رحل جنرال الحرب كولن باول، وفي نفسه غصة حرب العراق في عام 2003، بعدما أدرك حقيقة ما قام به لتسويغ شنها وغزو بلد مستقل. ولم يكن باول جنرالاً عابراً في السياسة الأميركية، فهو جنرال حرب بأربع نجوم في أقوى الجيوش في العالم، وهو أيضاً أحد صقور الحرب وعلامة بارزة في تاريخ جيش الولايات المتحدة، بعد مشاركته في قيادة حرب الخليج الأولى في عام 1991 تحت إدارة الرئيس جورج بوش الأب، بصفة قائد الجيش ورئيس هيئة الأركان المشتركة، وسبق ذلك توليه مستشارية الأمن القومي الأميركي (1987-1989)، ثم منصب وزير الخارجية الأميركية في يناير (كانون الثاني) 2001، وكان أول شخصية من أصول أفريقية تصل إلى منصب رفيع كهذا، بعدما خاض معركة حشد التأييد والشرعية للحرب على العراق، وعمل حينها مع جوقة من السياسيين الذين يوصفون بالمحافظين الجدد، أمثال ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي الأسبق، ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع، وكوندليزا رايس مستشارة الأمن القومي، وبول وولفويتز نائب وزير الدفاع، وآخرين ممن تشاركوا في توريط الولايات المتحدة في شن الحرب على العراق، وما تبعها من تمدد نفوذ إيران، وإضعاف حلفاء الولايات المتحدة وتكبدها خسائر باهظة في الأرواح والأموال.
وتطرق باول إلى دوره في تهيئة مسرح الحرب في العراق، فقال "كنت مكرهاً". وذلك حين تولى مهمة التحضير لقرار غزو العراق أمام مجلس الأمن الدولي ومحاولة استمالة العالم لقرار الحرب، الذي كان يواجه ممانعةً من الأمم المتحدة وعدد من دول الشرق الأوسط، لا سيما الدول الخليجية وفي مقدمها السعودية وتركيا اللتان رفضتا استخدام أراضيهما لعبور الطائرات لضرب العراق. لكن الجنرال باول بكل تاريخه العسكري والسياسي استمر في محاولة إقناع مجلس الأمن الدولي بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل. وسوغ ذلك للولايات المتحدة وبريطانيا إبان حكم توني بلير، بالإضافة إلى دول أخرى تعد على الأصابع، شن عدوان على العراق واحتلاله وإسقاط نظامه السياسي في عام 2003. وتسببت تلك الحرب بسقوط آلاف الضحايا العراقيين وبعض القتلى من الجنود الأميركيين وأعضاء منظمة "بلاك ووتر" التي شاركت في توفير الدعم، في سابقة لم تتكرر بعد عام 2003، إبان حكم الجمهوريين بزعامة الرئيس جورج بوش الابن، الذي أرادها حرباً بأي ثمن وتحت أي مسوغ، حتى ولو بترتيبات واتهامات ثبت بطلانها بعد سنوات من خلال اعتراف قادة سياسيين وعسكريين غربيين بأن ذريعة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل لم تكن صحيحة.
"وصمة عار في مسيرتي"
وجاء الاعتراف الأخطر على لسان باول، وزير خارجية الدولة التي شنت الحرب، وهو من وقف لساعات ليثبت للعالم أن العراق يهدد السلم الدولي من خلال امتلاك أسلحة دمار شامل، إلا أنه عاد بعد سنوات ليصف دفاعه عن تقرير بلاده حول أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة أمام الأمم المتحدة في فبراير (شباط) 2002، بأنه "وصمة عار في مسيرته السياسية"، بل أقر بأن الأمر "مؤلم"، معترفاً بشجاعة أمام الرأي العام الأميركي بالقول "لقد كان هناك أناس في الاستخبارات حينها يعرفون أن بعض مصادر المعلومات ليست موثوقة، لكنهم لم يقولوا شيئاً، لقد دمرني ذلك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكنه نفى أن يكون مدير وكالة الاستخبارات الأسبق جورج تنيت قد قصد تضليله. هذا ما فاجأ به كولن باول الرأي العام الأميركي، عبر شبكة "أي بي سي" (ABC) التلفزيونية الأميركية، وأكد وقتها أحد كبار مساعديه، لورنس ويلكرسون، في حديث لشبكة "سي أن أن" ( (CNNأن المعلومات التي وردت في خطاب باول كان مصدرها وثيقة البيت الأبيض، وكان يمكن أن تكون أي شيء عدا كونها وثيقة من جهاز الاستخبارات.
السفير العراقي المدافع عن موقف بلاده
في المقابل، قال خصمه العراقي في قاعة الأمم المتحدة، السفير محمد الدوري، وهو آخر سفراء نظام صدام حسين إن "شرف الديمقراطية أن عندها الآليات أن تتحرك قبل الحرب وتحول دون ما تسببت به من ضحايا وخسائر ودمار. أظن أن وزير الخارجية الأميركي كولن باول لم يكن مهيأً نفسياً ولا ذهنياً ولا أخلاقياً لضرب العراق كما يبدو، وأشعر أنه أجبر على قول ما قاله، وليس لديه خيار آخر، ليس فقط للاحتفاظ بمركزه وحسب، بل وأيضاً لأن استقالته كانت ستفضحهم عندما بدأت الأزمة" (محمد الدوري - اللعبة انتهت ص 77).
وأكد الدوري أن "قرار الحرب واحتلال العراق ليس قرار الرئيس بوش الابن ومجموعة المحافظين الجدد فقط، إنما يقف خلف هؤلاء من يدفعهم إلى اتخاذ القرارات المتطرفة". وأضاف أن "تلك الجلسة وخطاب كولن باول وردود أفعال أعضاء مجلس الأمن شكلت خسارة لكولن باول على المستوى الشخصي، وخسارة لمصداقية الولايات المتحدة ولبريطانيا وإن كانتا لا تأبهان بها. ولقد أثبتت الأيام أن ما قاله باول لم يكن صحيحاً".
وأكد المفاوض العراقي محمد الدوري الذي كان يجلس إلى جانب باول وهو يدلي بوقائع اتهاماته التي يروم من خلالها أن يأخذ الضوء الأخضر من مجلس الأمن الدولي لضرب العراق، "كان يكفي أن يقول كولن باول شيئاً جدياً واحداً كي يصدر قرار عن مجلس الأمن يوافق فيه على اللجوء إلى استخدام القوة. وكان الاجتماع خطيراً، ومن الممكن أن يشكل الإشارة الخضراء التي سيسلمها مجلس الأمن للولايات المتحدة لكي تضرب العراق، ولكن لم يحدث ذلك".
مات باول الجنرال والسياسي المخضرم، عن عمر ناهز 84 سنة، إثر إصابته بفيروس كورونا، الذي اعترف في آخر أيامه بأن مسوغات حرب بوش والمحافظين الجدد على العراق بنيت على "فرضية أسلحة الدمار الشامل"، التي لم تصمد بعد الغزو والتحقق المباشر فوق الأرض العراقية التي احتلت في عام 2003، لكنه غلب شجاعته على صمته ليقول على رؤوس الأشهاد "كنت مضللاً". لكن اعترافه أمام الشعب الأميركي جعله في موقف لا يحسد عليه، لكونه من الجنرالات الذين ارتفعت شعبيتهم إبان حرب الخليج الأولى، بعيد غزو الكويت. لكن تلك السمعة لم تكن بيضاء بعد غزو العراق، الذي تكلف باول بإجراء عرض مسرحي لافت في قاعة الأمم المتحدة بنيويورك بنهاية عام 2002 محاولاً إقناع العالم بخرائط وصور مفبركة وبمعلومات استخبارية مضللة، قال عنها إنها "وصمة عار" في سجله المليء بالنياشين، حين تورط بتقارير استخباراتية قدمها له "المحافظون الجدد"، حطت من قدره ومصداقيته وجعلته يأسف على تورطه وهو يرى ضحايا الحرب وآلاف القتلى المدنيين تمر كشريط من المآسي التي تذهب إلى سجله الذي كان نظيفاً.