لطالما اشتهرت كردستان العراق الواقعة شمالاً بسحر طبيعتها الخلابة ذات الجبال والمساحات الخضراء والأراضي الخصبة والمناخ المعتدل، لكنها تواجه اليوم أكثر من أي وقت مضى مخاطر الجفاف، بفعل تداعيات تغير المناخ والاحتباس الحراري.
فعلى غرار دول المنطقة، يواجه الإقليم الكردي شبه المستقل عن بغداد هذه المخاطر متأثراً بتراجع ملحوظ في معدل تساقط الأمطار وانعكاسه على انخفاض غير مسبوق في منسوب مصادر المياه، وتقلص المساحات الخضراء.
وتشير البيانات الرسمية إلى أن معدل الأمطار انخفض إلى 600 ملم سنوياً، وهو الأقل بالمقارنة مع العقدين المنصرمين، إذ كانت تتراوح نسب الهطول بين 600 إلى أكثر من 1300 ملم سنوياً.
وتعتمد أربيل، عاصمة الإقليم وحدها لتأمين احتياجها من المياه الصالحة للشرب على الآبار الإرتوازية، بنسبة تفوق 65 في المئة، وأعلنت سلطاتها المحلية في يوليو (تموز) الماضي عن جفاف نحو 200 بئر، مع انخفاض مستوى المياه الجوفية إلى عمق 60 متراً كأقل تقدير.
انخفاض مخيف
وتؤكد بيانات مديرية الموارد المائية على حفر أكثر من 49 ألف بئر في عموم الإقليم، نصفها تقريباً غير مرخص قانوناً ومخالف للشروط، في وقت حذرت إدارة سدود الإقليم من انخفاض حاد وغير مسبوق في مناسيب المياه بالمقارنة مع العام الماضي، ففي نطاق السليمانية سجل سد دربنديخان انخفاضاً بلغ أكثر 7 من أمتار، وسد دوكان 8 أمتار، جراء شح الأمطار وقطع إيران لمياه نهر سيروان الذي يغذي سد دربنديخان بنحو 75 في المئة.
وحذر مدير منظمة "مياه كردستان" عبدالله بربيري من تبعات الانخفاض الحاد في مستوى المياه الجوفية "كان معدل الوصول للمياه لغاية عام 2000 يتطلب حفراً بعمق 30 إلى 50 متراً، لكن في العقدين الأخيرين يتطلب حفر ما بين 40 إلى 60 متراً أو أكثر"، مؤكداً "العمل مع لجنة برلمانية مختصة لإعداد مسودة مشروع قانون لإدارة وحماية المياه، إذ يفتقر الإقليم إلى قوانين كهذه منذ تأسيسه".
وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي أدى التراجع الحاد في منسوب سد دهوك لأكثر من النصف بالمقارنة مع العام الماضي إلى ظهور آثار قرية تعود لعام 1987. وللحد من التبعات دعت حكومة الإقليم المواطنين إلى أهمية الترشيد في استهلاك المياه، معلنة عن اتخاذ قرار بناء 9 سدود جديدة، وخصصت أكثر من 70 مليون دولار لإعادة إعمار السدود والمشاريع المتوقفة.
أسباب عالمية ومحلية
وفي طبيعة المسببات يرى الباحث في شؤون البيئة والمياه خالد سليمان أن الظاهرة كانت متوقعة وستتجه إلى الأسوأ إذا لم يتم وضع الحلول الناجعة للحد من آثارها المدمرة، وقال "وفقاً لدراسة أجرتها جامعة (أم آي تي) في الولايات المتحدة الأميركية عام 2020 وأخذت مقياس الهطول المطري بناء على الطبيعة الجغرافية عبر أساليب تكنولوجية حديثة، أظهرت أن منطقة الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، أو حوض بحر الأبيض المتوسط، خصوصاً جزءه الجنوبي، ستتعرض إلى تضاؤل شديد في الأمطار خلال العقود الثلاثة المقبلة، بين 40 إلى 60 في المئة، بسبب قلة غطائها النباتي، وقلة المصادر المائية المتجددة، والمياه العذبة فيها تكاد تكون 2 في المئة فقط من مجمل المياه العذبة في الكرة الأرضية، في حين أن نسبتها السكانية تفوق 6 في المئة، ما يشكل ضغطاً هائلاً على مصادر المياه، مع النمو السريع في الزيادة السكانية"، مبيناً أن "كردستان تدخل في قلب هذه المعادلة، لكون مناخها متوسطياً، بالمقارنة مع مناخي مناطق وسط وجنوب العراق المداري، وملامح التصحر تبدو ظاهرة، اليوم نحن على أبواب الشتاء ولم نشهد بعد سقوط الأمطار".
وعلى رغم تشريع قوانين واتخاذ إجراءات رادعة للحد من ظاهرة التجاوز على مصادر المياه، والقطع العشوائي للأشجار، إلا أن ذلك يفوق قدرات السلطات في السيطرة على مساحات شاسعة معظمها بعيدة عن مراكز المدن.
هدر وتجاوزات
ويؤكد مدير منظمة "مياه كردستان" على أن "تزايد ظاهرة حفر الآبار في الآونة الأخيرة مع شح الأمطار ينعكس سلباً على مستوى المياه الجوفية، فالأقليم مقسم على ثلاث مستويات من حيث مستوى الأمطار، لدينا منطقة (أ) وتسجل 150 ملم، ومنطقة (ب) تسجل 450 إلى 650 ملم، ونطاق (ج) الذي يسجل بين 650 إلى ألف ملم، وأي تناقص في الأمطار معناه انخفاض في مستوى المياه الجوفية والسطحية على حد سواء"، موضحاً أن "الأقليم سنوياً لديه 57.71 مليار متر مكعب من المياه السطحية والجوفية وباحتياط يقدر بنحو 20 إلى 25 ملياراً سنوياً، وهذا لا يلبي حاجته الفعلية التي تحتاج إلى نحو 20.5 مليار متر مكعب، ويتم استخدام 17 ألف مليار للأغراض الزراعية والصناعية، فيما تهدر ما نسبته 30 ملياراً من دون أن تُستغل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي حجم التجاوزات أوضح بربيري أنه "لغاية أواخر عام 2020، بلغ عدد الآبار في محافظة دهوك 1452 بئراً مخصصة لمياه الشرب، والآبار الزراعية 1891، و111 بئراً لأغراض الصناعة، فضلاً عن أكثر من 800 بئر غير رسمية مخالفة للضوابط، وقد تم تسجيل أكثر من 25 ألف بئر غير رسمية في عموم الإقليم على رغم فرض قوانين وعقوبات صارمة ضد المخالفين".
واعتبر النائب في برلمان الإقليم علي حمه صالح أزمة نقص مياه الشرب في المدن بأنها أكبر المخاطر التي تواجه سكان الإقليم، محذراً من "التزايد المطرد للمشاريع السكنية والمباني الشاهقة التي تعطي في ظاهرها جمالية وتخفي في جوفها كارثة مقبلة".
وكتب في منشور على "فيسبوك" متسائلاً إن "أغلب هذه المشاريع لا تشكو من قلة المياه، فالمياه الجوفية ملك عام، فهل مباح لكل شخص أن يحفر بئراً وبالعمق الذي يريد؟ أصحاب هذه المشاريع يبيعون هذه المياه تحت غطاء رسوم الخدمات ولا يدفعون قرشاً للحكومة"، وشدد على أن "حفر هذه الآبار يعد سبباً رئيساً لجفاف مئات الآبار والمياه الجوفية، إلى حد يتطلب اليوم حفر بئر بعمق 600 متر للوصول إلى المياه في بعض مناطق أربيل، والاستمرار في اتباع هذ الأسلوب لتأمين المياه سنكون أمام أكبر أزمة، وقد اقترحنا اللجوء إلى المياه السطحية وخصوصاً السدود".
وينطلق يوم الجمعة 29 أكتوبر (تشرين الأول) في أربيل مهرجان "مياه للمستقبل"، يهدف لرفع الوعي بشأن التحديات التي تواجه المياه والبيئة، ضمن مشروع الحوار من أجل السلام المستدام "هذا ماؤنا"، وهو برنامج تنفذه منظمة البرلمان - ثقافات الديمقراطية بتمويل من برنامج ifa zivik، في وزارة الخارجية الألمانية.
بناء عشوائي
وتسهم عمليات البناء والإعمار المخالفة للضوابط والقوانين في تفاقم أزمة المياه والتدهور البيئي، ويتفق خبراء المناخ على أن مسببات التدهور البيئي الناتج من العوامل الطبيعية لا يتعدى 13 في المئة، فالنسبة الأعظم المتبقية يتحملها النشاط البشري، وهو ما أكده سليمان، الذي قال "لا شك في أن تغيير المناخ أسبابه وآثاره عالمية، تتحملها الدول الصناعية الكبرى نتيجة لانبعاث الغازات، لكن في الوقت نفسه هناك مسؤولية محلية، ففي العراق بدلاً من إنعاش وحماية المناطق الحيوية بيئياً، تم تدميرها، مثل مناطق أهوار العراق التي كانت بمثابة الرئة، وفي كردستان التي تمتاز بامتلاكها لغطاء نباتي جيد، تتعرض إلى ضغط هائل، خصوصاً البناء العشوائي، ويمكن بسهولة ملاحظة عمليات تجريف لمناطق جبلية وقلع للأشجار، وحفر للآبار، وإهلاك المياه الجوفية، نتيجة للتوسع العمراني ليس بسبب أزمة في السكن وإنما طفرة أو ظاهرة قيام الميسورين بتشييد مزارع للترفيه الشخصي غير مجدية اقتصادياً وبيئياً، على حساب النظام البيئي".
منطقة "سيتك" الواقعة خلف جبل أزمر بمحافظة السليمانية في قلب منطقة "شاربازير" يطرحها سليمان كمثال قائلاً "كانت غنية بتنوعها الاحيائي والمياه، اليوم تحولت إلى بيوت ومزارع شخصية لغايات المتعة والرفاهية وليست ضرورات سكنية، واليوم تعاني من شحة في المياه، على رغم حفر الآبار".
وبحسب مدير السياحة في محافظة حلبجة غريب محمد فإن "القطاع السياحي يواجه الخسائر مع تراجع عدد السياح بنحو 50 في المئة جراء الجفاف، باستثناء ثلاثة وجهات سياحية فإن بقية المواقع تواجه تراجعاً لافتاً في تدفق السياح".
وفي مركز قضاء شقلاوة، شمال شرقي أربيل، التي كانت تعد واحدة من أشهر الوجهات السياحية نتيجة لكثرة بساتينها ووقوعها بين جبلين، باتت مهددة بفقدان هويتها السياحية والزراعية، وفي هذا الإطار يقول الحاج أحمد خوشناو، أحد المزارعين القدامى، إن أغلب منابع المياه التي اعتمد المزارعون عليها في عملية الري وحتى لأغراض الشرب قد جفت، نتيجة شح الأمطار، وكذلك حفر سلسلة من الآبار على سفح جبل سفين على مدى العقدين الماضيين"، لافتاً إلى أن "المساحات الخضراء تتقلص تدريجاً مقابل تزايد في النمو السكاني والعمراني، واليوم لا نحصل على مياه الأسالة للأغراض المنزلية سوى ثلاث إلى أربع ساعات في اليوم، فكيف يمكن تأمين المياه للبساتين".
ومع الإعلان عن انخفاض منسوب نهري دجلة والفرات إلى أقل من النصف، واعتبار عامي 2020 و 2021 الأكثر جفافاً خلال العقود الأربعة المنصرمة، سارعت الحكومة العراقية في الشهر الماضي إلى إجراء مباحثات مع الجارتين تركيا وإيران حول حصص البلاد المائية التي تقلصت بنسب غير مسبوقة نتيجة تشييد الدولتين عشرات السدود في مسار الأنهر داخل أراضيها، ما أدى إلى انخفاض حصة العراق المائية القادمة من تركيا إلى أقل من النصف، فيما يتم تحميل إيران مسؤولية تجفيف خمسة أنهر.
خطط هشة
وتنعكس ظاهرة الفساد التي تعاني منها البلاد على وضع وتنفيذ برامج ومشاريع استراتيجية للحد من آثار التصحر، في هذا الإطار يشير سليمان إلى "سوء في إدارة المصادر الطبيعية المتجددة، والفساد يدخل في قلب معادلة التدهور البيئي، وتحسينه يتم في النهاية من خلال قرار سياسي وتشريع قوانين فعالة عبر استراتيجية بعيدة المدى، والتي بدورها في النهاية تخلق ثقافة عامة في المجتمع الذي تنحصر مطالبه واهتماماته اليوم بالخدمات، في حين أن البيئة هي مسألة وجودية"، وحذر من أن "مخاطر نقص المياه ستؤثر في نشاط تأمين الغذاء، وستتولد صراعات سواء محلية أو دولية، وتهدد السلم الهش القائم، وشاهدنا كيف حصلت نزاعات عشائرية مسلحة في مدينة الناصرية على مياه الري".
وانتقد سليمان الأداء الحكومي في وضع الخطط والحلول الكفيلة للحد من ظاهرة الجفاف، وقال إن "عملية بناء السدود لا تتم وفق دراسة علمية ذات جدوى وفق استراتيجية بعيدة المدى، اليوم حتى السدود التقليدية لم تعد مفيدة نتيجة الارتفاع الشديد في درجات الحرارة، بالتالي تتبخر كميات هائلة من المياه، ما يتوجب إيجاد أساليب حديثة كبناء أحواض مائية صغيرة قريبة من السكان، كما أن الإقليم اليوم يحتاج لإعادة العمل بمشروع سد بخمة المعطل، للحد من التداعيات المستقبلية"، لافتاً إلى أن "الجهود التوعوية والإعلامية في مجال الترشيد لا ترقى إلى مستوى الأزمة، فخلال تجوالي في عدد من المناطق تبدو الصورة محزنة بعمق".