في ظل تصاعد التوتر بين المكونين العسكري والمدني في السودان، بسبب تداعيات المحاولة الانقلابية الفاشلة التي تم إحباطها في 21 سبتمبر (ايلول) الماضي، والتي تمثلت في انتقادات حادة وجهتها قيادات عسكرية للقوى السياسية الحاكمة، جراء ضعف أداء أجهزة الدولة التنفيذية، فسّر كثيرون ما يحدث من خلافات بأنه محاولة لعرقلة مسار استحقاق تسليم رئاسة مجلس السيادة من المكون العسكري، للمدنيين، في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
لكن ما مدى صحة ذلك، وماذا تنص الوثيقة الدستورية في هذه المسألة، وما المخرج من هذه المعضلة حفاظاً على الانتقال الديمقراطي، وإنهاء المرحلة الانتقالية بسلاسة تامة؟
فراغ دستوري
عضو اللجنة السياسية في تجمع المحامين الديمقراطيين السودانيين محمود الشيخ قال، "في الحقيقة، أنه بعد توقيع اتفاقية السلام في جوبا بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة مطلع أكتوبر (تشرين الأول)، أصبحت هناك مشكلة حقيقية في تفسير بنود الوثيقة الدستورية، بخاصة في ما يتعلق ببداية الفترة الانتقالية والفترة المحددة بتسليم رئاسة مجلس السيادة للمكون المدني، والتي كانت وفقاً للوثيقة قبل تعديلها محددة في 17 مايو (أيار) 2021، فتفسير هذه الوثيقة يتطلب وجود المحكمة الدستورية وهي لم تشكل حتى الآن، لكن بشكل عام، نصت الوثيقة صراحة على تقاسم فترة رئاسة مجلس السيادة بين المكونين العسكري والمدني".
وتابع الشيخ، "واضح من تصريحات رئيس مجلس السيادة ونائبه أن المكون العسكري يتشبث بالرئاسة على الرغم من أن دورها رمزي وشرفي، وهذا هو السبب الرئيس في ما يحدث حالياً من تصعيد وتوتر في المشهد السياسي، لكن في نظري أن حل هذا الأمر يجب أن يكون سياسياً أكثر من كونه قانونياً، فلا بدّ للمكون العسكري إلا أن يقتنع بالعودة إلى منصة التأسيس، والتحاور مع المكون المدني في موضوع رئاسة المجلس ومجمل الأحداث بشفافية تامة، وفقدان الثقة بين الطرفين ربما يؤدي إلى انسحاب أحد المكونين من المشهد ما يعني بطلان الوثيقة الدستورية، بالتالي، الوضع السياسي لا يتحمل هذا الفراغ الدستوري، لأن ذلك يعني أن هناك مشكلة سياسية، وسيكون المناخ مؤاتياً لحدوث انقلاب عسكري، وأحداث شغب، وربما يتدخل المجتمع الدولي وهو أمر لا يتفق مع تطلعات وأهداف ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018".
وحضّ عضو اللجنة السياسية في تجمع المحامين الديمقراطيين على ضرورة تمتع جميع الأطراف السودانية بالعقلانية والرشد، فضلاً عن أهمية القيام باستبدال بعض أعضاء مجلس السيادة بآخرين حلاً للمشكلة التي تسببت في التباعد بين المكونين وعدم قبول بعضهما البعض، وقال إن هذا التوجه قد يكون سهلاً بالنسبة للمكون المدني، بينما يكون صعباً للمكون العسكري بخاصة استبدال رئيس المجلس ونائبه، منوهاً إلى أنه من خلال التجربة العملية اتضح أن الوثيقة الدستورية فيها كثير من الثقوب والنصوص القاصرة، ما يتطلب الإسراع في معالجتها بواسطة الاجتماع المشترك لمجلسي السيادة والوزراء تفادياً للمشكلات اليومية والمستقبلية، وعدم دخول البلاد في متاهات خلال الفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية.
الطامة الكبرى
في المقابل، أوضح الباحث في الشؤون العسكرية اللواء ركن أمين إسماعيل مجذوب، أن "الخلافات بين المكونين العسكري والمدني في السودان ما زالت مستمرة حول تفسير الوثيقة الدستورية، وتحديداً في مسألة تسليم المكون العسكري رئاسة مجلس السيادة للمكون المدني، وأيضاً فترة المرحلة الانتقالية، ووضع المكون العسكري خلال الفترة المتبقية من عمر هذه المرحلة، كما جاءت الطامة الكبرى بتوسيع شق الخلاف بين المكونين بإعلان المحاولة الانقلابية الفاشلة في 21 سبتمبر الماضي، والتي اعتبرها المدنيون بأنها بروفة من العسكريين لانقلاب آخر، ومحاولة للهروب من استحقاق تسليم رئاسة المجلس لهم، فضلاً عن أن مطالبة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان بحل الحكومة الانتقالية من أجل توسيع قاعدة المشاركة بضم مكونات جديدة للحاضنة السياسية، تصب في هذا الاتجاه، باعتبار أن حل الحكومة قد يؤدي إلى تعديل الوثيقة الدستورية، ما يعني استمرار القيادة العسكرية في رئاسة مجلس السيادة حتى نهاية الفترة الانتقالية، ويعضد هذا التوجه تصريحات رئيس مجلس السيادة ونائبه الأخيرة بتأكيدهما عدم تسليم السلطة إلا لحكومة منتخبة، وأنهم كعسكريين أوصياء على الشعب السوداني".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أضاف مجذوب، "في تقديري أن مسألة تسليم رئاسة مجلس السيادة محكومة بالفترة الزمنية المحددة في الوثيقة الدستورية، على الرغم مما تم من اختراق للوثيقة في مفاوضات السلام بتصفير العداد بإضافة عام كامل في عمر الفترة الانتقالية، إذ كان الخلاف ينصبّ حول أي تاريخ تبدأ فترة الـ 21 شهراً الخاصة باستحقاقات المكون العسكري لرئاسة مجلس السيادة، أي كيفية اقتسام فترة الرئاسة بين المكونين بعد مد المرحلة الانتقالية لسنة، وعموماً أن تسليم العسكريين لرئاسة المجلس يجب أن تكون في نوفمبر المقبل أو يوليو (تموز) 2022، هذا من ناحية القيد الزمني، أما عن مدى إمكانية تسليم العسكريين رئاسة المجلس للمدنيين فهذا سؤال كبير ومحوري، ومن الواضح أنه يخضع لفرضيات وتداعيات عدة، منها عملية استقرار الأوضاع الأمنية، ومن هي الشخصية المدنية التي تستلم رئاسة المجلس، وما مدى مطابقتها لمواصفات القيادة، فضلاً عن وضعية رئيس مجلس السيادة الحالي ومكونه العسكري وكيفية التعامل معهم بروتوكولياً، إلى جانب ماهية طموح البرهان الشخصي في هذا المنصب".
ومضى الباحث في الشؤون العسكرية قائلاً، "القوات المسلحة لا تتدخل في مثل هذه الأمور، لأنها قدمت مرشحيها لمجلس السيادة عقب التوقيع على الوثيقة الدستورية، باعتبار أن الحكم سيكون في إطار الشراكة بين المكونين العسكري والمدني، بالتالي انتهت علاقة القوات المسلحة بالعمل السياسي عند هذه الخطوة، لكن بشكل عام مهما تعمقت الخلافات بين الجانبين، فإن الأمر ربما يعود للشارع السوداني الذي يحدد من يبقى ومن يذهب، بمعنى إعادة إنتاج الثورة من جديد".
رؤية مشتركة
من جانبه، قال مساعد رئيس حزب الأمة القومي السوداني للشؤون الولائية عبد الجليل الباشا، "صحيح أن السودان يمر بفترة تحول وتحد كبيرين بعد التغيير الذي حدث بإطاحة نظام البشير، لكن هناك تحديات برزت كمهدد للفترة الانتقالية سببها سوء الإدارة والعلاقة بين المكونين العسكري والمدني، وأعتقد أن الطرفين لم يتعاملا بحكمة ودراية كرجال دولة، في وقت أن أياً من الطرفين لا يستطيع إلغاء دور الآخر، أو إقصاءه من المشهد السياسي، بالتالي لا يوجد خيار غير الجلوس والتفاوض بين الجانبين للوصول إلى رؤية مشتركة تعضد الالتزام بنصوص الوثيقة الدستورية، والإعلان السياسي لقوى الحرية والتغيير".
ولفت الباشا، إلى أن أي محاولة للانقلاب على الوضع الحالي هو سير في طريق الظلام، لذلك لا بد من التوصل لخريطة طريق ورؤية واضحة تحدد مهام كل طرف، فضلاً عن إيجاد ميثاق شرف لحماية الفترة الانتقالية، مؤكداً أنه على الرغم من أن قضية التحول الديمقراطي ضرورية ومهمة، لكن إنجازها يتطلب أن تكون الشراكة بين المكونين العسكري والمدني محصنة.
تخوف وتوجس
ورأى أن تسليم رئاسة مجلس السيادة للمكوّن المدني أمر متفق عليه ونصت عليه الوثيقة الدستورية التي تم التوقيع عليها بحضور ضامنين وشهود محليين ودوليين، لكن "أعتقد أن العسكريين لديهم تخوف وتوجس من قضايا عدة مثل قضية فضّ اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة التي راح ضحيته نحو 200 شخص، وكذلك ملف الشركات العسكرية، والمحكمة الجنائية، وأيضاً ملف لجنة إزالة التمكين"، مبيناً أن معالجة موضوع تسليم رئاسة المجلس يحتاج لحوار وتراض حتى إذا كانت هناك تعديلات في الوثيقة يجب أن تتم بالتوافق، لأنه في ظل التشاحن وتسيد خطاب الكراهية بين الطرفين لن يكون الانتقال سلساً.
وشدد مساعد رئيس حزب الأمة للشؤون الولائية على أن النكوص بالعهود والمواثيق الموقعة بين المكونين يعني الفوضى، وهذا طريق وعر يضرّ بمصلحة الوطن واستقراره، ولن ينجو أحد من المسؤولية، لذلك من المهم التحلي بروح الوفاق والتآخي والحكمة حفاظاً على وحدة الوطن وتماسكه.
فتوى لحسم الخلاف
وكان المتحدث باسم قوى الحرية والتغيير في السودان جعفر حسن أقر خلال مؤتمر صحافي عقد أخيراً في الخرطوم، بوجود خلاف بشأن موعد ترؤس المدنيين مجلس السيادة الحاكم، مشدداً على أن هذا الاختلاف يجب أن تحسمه فتوى من وزارة العدل السودانية باعتبارها محامي الحكومة، وأضاف أن هناك من يتخوف من انتقال رئاسة المجلس السيادي إلى المكون المدني بحسب الوثيقة الدستورية، وأن عبد الفتاح البرهان يستأثر بأكثر من ستة مناصب، موضحاً أن الشعب السوداني هو الوصي على كل السلطات. ونوه حسن إلى أن هناك اختلافات في تاريخ تسليم رئاسة مجلس السيادة للمكون المدني بعد توقيع اتفاق سلام جوبا الذي قرر تمديد الفترة الانتقالية.
وانتقد رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، في خطاب سابق له، الزعماء المدنيين وأداء السلطة التنفيذية، معتبراً الجيش بأنه وصي على عملية الانتقال، وقال النائب الأول لرئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو (حميدتي) في تصريحات صحافية، إن الأزمة الراهنة بينت أن طموح المدنيين في الكراسي، بينما تفكير العسكريين ينصب في كيفية إخراج البلاد من أزمتها، وأضاف، "لسنا ضد التغيير والمدنية، كما أن تصوير ما يحدث الآن أنه بسبب قرب تسليم سلطة المجلس السيادي للمدنيين، كذب وعيب، نحن كعسكريين لا نتحدث عن كراس في ظل بلد يمضي نحو الهاوية". وتابع، "لم نناقش تسليم رئاسة المجلس السيادي للمدنيين، وهذا الأمر ليس ضمن أجندتنا في الوقت الراهن، لأنه سابق لأوانه".
ويتشكل مجلس السيادة من 14 عضواً، منهم خمسة عسكريين، وستة مدنيين، وثلاثة من الحركات المسلحة، وهو يتولى قيادة البلاد خلال الفترة الانتقالية، في موازاة حكومة مدنية يترأسها عبدالله حمدوك منذ سبتمبر 2019، وتستمر الفترة الانتقالية 53 شهراً تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024، ويتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش وقوى مدنية والحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام.