تظل تونس من بين الدول العربية، وفي حوض البحر الأبيض المتوسط، السبّاقة في مجال الطاقات المتجددة، بتركيزها أول محطة لإنتاج الكهرباء انطلاقاً من الطاقة الشمسية منذ عام 1981.
وتعد تونس أيضاً من أولى الدول المنخرطة في برنامج المخطط الشمسي المتوسطي الرامي إلى تطوير الطاقات النظيفة والمنتجة للكهرباء، وأقرت لذلك ترسانة من القوانين والإجراءات الرامية إلى تسريع نسق توظيف طاقة الشمس والرياح لإنتاج الكهرباء، في ظل قرب نضوب حقولها النفطية وتجنب تداعيات الارتفاع المتواصل لسعر برميل النفط، ما يعمق اختلال موازنتها مثلما هو حاصل، خصوصاً في موازنة 2021.
وبحسب إجماع المتخصصين، فإن قانون سنة 2015 يعد منعطفاً هاماً في مجال إنتاج الكهرباء، انطلاقاً من الطاقات المتجددة بالسماح للقطاع الخاص بتركيز محطات للغرض وبيع الإنتاج إلى الشركة التونسية للكهرباء والغاز (حكومية)، ما يعد وفق المتابعين بداية خصخصة إنتاج الكهرباء في تونس الذي يظل حكراً على الشركة الحكومية.
ورسمت تونس لنفسها هدفاً يتمثل في إنتاج 30 في المئة من الكهرباء من الطاقات المتجددة في أفق عام 2030، ولكن هذا الهدف وقبل تسع سنوات من بلوغه، يبدو أنه لم يتحقق.
توقف المشاريع
المشهد العام المقبل خصوصاً من محطات إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية في عدد من محافظات الجنوب التونسي، يعد صادماً بإنهاء أشغال إنجاز عدد من المحطات، لكنها ظلت على حالها ولم يتم ربطها بشبكة الكهرباء.
ووفق المعطيات التي حصلت عليها "اندبندنت عربية"، فإن المحطة الكهربائية في محافظة تطاوين (جنوب شرقي تونس) التي أنجزتها المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية بالتعاون مع شركة "إيني" الإيطالية للمحروقات، وتقدر تكلفة إنجازها بقيمة 10.7 مليون دولار، جاهزة منذ أكثر من عام، ولم تدخل حيز الاستغلال.
ومن المفروض أن توفر هذه المحطة، ذات سعة 10 ميغاواط، الكهرباء لنحو 7 آلاف عائلة تونسية ستستغني عن الحصول عن الكهرباء من الشركة الحكومية.
محطة أخرى في محافظة قابس (جنوب شرقي تونس) بتكلفة إنجاز قدرت قيمتها بنحو مليون دولار جاهزة منذ نحو العام، لكنها لا تشتغل ولم يقع ربطها بالشبكة الرئيسة.
إلى ذلك، لا يزال عديد من المشاريع التي أنجزها الخواص في تونس معطلة أو حتى المشاريع في طور الإنجاز مهددة بالتوقف.
صراع نقابي - حكومي
لاستجلاء السبب الحقيقي وراء توقف المشاريع الجديدة لإنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة كان "لدينا لقاء مع منجي خليفة كاتب عام مساعد نقابة الكهرباء والغاز باتحاد الشغل (المركزية النقابية القوية في تونس)، الذي لخص الإشكال في صراع نقابي مع الحكومات المتعاقبة.
وبانفعال شديد، اتهم المسؤول النقابي عدداً من رؤساء الحكومات والمسؤولين السابقين بالتواطؤ في تمييز المشاريع الجديدة في الطاقات المتجددة على حساب الوضعية المالية المتدهورة لشركة الكهرباء والغاز.
وأكد أن النقابة ليست ضد إنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة، بل بالعكس، فإن هناك تشجيعاً لهذه التقنية النظيفة وذات المردودية المالية الهامة، والتي تخفف من عبء تكلفة إنتاج الكهرباء، ولكنه أبرز أن القوانين المنظمة لهذا المجال تعد مجحفة وجائرة في حق شركة الكهرباء والغاز التونسية.
وشدد على أن القانون 12 لسنة 2015 المتعلق بإنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة وأوامره الترتيبية، يعد في نظر المتحدث "جائراً"، وفيه هضم لحق الشركة الحكومية ولم يُراعِ وضعيتها.
وانتقد بشدة هذا القانون الذي منح للمستثمرين الخواص إنتاج الكهرباء عبر الطاقات المتجددة (أساساً الطاقة الشمسية)، وحصر شركة الكهرباء بأن تكون هي المشتري الوحيد مع إعطائها حصة بـ380 ميغاواط لإنتاجها من الطاقات المتجددة، منها 80 ميغاواط تم إيجاد ممول أجنبي ممثل في بنك الماني وافق على تقديم الدعم المالي لإنتاج هذه الكمية في محافظة قبلي (الجنوب الغربي للبلاد)، لكنه اتهم وزيراً في تلك الفترة بتعطيل المشروع، وفق روايته.
وقال إن شركة الكهرباء والغاز تعد رائدة في مجال إنتاج الطاقات من خلال تجربة انطلقت سنة 1981، وهي حالياً توفر نحو 3 في المئة من الإنتاج الإجمالي من الكهرباء من الطاقة الشمسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فصل "خطير"
وكشف المسؤول النقابي عن أن قانون إنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة تضمن فصلاً وصفه بـ"الخطير جداً" على مستقبل الشركة الحكومية، وهو الفصل التاسع الذي مكن "الجماعات المحلية (البلديات) والشركات الحكومية والخاصة والناشطة في قطاعات الصناعة والفلاحة والخدمات من إنتاج الكهرباء بصفة منفردة لغرض الاستهلاك الذاتي. وتتمتع هذه الهياكل بحق نقل الكهرباء على الشبكة الوطنية للكهرباء وحق بيع الفوائض إلى الهيكل العمومي، أي شركة الكهرباء الحكومية".
واعتبر منجي خليفة أن نقابة الكهرباء ثارت ثائرتها عند سن هذا الفصل، بكونه يهدد كيان الشركة العليلة والباحثة عن توازناتها المالية، مضيفاً أن قانون تحفيز الاستثمار المتخذ في عام 2019 شكل القطرة التي أفاضت الكأس بما أنه أجاز للمستثمرين الخواص نقل الكهرباء المتأتية من الطاقات المتجددة عبر شبكة الستاغ بأثمان زهيدة جداً في حدود 7 مليمات عن كل كيلوواط.
تخوف من خصخصة إنتاج الكهرباء
وعبر عن خشيته من إمكانية التخطيط لخصخصة تدريجية لإنتاج الكهرباء في تونس وفسح المجال لاحقاً للخواص ببيع الكهرباء إلى المواطنين، محذراً من أن الخواص قد يصلون إلى قطع الكهرباء عن العملاء في حال عدم دفع مستحقات الاستهلاك.
وتم للغرض تنظيم هيئة إدارية لنقابة الكهرباء والغاز في 20 مارس (آذار) 2020، واتخاذ قرار بعدم ربط إنتاج محطات الطاقات المتجددة بشبكة الكهرباء في تونس، رداً على ممارسات الحكومات المتعاقبة التي لم تفكر في مصلحة الشركة الحكومية، وجرها إلى تفاوض جدي والجلوس إلى طاولة المفاوضات بشأن الملف.
وأكد أن الوضعية المالية للشركة الحكومية في ضائقة مالية كبيرة ومهددة بالإفلاس.
وختم حديثه بالقول، "نحن في انتظار عقد جلسة مع الوزيرة الجديدة للصناعة والطاقة في الحكومة المعينة حديثاً لإيجاد حل نهائي يرضي الأطراف كافة".
الطاقات المتجددة ضرورة وليست خياراً
وتفاعلاً مع تصريحات المسؤول النقابي أكد بلحسن شيبوب، مدير عام الكهرباء والانتقال الطاقي في وزارة الصناعة والطاقة والمناجم التونسية، أنه تم منذ 2013 إرساء الاستراتيجية الوطنية للطاقة عبر العمل على التقليص من العجز التجاري الطاقي الأولي (غاز ونفط) الذي وصل سنة 2020 إلى 57 في المئة.
وعلى مستوى الغاز، فإن العجز يعد أعلى، إذ وصل إلى زهاء 65 في المئة في 2019، وأن المنوال الطاقي التونسي المرتكز على الغاز لإنتاج الكهرباء وصل إلى حده، لافتاً إلى أن 97 في المئة من إنتاج الكهرباء في تونس يعتمد على الغاز الطبيعي.
ولأجل ذلك، تم إعداد استراتيجية وطنية منذ 2013 أفضت إلى أن هامش التحرك لتونس لم يعد كبيراً، وأن الحل الأمثل هو إدماج 30 في المئة من الطاقات المتجددة لإنتاج الكهرباء في أفق سنة 2030، عبر إنجاز مخطط شمسي يرمي إلى حسن توظيف الإمكانات والطاقات التي تزخر بها تونس على غرار الإشعاع الشمسي الذي يصل إلى 300 يوم في السنة.
وتبعاً لذلك، تم سن قانون في 2015 لإنتاج الكهرباء انطلاقاً من الطاقات المتجددة، تم خلاله تحديد 3 أنظمة لإنتاج الكهرباء من تلك الطاقات في تونس.
شركة الكهرباء الحكومية لن تتأثر
واعتبر المسؤول الحكومي أن شركة الكهرباء لن تتأثر من اقتنائها إنتاج الكهرباء من الطاقات الشمسية، إذ إن كل كيلوواط ساعة تحصل عليه من الطاقات المتجددة سيعوضها بكمية هامة من الغاز الطبيعي المستورد.
ويتمثل ربح الشركة في أن الكيلوواط المتحصل عليه من الطاقات المتجددة ستكون تكلفته أقل ثمناً من الكيلوواط المنتج عبر الغاز الطبيعي المورد، إلى جانب أن سعر كيلوواط ساعة غاز طبيعي في 2019 بلغ 200 مليم، وأن معدل إنتاج كيلوواط ساعة من الطاقات المتجددة 80 مليماً، أي 120 مليماً ربحاً لها، وأن مجموع الربح قد يصل إلى نحو 45 مليون دولار سنوياً.
وشدد على أن اليوم، وفي صورة عدم إنجاز مختلف برامج إنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة، فإنه بداية من سنة 2025 قد تجد تونس نفسها في وضعية صعبة جداً لإنتاج الكهرباء انطلاقاً من الطاقة الأولية (الغاز الطبيعي) وإمكانية تسجيل انقطاعات متكررة للتيار الكهربائي.
وخلص إلى أن إنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة لم يعد خياراً، بل حتمية قصوى أمام تواضع الإمكانات المادية لشركة الكهرباء لاقتناء أسعار النفط والغاز بالأسعار العالمية، التي تشهد تذبذباً متواصلاً وجب على تونس تحصين نفسها طاقياً.