في وقت تجري الإدارة الأميركية اتصالات خاصة ومكثفة مع الجانب الإسرائيلي، لتمضي قدماً في قرار إعادةِ فتح قنصليتها في القدس الشرقية لخدمة الفلسطينيين، بعدما أغلقتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب في عام 2019، احشتد مستوطنون إسرائيليون في مدينة القدس مساء الأربعاء 27 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، في وقفةٍ احتجاجية للتعبير عن رفضهم "إنشاء قنصلية أميركية للسلطة الفلسطينية" باعتبارها وفقهم، "تقسيمٌ فعلي للقدس"، ويُحولها بحسب اعتقادهم إلى "عاصمةٍ لفلسطين". وهَتف المحتجون خلال الوقفة التي ضَمت العشرات "لا يوجد سوى قدس واحدة موحّدة وهي عاصمة لإسرائيل غير قابلة للتجزئة".
وقال أحد المتحدثين الإسرائيليين خلال الوقفة، مارك زيل، رئيس فرع الحزب الجمهوري في إسرائيل، "لن نستسلم، القدس موحّدة في قلبنا وعقلنا وهي حلم اليهود منذ آلاف السنين. ونطالب الإدارة الأميركية أن لا تُدخل القدس في غرف المفاوضات". وكرر القول "القدس ليست على الطاولة".
وعود معلّقة
في المقابل، لم يَشر الجانب الفلسطيني الذي يُعتبر طرفاً أساسياً في هذا الملف، إلى أي محادثاتٍ جديدة بهذا الخصوص، ولا حدوث أي تطوراتٍ على تلك الوعود السابقة، التي قطعتها الإدارة الأميركية برئاسة جو بايدن للسلطة الفلسطينية.
وصرح عزام الأحمد، عضو اللجنتين، "المركزية" لحركة "فتح" و"التنفيذية" لمنظمة التحرير الفلسطينية، لـ "اندبندنت عربية" في مكالمة هاتفية، أن "المحاولات الفلسطينية لا تزال جارية من أجل الدفع قدماً لأن تفي الإدارة الأميركية بوعودها التي قطعتها للقيادة الفلسطينية، منذ أن تولى جو بايدن السلطة كرئيس للولايات المتحدة، والتي أشارت آنذاك إلى إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس، وإمكانية فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، ودعم فكرة حل الدولتين".
وقال الأحمد، الذي يُعتبر أحد أبرز الشخصيات المقربة من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، "نريد أفعالاً لا أقوالاً. 9 أشهر مرت على الوعود التي قطعتها إدارة الرئيس بايدن، ولم يُنفَذ منها شيء"، مضيفاً أن "أول مَن تكلم عن دولة فلسطينية هو الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وظل ثماني سنوات من دون أن يحرك ساكناً، فهل سيفعلها بايدن؟"، مشككاً في الوقت ذاته، "بقدرة الإدارة الأميركية على منع إسرائيل من المضي قدماً في بناء المستوطنات بالضفة الغربية".
على المحك
ويواجه القرار الأميركي بفتح القنصلية في القدس، مقاومةً إسرائيلية "شرسة"، لا سيما في أوساط اليمين المتطرف، الذي يؤكد أن القرار سيؤدي إلى انهيار الحكومة الائتلافية الإسرائيلية، حيث عبّر رئيس الوزراء نفتالي بينيت مراراً عن رفضه للقرار، وفق ما تداولته وسائل إعلام إسرائيلية.
وأعرب وزير العدل الإسرائيلي جدعون ساعر، خلال مؤتمر علني عُقد أخيراً، عن معارضته الشديدة السماح بإعادة فتح القنصلية، حتى لو جاء ذلك بضغط من الإدارة الأميركية، موضحاً أنه تحدث مع رئيس الحكومة بينيت مرات عدة في تلك المسألة، مضيفاً أن "أحدهم قال إنه التزام انتخابي. لكن بالنسبة إلينا، إنه التزام جيل. لن نتنازل عن ذلك".
من جانبها، قالت الصحافية الإسرائيلية في صحيفة "يديعوت أحرنوت"، إيلي نيسان، إن "موقف إسرائيل الرافض للقرار، يأتي لأن وجهة نظر أي حكومة يرأسها الليكود بما فيها حكومة بينيت ولابيد، ترى أن إعادة فتح القنصلية هو موافقة عملية على تقسيم المدينة، وهو السبب ذاته الذي أحدث نقاشات كبيرة بين إسرائيل والولايات المتحدة".
وتحدثت وسائل إعلام أميركية ودولية عن "مذكّرة سياسية داخلية أعدتها الإدارة الجديدة تتمحور حول استئناف العلاقات مع القيادة الفلسطينية"، وهو ما قد يعني بحسب باحثين وخبراء، التنصل من نهج إدارة ترمب وعودة بايدن إلى نهج إدارة أوباما في كل ما يتعلق بالصراع الإسرائيلي - الفلسطيني ومركّباته.
ورأى الجنرال الإسرائيلي المتقاعد عاموس يادلين، رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، أن "الزمن الذي كانت واشنطن فيه تؤيد كل ما تفعله إسرائيل، وتفعل كل ما تريده إسرائيل انتهى". وقال في مقابلة أجراها مع صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، "إن الفجوة بين إسرائيل والولايات المتحدة اتسعت بشكل لا سابق له"، مؤكداً في الوقت ذاته، أن مجيء حكومة برئاسة بينيت -لبيد "يُمثل فرصة لترميم وإصلاح العلاقات مع الإدارة الأميركية والحزب الديمقراطي كما مع يهود الولايات المتحدة".
ولفتت ورقة "تقدير موقف" أعدّها المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية (متفيم)، إلى أن "السياسة الأميركية في عهد الإدارة الجديدة تتلخص، في هذه المرحلة، في إعلان التأييد لحل الدولتين وتجديد الالتزام به، إلى جانب تأكيد الرغبة في استئناف عملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية ومساعٍ فعلية، تجسدت في خطوات عملية، لترميم العلاقات مع القيادة الفلسطينية، في أعقاب الأزمة التي نشأت وتعمقت في عهد إدارة ترمب".
تخوفات فلسطينية
وعلى الرغم من تأكيد الإدارة الأميركية عَزمها إعادة فتح قنصليّتها في القدس، من دون أن تحدد موعداً لذلك، أعربت وزارة الخارجية الفسطينية عن خشيتها، من أن يكون الأمر عرضةً لابتزاز إسرائيلي. وقال وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي في تصريحات لإذاعة "صوت فلسطين" الرسمية، "يبدو أن هناك نوعاً من التنازل من قبل الإدارة الأميركية، وهي مستعدة لكي تدفع ثمناً". وأضاف "واضح تماماً أن الحكومة الإسرائيلية تبتز الإدارة الأميركية بشكل كبير. والإدارة الأميركية تخضع لمثل هذا الابتزاز، ومستعدةٌ لتدفع أثماناً مختلفة مقابله".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من أهميتها السياسية والمعنوية بالنسبة إلى الفلسطينيين، شكك الخبير في القانون الدولي علي أبو هلال، في أن يشكل افتتاح القنصلية الأميركية في القدس تغييراً جوهرياً في الموقف الأميركي المساند والداعم للحكومة الإسرائيلية بقوله إن "خطوة إعادة افتتاح القنصلية لا تنطوي على خطوات أميركية جدية للتدخل من أجل دفع مساعي التسوية السلمية، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وإعادة حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في الحرية والاستقلال، بل قد تجدد الأوهام بموقف أميركي لصالح القضية الفلسطينية، وهذا لم يتحقق بعد، على رغم انتظاره الطويل".
مهلة إضافية
بحسب تقارير إسرائيلية، فإن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، والحكومة الإسرائيلية، شكلا طاقماً مشتركاً لخوض "مفاوضات سرية" وحلّ الخلاف القائم بين الجانبين، حول إعادة فتح القنصلية، إذ أخطر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن نظيره الإسرائيلي يائير لابيد في شهر مايو (أيار) الماضي، بخطة بايدن لإعادة فتح القنصلية، ووافقت واشنطن لاحقاً على تأجيل هذه الخطوة إلى ما بعد تمرير الحكومة الجديدة الميزانية، من أجل منحها فرصة لتحقيق الاستقرار.
وطلب لابيد من بلينكن تأجيل اجتماع الفريق المشترك إلى ما بعد إقرار الميزانية، بحسب ما أفاد موقع "أكسيوس" الأميركي، على الرغم من أنه لم يكشف عن كيفية استجابة وزير الخارجية الأميركي لطلبه. وقال متحدث باسم لابيد لـ"تايمز أوف إسرائيل" إن "الفريق المشترك لم يتشكل بعد".
أما صحيفة "إسرائيل هيوم" الإسرائيلية فذكرت أن احتمال اتخاذ واشنطن إجراءات أحادية الجانب في شأن القنصلية الأميركية في القدس، من شأنه أن يتسبب بإحراج كبير للمسؤولين الإسرائيليين على وجه الخصوص، بعد أن فهم الأميركيون من لابيد أن هذه مسألة وقت وليست مسألة جوهرية، لذلك وافق الأميركيون على تأجيل افتتاح القنصلية إلى ما بعد إقرار موازنة الحكومة في الكنيست (البرلمان) لتمكين حكومة بينيت من تحقيق الاستقرار السياسي.
ووصف المدير العام السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، دوري غولد، إعادة فتح القنصلية في القدس بأنها "فاضحة". وقال "لا يمكن لإسرائيل أن تقبل التهديدات لسيادتها في القدس". وأشار إلى أن "افتتاح القنصلية لن يقوّض السيادة الإسرائيلية في القدس فحسب، بل سيؤدي أيضاً إلى انسحاب خطير من المكانة التي حققتها إسرائيل في غرب القدس قبل عام 1967".
ضرورة دبلوماسية
ومع تصاعد التوترات بمدينة القدس في الأسابيع التي سبقت الهجوم الإسرائيلي على غزة في مايو (أيار) الماضي، افتقرت الولايات المتحدة بشكل واضح إلى بعثة مستقلة تملك علاقات وثيقة مع الأطراف المعنية، ما أضعف قدرتها على تقديم تقارير شاملة إلى واشنطن، ما تسبب بتأخر البيت الأبيض حيال جهود المشاركة الرامية إلى وقف التصعيد. وهذا الإدراك وفق مراقبين فلسطينيين وإسرائيليين، وهو ما دفع البيت الأبيض إلى تسريع خطط إعادة فتح القنصلية.
ووجهت الولايات المتحدة أخيراً ما بدا أنه أقسى انتقاد علني لخطط إسرائيل توسيع المستوطنات في الضفة الغربية، منذ تولى الرئيس بايدن منصبه. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس "إننا نشعر بقلق عميق إزاء خطة الحكومة الإسرائيلية للدفع بآلاف الوحدات الاستيطانية يوم الأربعاء، والعديد منها في عمق الضفة الغربية"، مضيفاً "نحن نعارض بشدة توسيع المستوطنات الذي يتعارض تماماً مع جهود تخفيف التوترات واستعادة الهدوء. وهو ما يضر بآفاق حل الدولتين".
يُذكر أن القنصلية الأميركية بالقدس قبل إغلاقها، كانت تمثل الولايات المتحدة في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، وكانت منفصلة عن السفارة الأميركية في تل أبيب. وإضافة إلى إصدار التأشيرات، كانت تنفذ سلسلة واسعة من مشاريع التواصل مع الفلسطينيين في مختلف المجالات وبخاصة في التعليم والتجارة والمساعدات الإنمائية. مع إلغاء القنصلية عام 2019، أصبحت الولايات المتحدة من دون تمثيل دبلوماسي مع الفلسطينيين، الذين رفضوا بشدة التعامل مع السفير الأميركي في إسرائيل.