حزب سياسي مستقل جديد يدعى البيت الوطني، انسحب بعدها من الانتخابات.
ويسأل، "كيف يمكننا التصويت في ظل وجود اغتيالات وعمليات اختطاف؟".
يعد العراق العدة، الذي يفيض بعشرات آلاف عناصر الأمن الإضافيين، لخامس انتخابات وطنية منذ سقوط صدام حسين، من المزمع أن تنعقد اليوم.
وتضم لوائح الشطب أكثر من 24 مليون ناخب في العراق الذي يقدر عدد سكانه بـ41 مليوناً. وسيختار هؤلاء مرشحيهم من بين 3500 شخص تقريباً يتنافسون على 329 مقعداً في البرلمان، تخصص تسعة منها للأقليات.
وتأتي عملية التصويت قبل أشهر من موعدها مع رضوخ رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لمطالب المتظاهرين.
وأشيد برئيس جهاز الاستخبارات الوطني السابق لتمريره تشريعاً جديداً يقسم العراق إلى 83 دائرة انتخابية، ويمنع الأحزاب من الترشح على لوائح موحدة. ويقول الخبراء، إن التشريع، ولو أنه غير مثالي، يمكنه أن يحل قليلاً من قبضة الأحزاب السياسية الرئيسة على الهيئة التشريعية.
ويعتبر مهند عدنان، المحلل السياسي العراقي والشريك في مجموعة "رؤية للتنمية"، أنه "منفذ جيد لإشراك العراقيين في الميدان السياسي، وهو أفضل من قانون الانتخابات السابق الذي ضم 18 دائرة فقط".
"كما خفض السن الأدنى للمرشحين إلى 28 عاماً. ويمكنك المشاركة كمرشح مستقل".
لكن عدنان ردد بدوره ما قاله المتظاهرون في الناصرية عن عدم إيمانه بأن الانتخابات ستُحدث أي تغيير حقيقي: ما زال من المتوقع أن تحافظ الشخصيات المعروفة على قبضتها على السلطة.
ومن المنتظر أن تكتسح أكبر الجماعات السياسية العراقية - التيار الصدري الذي يقوده رجل الدين الشيعي النافذ مقتدى الصدر - أغلبية الأصوات على غرار عام 2018. ويقدم التيار 95 مرشحاً، ومع أنه قرر في البداية مقاطعة الانتخابات، فقد عاد ليخوض السباق بقوة. وقال مرشحوه في الناصرية لـ"اندبندنت"، إنهم يأملون بمضاعفة وجودهم تقريباً في البرلمان.
وفي هذه الأثناء، يتوقع أن يخسر تحالف "فتح" الذي يشكل إجمالاً مظلة سياسية للميليشيات الحليفة لإيران التي تجيز الدولة وجودها، بعض مقاعده الـ47 (بسبب اتهامه بالانخراط في قمع الحراك الاحتجاجي) غير أن أداءه سيكون جيداً في النهاية.
ويضيف عدنان، "لن تحدث هذه الانتخابات تغييراً هائلاً، ولكنها ستعطي فرصة للمستقلين على الأقل: يمكنكم الجلوس إلى الطاولة [المشاركة]".
ومن بين الأحزاب القليلة الجديدة التي تأمل أن تخرق الاحتكار السياسي في العراق حزب تشكّل في الناصرية التي تتمتع بتاريخ حافل بإشعال فتيل التغيير في البلاد. فقد كانت المدينة التي تبعد 340 كيلومتراً إلى جنوب بغداد، قلب الثورة المضادة للبريطانيين في عشرينيات القرن الماضي كما شهدت في عام 1991 انتفاضة ضد صدام حسين تعرضت لسحق وحشي. وتأجج حراك تشرين هو الآخر في شوارعها.
وتضم الناصرية أحد أعلى معدلات بطالة الشباب في البلاد، فيما تعد بنيتها التحتية من الأسوأ في البلاد. وتفيض مياه المجاري في الشوارع المغبرة التي تملأ الرسوم الثورية جسورها والجدران على طرفي طرقها السريعة.
هذه هي الخلفية التي تشكّل عليها حزب "امتداد" هذه السنة، طارحاً نفسه على أنه أحد الأحزاب القليلة التي يقودها ناشطون، وتخوض الانتخابات عبر مرشحيها.
يترأس حزب "امتداد" الصيدلاني علاء الركابي، أحد سكان المدينة الأصليين، والذي قاطع الانتخابات الأخيرة في عام 2018، وأصبح شخصية بارزة في احتجاجات عام 2019، بعد أن أدار مستشفيات ميدانية تعالج الجرحى من المتظاهرين. وهو يقر بأن هذه العملية الانتخابية موضع جدل وخلاف، ولكنه مؤمن بأن العمل من داخل البرلمان هو السبيل الوحيد لإحداث تغيير حقيقي.
ويقول لـ"اندبندنت" خلال استراحة قصيرة ضمن الحملة الانتخابية، "إن هدفنا الأساسي في المرحلة المقبلة هو تأسيس معارضة سياسية حقيقية لم يشهدها العراق منذ 100 عام".
"والرسالة التي نوجهها إلى أصدقائنا (في معسكر الاحتجاجات) هي أن أدوارنا متكاملة. ستنخرطون في المعارضة السياسية خارج البرلمان فيما نخوضها من الداخل، ويمكننا إحداث التغيير معاً".
وأضاف أنه في حال فوز حزبه بمقاعد في البرلمان، سيطرح أجندة الاحتجاجات، ومنها الضغط من أجل سن قوانين تتصدى للفساد وتنظيم قطاع النفط والغاز العراقي لكي يتسنى توجيه أرباحه بشكل أفضل باتجاه إصلاح البنية التحتية المتهاوية في العراق.
ويرغب الحزب كذلك في العمل على الإنفاذ الفعلي للتشريعات الموجودة أساساً، والتي يقترض بها الحيلولة دون تأسيس الأحزاب السياسية أجنحة عسكرية، ومنع الفصائل المسلحة من تأسيس أحزاب.
قد يكون ذلك صعباً، إذ يظهر من بين الوجوه الجديدة في الانتخابات ما يعتبره النقاد أول حزب يرتبط علناً بـ"كتائب حزب الله،" أكثر الميليشيات البرلمانية الشيعية تشدداً.
وعمل حسين مؤنس رئيساً لجهاز الأمن في المجموعة حتى وقت قريب، لكنه أسس هذا العام "حركة حقوق" التي تطرح 32 مرشحاً وبرنامجاً انتخابياً يركز على رحيل القوات الأميركية من العراق. ويرى الخبراء أن ارتباط السيد مؤنس بـ"كتائب حزب الله" مؤشر على دخول الجماعة المسلحة رسمياً إلى معترك السياسة.
لكن "كتائب حزب الله" تنفي ذلك بشأن مرشحي حقوق الذين يصرون على أن مؤنس مدني "يبتعد عن أي انقسامات طائفية".
ويقول مثنى فيحان، أحد مرشحي الحزب في بغداد، لـ"اندبندنت"، "نحن حركة سياسية جديدة، وكل مرشحينا وجوه جديدة لم تشارك حتى الآن في العملية السياسية".
"يختلف برنامجنا عن برامج الآخرين. فنحن نتحدث عن انسحاب جميع القوات الأجنبية، ونتطلع إلى سيادة الأراضي العراقية. نريد حماية الشعب العراقي وإعطائه حياة أفضل".
بالعودة إلى الناصرية، فتحت مراكز الاقتراع الموضوعة تحت حراسة مشددة أبوابها باكراً لكي يُدلي عناصر القوات الأمنية بأصواتهم. ويعرب المحتجون هناك لـ"اندبندنت" عن أملهم في أن تضرب ضآلة نسبة المشاركة في الانتخابات مصداقية العملية الانتخابية، إن كانت حركة المقاطعة قوية بما فيه الكفاية (مع أن القانون العراقي لا يفرض حداً أدنى لنسبة مشاركة الناخبين).
ويقول حيدر بصوت يحمل نبرة يأس، "معظم الزعماء الذين وصلوا إلى سدة الحكم منذ غزو العراق في عام 2003 كانوا من الناصرية، ومنهم رئيس الوزراء السابق، لكن لم يحقق أي منهم أي شيء لنا".
"ما تفتقده هذه الانتخابات هو العناصر الرئيسة للعملية الديمقراطية. وإلى أن تتوفر هذه العناصر، رؤيتنا هي أن نحدث التغيير من الشارع، ونبتعد عن صندوق الاقتراع".
© The Independent